رجال التبديلات.. ورجال التجميلات
2021-05-25
عبدالله بشارة
عبدالله بشارة

من يغيّر العالم ومن يهزّه؟ ليس ذلك الامتياز محصوراً الآن بالأبنية أو برجال الجيش والسياسة، تبدل العالم من ابتكارات العلماء ومن عبقرية المكتشفين، وفي بعض الحالات من نزعة المغامرين، في الجغرافيا والطب والعلم والإبداع مع تصاعد غريزة البحث، التي رافقت الثورة الصناعية الأوروبية، لكن العالم سواء في الماضي القديم أو في هذا الزمن اعتمد على توازن معادلة الحياة، بين عطاء رجال التبديلات وحماس رجال التجميلات، فإذا كانت منصات الإبداع هادئة بصوت خافت، فإن مواقع التجميلات عالية النبرة بصوت يتسيده الحماس، وغالباً ما نتابع تلك الأصوات التجميلية داخل هيئات تضم الحكومات التي تدير هذا العالم المترامي الأطراف، ويمكن لي القول ان أكبر محطات التجميلات في العالم تتواجد في مدينة نيويورك، وبالذات داخل مبنى الأمم المتحدة، حيث قضيت عشر سنوات، أستمع وأشارك أيضاً في مولد التجميلات الذي لا يتوقف، في القاعة الكبرى، وفي اللجان المختلفة، وفي جلسات المفاوضات غير الرسمية، فالكل يسرد فضائل بلده ويثني على حكمته ويشيد بسياسته، ويمدح نوايا زعمائه السليمة، ويعزز ذلك بالولاء لمبادئ الأمم المتحدة والوفاء بالتزاماتها، والتغني بإسهام هذا الوطن في صلابتها وديمومتها ونجاحها..

الجميع يمارس هذا الموال بأنغام متباينة ويتفنن في التحكم بأوتاره، فالموسيقى داخل المبنى هي مفردات في البلاغة ومسابقات للفوز في استخراج الرنة الشاعرية والأعذب من تعبيراتها، وفي قاعة مجلس الأمن، حيث تتواجد الغلاظة في المواجهات، تنحسر هذه الغنائيات عن تمجيد الأوطان، ويسعى الآخرون – من أعضاء المجلس – في كشف المستور في سوء سلوك الدول، التي تتباهى في التزاماتها بميثاق الأمم المتحدة، لكن ذلك لا يعني ضمان قدرة مجلس الأمن على إصدار إدانة أو توبيخ.

ففي الجمعية العامة مفاخرات وفي مجلس الأمن بين تبرمات ومظلوميات.

هناك مسافة واسعة في الاختلاف بين المحاسبات والعقوبات والإدانات التي يتحكم فيها مجلس الأمن وبين البيانات التجميلة التي تصدر من قاعات الجمعية العامة التي قراراتها توصيات لها بعد سياسي أدبي لا يمس المصالح ولا يصيب سمعة الدول.

ومن يتأمل النظام البنيوي للأمم المتحدة، يقف باستغراب عند الفجوة الضخمة بين هيئة التغييرات وهيئة التبديلات ممثلة في مجلس الأمن، بين أطقم التجميلات التي تحتل القاعات الأخرى، ليس الحديث هنا عن الهوة الواسعة في سطوة مجلس النبلاء ممثلاً في الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وبين مجلس السفراء في الجمعية العامة، والهوة هنا ليست فقط في الصلاحيات وفي قدرات النبلاء على التغيير والتبديل في خريطة العالم، وإنما في نغمة الأبهة المنتشية بالقدرة على التغيير، فضلاً عن لهجة المفردات وصراحة الكلمات، كل ذلك يصدر من سلة خطب فاترة للكبار الدائمين.

تركت هيئة الأمم المتحدة عام 1981، متنقلاً إلى المملكة العربية السعودية، لتأسيس مجلس التعاون، كانت اثنتا عشرة سنة مختلفة عن الماضي، كنت في الرياض متنقلاً بين مختلف المدن وبين العواصم الخليجية، انسجمت مع أجواء البلد وحميمية أهله، وتعايشت مع نظامه الاجتماعي، وتابعت دبلوماسيته، وكان لدينا نحن ــ المتواجدين في الرياض، ومن غير أهلها، ومن السفارات العربية والأجنبية ومن رجال الصحافة الزائرين ــ قناعة بأن المملكة لا تملك صداً أو مقاومة لإملاءات التغيير والتبديل القادمة، معتمدين في ذلك على حجم الانفتاح التعليمي والثقافي واتساع التواجد السعودي الرسمي في المنظمات العالمية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الرياضية.

كانت المملكة عضواً في إدارة صندوق النقد الدولي، وفي برامج التنمية العالمية، ومساهماً جوهرياً في إدارة التمويل المالي، والسيد المتحكم في دبلوماسية النفط والطاقة العالمية، والقيادة في مسار الطاقة التجارية والمالية، وأهم من ذلك كله هو الوعي الراسخ للقيادة السعودية في منصة الاعتدال الدبلوماسي، وفي أهمية التوازن بين حق المنتجين وحق المستهلكين، بالالتزام بعدم تجاوز الاعتدال في الأسعار لكي لا يصاب الاقتصاد العالمي بالنكسات، مع صون حقوق المنتجين عبر حوارات عمقت ثقة المستهلكين الكبار، برجاحة الخيار السعودي المدرك لضرورات الحفاظ على الاستثنائية الاستراتيجية التي تملكها المملكة ودول مجلس التعاون في السلم العالمي والازدهار الاقتصادي وفي السكينة الحياتية لسكان المعمورة، مع انسجام تام في القيام بالدور الذي يتوقعه العالم من المملكة لصون هذا التعاون الأمني الاستراتيجي.

ومن هذه الديناميكية التي حملت المملكة إلى مقعد تشارك فيه الدول الصناعية المتقدمة في ضبط مسار العالم سياسياً واقتصادياً وربما حياتيا، جاءت حتمية التغيير والتبديل، ومع مبايعة الملك سلمان بن عبدالعزيز ملكاً وخادماً للحرمين، دشنت المملكة العربية السعودية فصلاً جديداً أدخلها في رحاب واسعة هي في حقيقتها رحاب الدولة السعودية الرابعة.

كنت أستمع إلى المقابلة الواسعة مع الأمير محمد بن سلمان ولي العهد في المملكة عن آفاق المستقبل، وأتابع قراراته الحاسمة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، وفي اجتثاث الفساد وجرأته غير العادية في التصفية التي أشرف عليها، والتي أخرت تسخير المملكة لمواهب المبدعين السعوديين في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصناعية وفي الفنون، وفي الاندفاع الواسع الذي أظهر شهية المملكة للتكنولوجيا وللاقتباس من كل ما هو مفيد في مسارات العلم والتكنولوجيا، وفي صقل المواهب عبر حيوية الحوار مع مختلف الثقافات.

ومثل غيري من أبناء هذا البلد، نتساءل عن المسببات التي تجعل بلدنا يأخذ خطوة أمامية ويتوقف ثم يتراجع، في جو تتسيده التساؤلات عن غياب الحيوية وانسداد قنوات الحوارات في الأفكار والاجتهادات التي منها يتولد الملائم والمناسب، ومنها يتعرف المواطن على خطة المستقبل، فمن دون حوارات ومن دون الأحاديث المعلنة مع الرأي العام تتضخم الاجتهادات وتكثر الإشاعات ويعلو صوت حاملي النوايا السيئة وتزدهر مصانع القيل والقال.

كان الأمل أن تبدأ الكويت في خطة التخصيص المتدرج الذي يفجر الطاقات والابداعات عندما ينفتح الفضاء وتأخذ الدولة القرار الاقتصادي الاستراتيجي، وتظهر العزم على التخلص من الشحوم واللحوم في جسد القطاع العام، فمن المؤكد أن غريزة التجارة التي كان لها الدور الأكبر في حياة الكويت قبل النفط، ستنفجر عندما تعود الحوافز في البيئة المناسبة.

وآخر فقرات هذا المقال أتطرق إلى ما أشار إليه رئيس مجلس الأمة السيد مرزوق الغانم، وفق ما جاء في صحيفة الجريدة في عددها يوم الثلاثاء 18 مايو 2021، بأن المجلس سيعقد جلسة في الأسبوع القادم (يعني هذا الأسبوع) لبحث الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة واستعجال اللجنة التشريعية للانتهاء من مشروع مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني.

منذ عام 2002 عندما تبنت قمة بيروت العربية مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي طرح حلاً ممكناً لمعادلة الأرض مقابل السلام، والكويت تؤكد التزامها بذلك القرار الذي رفضته اسرائيل، لكنه يظل متمتعاً بالدعم العالمي، ويشكل الصيغة الوحيدة التي تلتقي عليها المواقف، وأصبحت هذه المبادرة المرجعية التي تدوي في الأمم المتحدة وفي المحافل الدولية، ونحن نتحدث عن رجاحة الفكر وسلامة المنطق، فالدبلوماسية الكويتية مارست عملها منذ 1961 عربياً أو عالمياً، ومن دون قيود مع الحفاظ على السقف الممكن دون اختراق، ومنها كسبت خبرة وحققت نجاحاً مؤثراً وتفاعلت مع ما يطرح حول مختلف القضايا بكل ثقة، وجاءت بقوتها من ثنائية الدعم البرلماني ــ الحكومي، وبتفاهم وانسجام..

من أقوال العرب قديماً «سلامة الضعيف في حكمته».

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • ندوة النفط.. في لندن
  • متاعب الكويت في دروب السياسة
  • صوت الصين.. في بحر الخليج





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي