عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة
2021-09-20
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

جاء الرئيس بوتفليقة رحمه الله، بضجيج كبير رافعا لواء المصالحة الوطنية وتوقيف الحرب الأهلية، والتقليل من هيمنة شبح السلطة العميقة، وهو ما فعله في العهدتين القانونيتين، الأولى والثانية (عشر سنوات)، ومات في صمت كبير، وعزلة تذكر بأبطال ماركيز العسكريين.

عشرون سنة من الحكم. عشريتان. العشرية الأولى أوقف فيها الحرب الأهلية حقيقة، حتى ولو كان ثمن ذلك غاليا بالنسبة لضحايا الإرهاب، الذين كزوا على أسنانهم وقبلوا بحل يضمن على الأقل السلام للبلاد.

أنجز جزءا مهما وحيويا من البنية التحيتية للبلاد التي لم يمسسها تغير جوهري منذ الرئيس المرحوم هواري بومدين. الطريق السريع شرق-غرب الذي كان يبدو كاستحالة، عشرات الجامعات حتى المناطق الصحراوية النائية، تجديد المطارات وتحديثها، عشرات السودود التي خففت كثيرا من وطأة الماء، وغيرها.

لكن هل تسير الدولة دون تغيير في بنياتها السياسية ودمقرطة الحياة العامة واحترام القوانين؟ لنقل أنه كان أكثر رؤساء الجزائر خبرة سياسية ودهاء وثقافة، ابن النظام بامتياز، لكن للأسف لم ينفعله ذلك في شيء.

 كان يظن أن تأصيل البنية التحيتية كاف، ونسي بسرعة أن البنية التحتية، في ظل الفساد المالي، خلق طبقة من المستعاشين على حساب جودة المرافق المنجزة، ومال الدولة حتى أصبحت هذه المجموعة من المرابين ورجال المال الفاسد، قوة تشبه المافيا، دون أن يتعكس ذلك استثماريا على البلاد لأن المال الوطني كان يهرب بالملايير خارج البلاد.

كانت المجموعة تأخذ شرعيتها من رئيس أول تدمير لصورته التي دخل بها كرجل دولة، القيام بفعل مضاد لثقافته السياسية بكسره للدستور وتدميره بكثرة الاستشارت، وتحويله إلى كومة أوراق لا قيمة فعلية لها.

منذ تلك اللحظة بدأت عملية الانحدار نحو جهنم الذي دام حوالي العشر سنوات أخرى لم يكن فيها هو الحاكم الفعلي ولكن مافيا وجدت فيه الحاضنة الحامية لتمرير مشاريعها المالية والسياسية.

وكان وقتها الوحيد الأوحد في النظام القادر على توقيف السيستم الذي هلك البلاد منذ الاستقلال، والدخول في زمن آخر أكثر جدية وصرامة وقانونية وديمقراطية، ووطنية حقيقية، للأسف ذلك لم يحدث، التمركز الذاتي حول النفس لم يسمح له بالخروج من الشرنقة التي خيطت حوله برضاه.

فقد بدأ العهدة الثالثة باختراق دستوري فادح، وكان بإمكانه أن يحول الدستور إلى وثيقة حقيقة ويعلن من خلالها عن الجمهورية الثانية ويغادر تاركا للجزائر مشروعا عظيما في الحكامة والسلطة.

ذهب في الطريق المختصر. السبب بسيط. تكونت مافيا مالية في حاضنته وكان عليها أن تدافع عن وجودها الحيوي، وكان من الصعب عليها التخلي عن السلطة حتى ولو اضطرها الأمر الدوس على قانون البلاد.

كانت تعرف أن اية سلطة ستأتي ستجرها نحو المحاكم والسجون بسبب فداحة الفساد المالي وتخريب البلاد بمشاريع بدأ فسادها يظهر حتى قبل استلامها.

خسر موعد الشبه بلينكولن، ولا لميتيران، كاسترو، لومومبا، ولا حتى لجمال عبد الناصر. الانهيار الصحي عجل في الكشف عن الكوارث التي أخفتها العصابة التي أصبحت تحكم البلاد بالوكالة. فتحول الرئيس بوتفليقة إلى مجرد واجهة.

 وأصبحت المجموعات المالية الناهبة واضحة في المشهدية السياسية وتلح بأن "الرئيس بخير" ويتلقى التكريمات بينما الرجل يسير على عربة لا يستطيع الكلام وحتى الصراخ، غير واع بكل ما كان يدور من حوله مع استهتار مفجع بشعب الأربعين مليون نسمة. شعب صبور حقا عوض ماساة الحكم بالنكتة.

ووصل الانحطاط أدنى الدرجات حتى الحراك، الذي أسقطه من أجل بناء الجمهورية الثانية. ليستمر النظام بنفس الممارسات ونفس المستعاشين بل أحيانا بنفس الأشخاص، بعضهم كان متخفيا ظهر للعلن. وماتت فكرة الجمهورية الثانية، النظام يريد أن يستمر حتى ولو كان ذلك على حساب البلاد نفسهان ووحدتها. 

لكن هل يمكن لحراك أن يستمر بلا قيادة وبلا رأس؟ وهل يمكن لجمهورية ثانية أن تبنى بلا قيادة ثقافية وفكرية سلطة متنورة، في ظل نظام عدوه رقم واحد هو المثقف؟ تلك قصة أخرى.

النظام بلا رحمة حتى مع أبنائه الذين بناهم على مدار السنوات المتلاحقة.

وها هو موت رئيس جمهورية حكم عشرين سنة يمر، كأنه لا حدث. لا قرآن كريم كما جرت العادة؟ ولا برامج خاصة؟ ولا حديث عن مراسم الدفن؟ هل سيدفن في مقبرة عادية على مشارف تلمسان أو ندرومة، أم في مقبرة العالية حيث يجتمع رؤساء البلاد كلهم؟

احترام رئيس في موته هو جزء من احترام الدولة لنفسها. هل يمكننا اليوم أن نعلن عن موت الدولة وتحولها إلى مجرد سلطة حاكمة تمارس قوتها خارج كل القوانين والضوابط القانونية والأعراف؟ 

 

  • روائي جزائري

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس

 



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • كوابيس السَّجينة في «يوميات روز» لريم الكمالي





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي