الوثائقي «العراق: تدمير أمّة» للفرنسي جون بيير كانيه: مأساة تكشف تفاصيل أكبر عملية إبادة ضد شعب مسالم

2021-04-04

ليث عبد الأمير*

عرض التلفزيون الفرنسي في 31 يناير/ كانون الثاني فيلماً وثائقياً جديدا، ليس كباقي الأفلام؛ أربع حلقات تلفزيونية «العراق: تدمير أمّة» Irak destruction d’une Nation إنتاج فرنسي بتوقيع المخرج جون بيير كانيه، وقد حقّق مشاهداتٍ عاليةً، فاقت المليوني مشاهد، واهتماماً صحافيا وإعلاميا ودبلوماسيا، خاصة وقد سبق بثّهُ إعلان عنه وترقّب كبير.
والفيلم سياسي جُلّ مادته مُستقاة من مصادر بحث غاية في التنوع. فقد أسس الفيلم حكايته بناءً على مقابلات مختلفة لشخصيات سياسية رئيسية وفاعلة في تاريخ العراق المعاصر، مع خليط غير متجانس من عراقيين اختيروا بعناية، إضافة إلى استعماله وثائق كانت تُعتبر إلى حين قريب غاية في السرية. ويعتبر إخراجها بمستوى حجم الكارثة.

تراجيديا يومية:

أربع حلقات رصدت أحداثاً عصفت بالعراق، وغيّرت وجه العالم. الفيلم أقرب إلى حكاية تراجيدية، أو دراما، بل هو مأساة عصرية من الواقع اليومي وبلغته، أبدعها المخرج الفرنسي جون بيير كانيه. وفي مقابلة معه على محطة «فرانس 24» للناطقين باللغة الفرنسية تحدّث المخرج الذي أمضى ثلاث سنوات لإخراج فيلمه قائلاً: «أردت للفيلم أن يشرح كيف وصلت «داعش» إلى ما كانت عليه سابقاً ؟ وكيف ساعد غزو أمريكا للعراق عام 2003 على إنتاج هذا التنظيم الإرهابي، الأكثر تطرفاً ودموية في تاريخ الحركات الإسلامية المتطرفة؟ وقد تابع الفرنسيون أنفسهم حلقات الفيلم باهتمام شديد، لم يكن متوقعاً، بسبب التبعات النفسية لجائحة فيروس كورونا والحجر الصحّي، إضافة إلى أربعين عاماً من تاريخ العراق المُعاصر، حَجبَت الكثير من الأحداث، ولم يعد يهتم المشاهد الغربي، بل حتى العربي، بهذا الماضي الحزين. أزاح الفيلم إذن رماد السنين المتراكم، وألهبَ جمر الذكريات المؤلمة، خاصة عند العراقيين ممن عاصر تراجيديا تلك المرحلة يوماً بيوم وساعة بساعة. وأشعل من جديد آلاماً طواها النسيان وتركها في عُش خزائنه.

الضحايا:

تقول جملة الفيلم الاستهلالية «إنّ أوّل إرهابي قرر أن يفجر نفسه في ملعب فرنسا لكرة القدم، في المباراة التي جمعت الفريق الفرنسي والألماني في الـ13 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013 كان عراقياً وهو عمر السبعاوي». وهنا يتساءل المعلّق، عن الأسباب التي قادت هذا الشاب ذا الثامنة عشرة عاماً والعديد من أبناء وطنه ليكونوا ضحايا عصابات تنظيم «داعش» الإرهابي؟ يوصلنا مثل هذا الطرح إلى حقيقة أخرى لا يبوح بها الفيلم صراحة وهي: أن الإرهاب الذي ضرب فرنسا له مسببات أمريكية وأوروبية ويجب علينا متابعة أحداث الفيلم لنكتشف مَن المسؤول عن ذلك.

شهادات حيّة:

اللافت هو، الجهد المبذول سينمائياً في تقصّي الأحداث والوقائع حسب الشهود وأصحاب الشأن، ومن مصادر سياسية أو عسكرية ومخابراتية متنوعة؛ شخصيات عراقية ودولية من تلك الحقبة وعلى مدى أربعين سنة. شملت الشهادات شخصيات مثلَ وزير الدفاع الفرنسي جون بيير شوفنمو (1988-1991) وآلان شووية عميل وكالة الاستخبارات الفرنسية في العراق، ورولان ديما وزير الخارجية الفرنسية (1986-1984) والعقيد الملازم، ضابط المخابرات في سلاح الطيران الأمريكي ريك فرانكونا، ووكيل وزارة الدفاع الأمريكية دوغلاس فيث، الكابتن الطيار روبرت فيلوة وهو مَن درّب الطيارين العراقيين على القاذفات الفرنسية سوبر أتوندار Super- Etendard، وتاجر مصلاوي عراقي محمد زكي، ومقداد السبعاوي شيخ عشيرة السبعاويين، ومحمد مكية كاتب عراقي منفي، إضافة إلى موظفين سابقين من منسقي الأمم المتحدة في العراق.
يوصلنا تتبع خيط المقابلات لكلِّ هؤلاء على اختلاف مشاربهم، وبما عندهم من شهادات أو اعترافات إلى حقيقة واحدة وهي: كيف تمّ وبحرفية عالية تدمير أمّة وتجويع شعب، عقاباً له على بقاء الديكتاتور صدام حسين على هرم السلطة؟ ويذكر المخرج في تصريح له بأنّ العراقيين دفعوا ثمنَ جنون «ديكتاتورهم» في حرب الخليج التي نقلت العراق إلى القرون الوسطى.

كأنها شجرة عيد الميلاد:

فرزَ الفيلم أيضاً مساحة مهمة لدور الإعلام في سياسة التدمير المبرمجة، حسب جملة لطيار شارك في أعمال القصف الجوي يقول فيها «إنّ القصفَ هو أكبر عملية ألعاب نارية في كلَّ ما شاهدته في حياتي» ويُزيد مذيع فرنسي آخر على هذا التعليق الذي تجاوز على آلام العراقيين ومعاناتهم من جراء القصف قائلاً «بغداد كانت مُبهجة كشجرة عيد الميلاد»! أمّا الجنرال الذي قاد عمليات القصف الجوي على العراق فيعترف بـ»أنّ التغطية الإعلامية كانت مُتقنة». سواء أكانت إبادة جماعية حسب شهادة موظف الأمم المتحدة أم بربرية، كما يقول جون بيير شوفنمو، فإن الفيلم يفضح أشكال الكذب الممنهج وخيانات الدول الكبرى، في تورطها الكامل في أكبر عملية إبادة حديثة ضد شعب مسالم، وذلك بفضل التوظيف المتقن لمقابلات الفيلم، والغوص في ملفات وثائق مكتبة البنتاغون في واشنطن. يقول المخرج والناقد الفرنسي فرانسوا تروفو في حديثه عن المخرج أورسون ويلز: «مصادر السيرَ الذاتية أهم من السيرَ الذاتية نفسها» فعملية الاستقصاء واستخراج المصادر الغنية في صناعة الأفلام الوثائقية، نقطة مركزية استفاد منها فيلم «العراق ـ تدمير امّة» ووظّفها ببراعة.

مشهد من الفيلم

سياسة فرنسية جديدة:

إن هذا النوع السينمائي من الأفلام سياسي، يخدم أهدافاً مرتبطة بسياسات دول كبرى تملك بيدها مفاتيح اللعبة، وربما ساهمت جهات فرنسية بدعمه، بطريقة غير مباشرة، ترويجاً لتوجّهات جديدة في السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط، فمن مصلحة فرنسا أن تَتميّز عن السياسة الأمريكية، وتنأى بنفسها راهناً من تبعات حرب الخليج والحصار الاقتصادي ضد العراق.
مهما قلنا عن الفيلم يبقى هنالك سؤال لا بدّ من طرحه وهو، كيف تمكن المخرج من الوصول إلى المخابئ السرية، واستخراج تلك الوثائق التي بقيت إلى وقت طويل محفوظة بسرية كاملة؟ ربما الإجابة على هذا السؤال تكمن ببساطة في حرفية جون بيير، وهو صحافي فرنسي معروف وخبير في قضايا الشرق الأوسط، وهكذا استفاد من تجربته الصحافية في تقصي الحقائق والوصول إلى الأماكن المظلمة، علاوة على دعم واحدة من أهم القنوات الفرنسية له هي القناة الخامسة)، ما ساعد المخرج في نبش تلك الوثائق التي بقيت إلى وقت طويل محفوظة بسرية كاملة في خزائن محكمة الغلق، وتحقيق المقابلات. ونعتقد، أيًّا كانت أساليب الوصول إلى المعلومات (وهي أساسية في أي فيلم من أفلام التحقيقات الصحافية)، يندرج الفيلم تحت وصف أفلام البروبوغاندا، التي ازدهرت في ثلاثينيات القرن العشرين. استطاع الفيلم بواسطة عمليات الاستقراء الصحافية، من تحقيق نظرة تقويمية إلى التاريخ، الهدف منها إعادة تقييم السياسة الأمريكية في العراق، في الحقبة الصدامية، ومنذ بداية الصراع الأمريكي – العراقي في أواخر سبعينيات القرن المنصرم ما ساعد على تغيير الصورة النمطية السابقة لدى المُشاهد الأوروبي. تكمن خصائص الفيلم الوثائقي في قدرته على الغور بعيدا في الواقع وكشف الحقائق بلغة بسيطة، دون مؤثرات بصرية ولا تزويقيه، فالفيلم الوثائقي له جمالياته السينمائية الخاصة به، والمختلفة عن الفيلم الدرامي، وعليه، فعندما تأتي الحكاية الفيلمية صادقة وكاشفة لخبايا الواقع وبلغته، فإنّها تحمل عناصر جمالية، لا تملكها أية تقنية هوليوودية مهما عظمَ شأنها.
وهذه ملاحظة جديرة بالاهتمام تخص صنّاع الأفلام الشرق أوسطيين، الذين يجرون خلف المؤثرات البصرية الحديثة، بحثاً عن عناصر تشويقية، وتقنيات تمنح أفلامهم عناصر إثارة تقتل موضوع الفيلم، عوض أن تمنحه تأشيرة عبور إلى قلب المُشاهد.
فلمْ يكن فِيلم والتر روتمان «برلين سيمفونية» (1927) غير نوتات بصرية عزفت على أوتارها مشاهد من الحياة اليومية لبرلين، من دون مؤثرات بصرية، وليس فيلم روبرت فلاهيرتي «نانوك الشمال» (1922) سوى صور بسيطة من الواقع القصيّ لسيبيريا، وهكذا بقي هذان الفيلمان وغيرهما من أفلام الواقع التي انتجتها السينما في بداياتها خالدة إلى يومنا هذا، لأنّ الصدق في الأفلام الوثائقية يعتبر البوصلة التي تقود صناع الأفلام إلى قلب المُشاهد.

الأسلوب الدرامي:

يدفعنا الفيلم «تدمير أمّة» على الصعيد النقدي، إلى طرح سؤال الشكل وأهميته في الأفلام الوثائقية، وهو موضوع ما زالت الدراسات السينمائية تفرد له صفحات كثيرة، حيث يشكّل الموضوع عنصراً أساسياً من عناصر البناء في الفيلم الوثائقي (أي الموضوع = الشكل) في الأهمية، بل وينافسه في الصدارة، وذلك لما يحويه (الموضوع) من دراما إنسانية يمكن للمُخرج توظيفها من أجل خلق عناصر الإثارة وصدم المُشاهد. وفي ما يخصّ فيلم «العراق ـ تدمير أمّة» حقّق الموضوع هدفه وجاء كوثيقة عالية الأهمية وكصورة فنيّة مبهرة. وهنا نقول لمن يبحث عن مصادر الجمال في الأفلام الوثائقية بأنّ لا جمال يفوق جمال الحقيقة.

*مخرج سينمائي عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي