عودة ترمب والانشقاق الأميركي الداخلي
2021-09-19
إميل أمين
إميل أمين

لماذا يعلو الحديثُ عن عودة الرئيس الأمريكي السابق مرّةً أخرى في الداخل الأمريكي هذه الأيّام؟

المؤكَّد أنّ الأمر ليس له علاقة بمزاعم سَيّد البيت الأبيض السابق عن تزوير الانتخابات الرئاسِيّة الأمريكِيّة الأخيرة في 2020، وإن ظلَّ مناديًا بحقيقة ما جرى من وجهة نظره، فقد جاءت عدة استطلاعات للرأي في الأسبوعَيْن الماضيَيْن لتشير إلى أنّ الشارع الأمريكي لا يزال يرى في ترامب رئيسًا وقائدًا قادرًا على السير بالبلاد إلى مآلات أفضل بكثير مِمّا نحا إليها الرئيس الحاليّ جو بايدن.

ولعلّه من المفيد وقبل الغوص في عمق الأزمة الداخلِيّة التي أصابت وتصيب يومًا تلو الآخر النسيجَ المجتمعيّ الأمريكيّ الإشارة إلى أنّ هناك نحو 74 مليون أمريكيّ لديهم قناعة كبرى بأنّ ترامب قد تعرَّض لمؤامرة كبرى من قِبَل الدولة الأمريكِيّة العميقة، تلك التي رفضته كونه قادمًا من خارج المؤسسة السياسيّة الحزبيّة الأمريكِيّة، كان الهدفُ منها إقصاءه بعيدًا وعدم السماح له بالبقاء في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى قادمة، ومنعًا لتسلّل أيّ دخيل من خارج ما يُعرَف بـ"الاستبلشمنت السياسِيّة"، أي النخبة السياسيّة والحزبيّة التقليديّة، تلك التي بات غالبِيّة الأمريكيّين ينظرون لها نظرةً غير إيجابيّة.

في الفترة ما بين 30 أغسطس و1 سبتمبر، سُئِل الناخبون عن المرشَّح المُفضَّل لهم للرئاسة، وذلك عبر استطلاعٍ للرأي أجرَتْه مؤسّسة "إيمرسون كوليج"، وكانت المفاجأة أن حَصَلَ ترامب على 47% من الأصوات مقابل 46% لبايدن.

وبتحليل أدقّ، أشار 67% من الناخبين الجمهوريّين إلى أنّهم سيُصوّتون لترامب في الانتخابات التمهيدِيّة لو جرى ترشيحُه هذه الأيّام.

تعني الأرقامُ المتقدّمة أنّ حالة الانقسام في الداخل الأمريكيّ تزداد، وأنّ وعود الرئيس الحاليّ الخاصّة بجمع شمل الأمريكيّين مرّةً ثانية على وحدة الكلمة أمرٌ لم يحدث، وأغلب الظنّ أنه لن يتحقّقَ في القريب العاجل.

هنا يبدو المشهد الأمريكِيّ محتقنًا لا سِيّما بعد محاولات أنصار ترامب اقتحام الكونجرس الأمريكيّ والخسائر الأدبيّة والمعنويّة التي حاقت بالأفق الديمقراطِيّ الداخلِيّ في البلاد. والزائر لواشنطن حتّى الساعة يستطيع أن يلمح مسحةً من الانكسار المعنويّ إن جاز التعبير في وجوه الشعب الأمريكيّ، والذي أصابتْه تلك الهجمات في قناعاته بأنّه نموذج الديمقراطِيّة اليوتوبيّ حول العالم.

ولعلّ من أخطر المشاهد التي أدّت إلى تراجع شعبِيّة الرئيس الحاليّ بايدن، مشهد الانسحاب الأمريكيّ الفوضويّ والمرتبك من أفغانستان، ذاك الذي اعتبره هنري كيسنجر أكبر انتكاسة ذاتِيّة يصيب بها الأمريكيّون أنفسهم، فقد تعرّضوا لانتكاسة قاتلة بحسب الحسابات الاستراتيجيّة العسكريّة، ذلك أنّه حين تفرّ جيوشُ القطب الأوحد القائم بمقدّرات العالم، أمام جماعات ميليشياويّة منبتّة الصلة بالقرن الحادي والعشرين ولم تبارح القرن الثاني عشر أو الثالث عشر على أفضل تقدير، تكون الهيمنة الإمبراطوريّة الأمريكِيّة قد تعَرّضت بالفعل لقصور ذاتيّ قاتل أدّى إلى بداية زمن الأفول الإمبراطورِيّ الذي يتحدّث به المؤرّخون من عند إدوارد غيبون وصولاً إلى نيل فيرجسون.

هذا المشهد تسَبّبَ بطريق مباشر في صدمة عقليّة ونفسيّة للشعب الأمريكيّ، وفتح الطريق واسعًا أمام الجماعة الانعزالِيّة الساعية لعودة واشنطن لتتمترس وراء المحيطَيْن، وتنفّض يدَيْها من هموم العالم الخارجيّ وإشكالِيّاته. وبمعنى أكثر مباشرةً ألّا تضحي واشنطن شرطيَّ العالم أو دَرَكه دفعة واحدة.

أحد أفضل العقول الأمريكِيّة التي توقّفت عند لحظة الانكسار الأمريكيّ التي أعقبت الانسحاب الأمريكيّ من أفغانستان والتي تركت وستترك تأثيرًا سلبيًّا على بايدن في قادم الأيّام، فرانسيس فوكاياما، عالم الاجتماع السياسيّ، رجل نهاية التاريخ قبل أن يرتدّ تائبًا عن مصادرته لحركة الحياة ومفاعيل الطبيعة منذ خلق الله الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فوكاياما في مقال مطوَّل له عبر الإيكونوميست، يرى أن هذا الانسحاب قد عزَّزَ الشرخ الحادث في الهوِيّة الأمريكِيّة والذي ترَسَّخ في العقدَيْن الماضيَيْن لأسباب الهوِيّة والطبقِيّة. وفي تحليله يؤكّد على أنّ الانقسام سيمضي عميقًا إن لم تبادر النخبة السياسيّة إلى معالجة الأمر بشكل جذريّ.

السؤال الحيويّ والمثير: هل الداخلُ الأمريكِيّ مهيَّأٌ لمثل هكذا عمليّة تصالحيّة وتسامحِيّة داخليّة؟

المتابع لزاوية مهمّة وهي زاوية التطرّف والتشدّد اليمينيّ، يمكنه أن يستشعر خوفًا كبيرًا من التدابير التي تقوم عليها الجماعاتُ ذات الميول المتطرّفة، ومؤخّرًا هاجمت المباحث الاتّحاديّة الأمريكيّة عددًا منها وضبطت مخازن للسلاح.

هذا التوجّه ربّما يفتح الطريق لما هو أشد هولاً، أي حديث التفكّك الأمريكيّ من الداخل، ما يعني بداية نهاية الاتّحاد الفيدراليّ الذي يجمع الولايات الأمريكيّة المختلفة، وهو أمر تَحَسَّبَ له عددٌ من كبار المفكّرين، منهم أمريكيّون ومنهم عالم الاجتماع النرويجيّ الشهير، يوهان غالتون، والذي يرى أنّ عام 2025 قد يكون آخر عهد الولايات المتّحدة بفكرتها التي قامت عليها منذ زمن التأسيس أي الاتّحاد بين الولايات.

جاء الانسحاب من أفغانستان ليُوجِّه لطمةً قاسية للديمقراطيّين كحزب، قبل أن تصيب الأزمةُ الرئيسَ بايدن نفسَه، وبخاصّة في ظلّ بدايات الاستعداد لانتخابات التجديد النصفيّ للكونجرس. وهناك من الداخل الأمريكِيّ من يرى أن أخطاء إدارة بايدن سواءٌ على صعيد الأزمة الأفغانِيّة من جهة، أو سوء إدارتها للملفّ الإيرانيّ الذي يتلاعب به الملالي في مواجهة ضعف واضح وفاضح لإدارة بايدن، يمكن أن يصيب الديمقراطيّين في مقتل، ما يعني إمكانِيّة فقدانهم لأغلبِيّة مجلس النوّاب، حيث هم الأكثريّة الآن. وبالقدر نفسه سوف تتصاعد فرصُ سيطرتهم من جديد على مجلس الشيوخ، وساعتها تبقى قضيّة عودة الجمهوريّين إلى البيت الأبيض تحصيلَ حاصل.

في الأجواء المضطربة، هناك من يتركّن إلى إشكالِيّة الحالة الصحيّة للرئيس بايدن ومدى قدرته على إكمال ولايته الرئاسِيّة الأولى، الأمر الذي يُهدّد حضورَه كرئيس صاحب رؤية استشرافِيّة للبلاد ولأزماتها العضوِيّة سواءٌ في الداخل الأمريكِيّ أو في الخارج، هناك حيث الكثير من مربعات نفوذ القُوّة تفقدها واشنطن لصالح موسكو وبكين بنوع خاصٍّ.

هنا تبدو مسألة عودة ترامب للترشّح للرئاسة الأمريكِيّة أمرًا يكاد يكون شبه محسوب ومحسوم، رغم أنّ الوقتَ مبكّرٌ، كما أنّ ترامب لم يعلنْ رسميًّا عن الأمر، لكنّ جميع مستشاريه المُقرَّبين قد أكّدوا أنّه حَسَمَ أمره بالفعل، لكنّه لن يعلن القرار إلا بعد انتخابات التجديد النصفيّ للكونجرس المُقرَّرة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

لم تكن القناة الإخبارِيّة الأمريكِيّة الأولى "سي. إن. إن" بعيدة عن قصّة عودة ترمب؛ فقد نشرت تقريرًا قبل أسبوعَيْن جاء تحت عنوان "بنسبة 99% إلى 100% سوف يترشّح دونالد ترامب للرئاسة.

فرص ترمب تعضّدها أرقام أخرى تُظهِر قَدْر الأزمة العضويّة في الشبكة الاجتماعيّة الأمريكيّة، فعلى سبيل المثال وبحسب استطلاع معهد ماريست للرأي العامّ، انخفض القبولُ الشعبيّ لأداء جو بايدن بنسبة 6% ليصل إلى 43% بنهاية أغسطس الماضي نتيجةً لفضيحة الهروب الكارثيّ للولايات المتّحدة الأمريكِيّة من أفغانستان.

وفي الوقت نفسه، ارتفع عددُ الأمريكيّين ممّن لم يوافقوا على أداء الرئيس خلال شهر واحد من 44% ليبلغ 51% في الوقت الذي لا يوافق فيه 56% من الذين تمَّ استطلاع رأيهم على سياسته الخارجِيّة، رغم حقيقة أنّ غالبِيّة الأمريكِيّين بشكل عامّ كانوا يؤيّدون مغادرة أفغانستان، فيما ارتفعت نسبةُ الغاضبين من جو بايدن في أغسطس من 30% إلى 41%.

هل الداخل الأمريكيّ مرشَّح لمزيد من القلاقل؟ حتمًا المشهد سيظلّ موصولاً بالعديد من المتغيّرات الخارجيّة، ربّما في مقدّمها تطوّرات المشهد في أفغانستان وتوجّهات طالبان وتبعات الحرب الأمريكية على الإرهاب والكثير من العوامل التي تجعل أمريكا قلقةً وحائرة إلى حين إشعار آخر.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • أميركا: انتخابات الرئاسة وحديث البدائل
  • بايدن مأزق للديمقراطيين أم لأميركا؟
  • متلازمة التعاسة.. بعيدًا عن السياسة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي