شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

خطاب الوعظ في المقامة الصنعانية للحريري: من النصح والإرشاد إلى الاحتيال والخداع

2021-05-16

أحمد بنعيسى*

تُعد المقامة الصنعانية أول مقامة استهل بها الحريري مقاماته بعد الافتتاحية، ويرجِع سبب ذلك إلى أن صنعاء أول بلدة صنعت بعد الطوفان. أما الإطار النوعي لهذه المقامة فيرتبط بالخطاب الوعظي، لكن هذا لا يلغي كون النص مقامة، كما تفصح عن ذلك بعض الثوابت الأجناسية التي تميزه، كحضور الراوي الذي هو الحارث بن همام، والبطل المكدي المتمثل في أبي زيد السروجي، وهما شخصيتان متخيلتان على غرار عيسى بن هشام وأبي الفتح الإسكندري في مقامات الهمذاني، وقد أشار الحريري إلى ذلك في افتتاحية مؤلفه التي يقول فيها: «وبعد، فإنه قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه، وخبت مصابيحه، ذكر المقامات التي ابتدعها بديع الزمان، وعلامة همذان، رحمه الله تعإلى، وعزا إلى أبي الفتح الإسكندري نشأتها، وإلى عيسى بن هشام روايتها، وكلاهما مجهول لا يعرف، ونكرة لا تتعرف».

يكشف هذا القول أن الحريري كان واعيا بخصوصية هذا الجنس الأدبي، لذلك لما اعتزم كتابة مقاماته سار على نهج الهمذاني، فجعل لمقاماته راويا، وبطلا، غير معروفين تاريخيا، هما الحارث بن همام البصري، وأبو زيد السروجي، وفي ذلك يقول: «وأنشأت على ما أعانيه… خمسين مقامة، تحتوي على جد القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله… مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي، وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصري»..

قلنا في البداية إن الإطار النوعي الذي تندرج ضمنه المقامة الصنعانية هو الخطاب الوعظي، وهنا نتساءل: ما مميزات الخطاب الوعظي؟ وما الذي يجعل نصا ما وعظيا ولا يجعله مناظرة وسجالا؟ ينماز الخطاب الوعظي – في علاقته بالمتلقي – بكونه خطابا عاطفيا، يتوسل بإثارة مشاعر المتلقي ونوازعه الانفعالية، ليتمثل مقتضيات الخطاب، وهو خطاب يعمل وفق ثنائية الترغيب والترهيب، يرغب في الآخرة ويرهب من عذابها، ويسعى من وراء ذلك إلى جعل المتلقي مقبلا على العبادة، زاهدا في الدنيا، وممتنعا عن اجتراح الشر والركون للذات والشهوات. إذا كان الأمر هكذا، فما الذي يجعل «المقامة الصنعاية» نصا ملتبسا بهذا النوع من الخطابات؟ وما سبب إدراجنا لها ضمن هذا الإطار النوعي بالذات؟

وضع الحارث بن همام نصب عينيه ـ وهو يجوب مدينة صنعاء، فقيرا معدما ـ هدفين هما: البحث عن رجل كريم يسد حاجته ويلبي رغبته في الأكل، أو أديب، يلبي حاجته الماسة إلى الأدب، فكان ذلك حاله، وهو يجول جولان الحائم أحياء صنعاء، إلى أن وقع على «ناد رحيب، محتو على زحام ونحيب». يجعلنا هذا الملفوظ على قصر حجمه، نتنبأ جزئيا بنوع النص، فهو أولا، يصف لنا الفضاء، وهو «ناد» وهذا النادي يشغله «زحام» وهذا الزحام يصدر عنه «نحيب» وإذا نظرنا في أنواع الخطابات التي تنتج في فضاءات شبيهة، يزدحم فيها الناس، نجد أنواعا منها: المناظرة، والخطابات السياسية، والمناقضات الشعرية… لكن هذه الأنواع، لا يصدر عنها فعل «النحيب» الذي ينجم في العادة عن الخطاب الوعظي، إذ البكاء في الوعظ نتيجة حتمية لفعل التأثر بمقتضيات الموعظة.

وعلى هذا الأساس، فإن الملفوظ اللغوي الواصف للنادي الذي اهتدى إليه الحارث بن همام، يجعلنا نستبعد انتماء النص لأحد هذه الأنواع الخطابية، وندرجه ضمن الخطاب الوعظي، الذي يتخذ من إثارة النوازع الانفعالية في نفس المتلقي استراتيجية أساسية.

وهذا ما يتأكد لنا من خلال متابعة القراءة، فالنادي المحتوي على زحام ونحيب، يضم «شخصا شخت الخلقة، عليه أهبة السياحة، وله رنة السياحة، وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه». إن الكلمة الأخيرة من هذا النص، كلمة فاصلة في تصنيف نص المقامة الصنعانية في نوع الخطاب الوعظي، فالنص بهذا الأساس صنف نفسه بنفسه.

لكن هل يكفي العثور في النص على كلمة «وعظ» لنصنفه في نوع الوعظ؟ وهل يكفي قولنا: «فالنص بهذا الأساس، صنف نفسه بنفسه» ليكون خطابا وعظيا بالفعل؟ الإجابة واضحة، لا يكفي ذلك، بل لا بد من سبر أغوار النص، والبحث عن خصائصه للوصول إلى بنائه الداخلي الكلي.

 سلف سابقا، أن الخطاب الوعظي يقوم على ثنائية الترغيب والترهيب، لكن هذا لا يعني، حضورهما معا بشكل دائم في الخطاب الوعظي، فقد يُكتفى في هذا النوع بطرف واحد من طرفي هذه الثنائية، في ما يظل الطرف الآخر مضمراً أو حاضرا في صورة الغائب، فكلمة الترهيب، تستحضر المقابل الغائب دوما المتمثل في كلمة الترغيب، والعكس صحيح دائما.

 وهذا ما نلمسه بوضوح في المقامة الصنعانية، حيث اكتفى أبو الزيد السروجي بترهيب المستمع من عذاب الله، وتحذيره من العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن عصيانه لأمره. ولعل أمثل ملفوظ يحيل إلى ذلك قول الحارث بن همام واصفا أبا زيد السروجي/الخطيب: «يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه» حيث تعد كلمة «زواجر» بمثابة المفتاح الواصف لنوع الخطاب، فالترهيب استراتيجية عاطفية، تتوسل بألفاظ قوية تحدث رجة في المخاطب، لذلك فهي زواجر.

في مقام الترهيب، يقوم الوعظ على تراتبية واضحة بين الخطيب والمتلقي، فالواعظ في خطاب الوعظ ينسل من الصفات التي يكيلها لمخاطبه، فعندما يتوجه الخطيب/أبو زيد السروجي بهذا الملفوظ: «أيها السادر في غلوائه، السادل في ثوب خيلائه، الجامح في جهالاته، الجانج إلى خزعبلاته، إلام تستمر على غيك، وتستمرئ مرعى بغيك» تتشكل في الأذهان صورتان متضادتان تلقائيا: صورة المتلقي المخطئ، وصورة الخطيب المتموضع في موقف مناقض لذلك تماما، فإذا كان المتلقي سادرا في غلوائه، (والسادر هو الغافل الذي لا يبالي بما يصنع) فإن الخطيب، على العكس من ذلك، فطن حذر، يقيم للعواقب حسبانها، و إذا كان المتلقي جامحا في جهالاته، فالخطيب معتدل لا يتجاوز حدود الله، وإذا كان المتلقي جانحا إلى خزعبلاته، فالخطيب جانح إلى الجد من الأمر والعمل الصالح.

 

فالوعظ في المقامة الصنعانية بكل خصائصه حضر ليلبي هذه الرغبة لدى أبي زيد السروجي. بعبارة أخرى، الوعظ هنا لم يحضر بوصفه وسيلة لزجر المتلقين عن الغفلة، وإنما حضر بوصفه وسيلة خداعٍ لجلب المال، وصنارة لاصطياد المتأثرين بخطابه الوعظي.

ومن هنا، يمكن أن نستنتج أن الخطاب الوعظي في المقامة الصنعانية، يتوسل إضافة إلى استراتيجية الباطوس، باستراتيجية الإيطوس، لكن هذا الإيطوس الذي يكفل للخطيب صورة الإنسان الكامل، يحضر لخدمة استراتيجية الباطوس، فوجوده في النهاية لا هدف له سوى تقديم نموذجين من الناس، نموذج غارق إلى أذنيه في المعاصي، ونموذج نقي صاف طاهر يكاد يطير خفة، وإذا كان المتلقي يعكس النموذج الأول، فالخطيب يعكس النموذج الثاني، وعن طريق تقديم هذين النموذجين يتحقق غرض الترهيب، حيث يرجع المتلقي باللائمة على نفسه، شاعرا بالذنب والخوف وعدم الأمان، وبالتالي نصل إلى النتيجة التي تتوخاها تقنية الترهيب في خطاب الوعظ، وهي الزجر، أي الكف عن عمل الشر.

غير أن المقامة في نهاية المطاف ليست وعظا، كما أنها ليست خطابا هدفه الإصلاح، لذلك نجد خطاب الوعظ في المقامة ينحرف عن هدفه العام، فأبو زيد السروجي، لم يكن يتوخى من المتلقين إثارة عاطفتهم للإقبال على عمل الخير والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، لكنه توخى إثارة عاطفتهم واستجلاب دمعهم لهدف آخر، لحملهم على إدخال أيديهم في جيوبهم وإجزال العطاء له، فالوعظ في المقامة الصنعانية بكل خصائصه حضر ليلبي هذه الرغبة لدى أبي زيد السروجي. بعبارة أخرى، الوعظ هنا لم يحضر بوصفه وسيلة لزجر المتلقين عن الغفلة، وإنما حضر بوصفه وسيلة خداعٍ لجلب المال، وصنارة لاصطياد المتأثرين بخطابه الوعظي، فعندما أنكر عليه الحارث بن همام، رد بوقاحة سافرة: «صيرت وعظي أحبولة أريغ القنيص بها والقنيصة».

فأبو زيد السروجي كان واضحا بخصوص هذا الشأن. الشيء الذي أحدث صدمة لدى الحارث بن همام عندما اكتشف خدعة أبي زيد السروجي، تماما كما أحدثها لنا بصفتنا متلقين للمقامة، فأدرك أن الصورة التي بناها أبو زيد لنفسه صورة زائفة استغلها للاحتيال على المستمع وخداعه، ونتيجة لهذا الإدراك تجاهل دعوته للأكل، ومال إلى تلميذه يسأله عنه، فلما عرفه، انصرف من حيث أتى وقضى العجب مما رأى.

نخلص مما سبق إلى أن المقامة الصنعانية، رغم تلبسها بالخطاب الوعظي ظاهريا – حيث سعى فيها أبو زيد السروجي إلى إثارة النوازع الانفعالية في ذات المتلقي، وترهيبه من عذاب الله – إلا أن الوعظ فيها انحرف عن قصيدته العامة، المتمثلة في حمل المتلقي على الإقبال على الآخرة والزهد في الدنيا، إلى مجرد حيلة في يد أبي زيد السروجي، يخدع بها متلقيه من أجل الحصول المال، أي إن الوعظ لا يحضر في المقامة إلا بوصفه وسيلة للكدية والاحتيال، على نحو ما هو واضح بجلاء في قول أبي زيد:

وصيرت وعظي أحبولة أريغ القنيص بها والقنيصة

 

  • كاتب مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي