نيّةٌ بالذهاب إلى "عيدٍ" آخر

2021-05-17

"عاصمتي"، نبيل العناني (2014)

سائد نجم*

بعد أن فتّشوا حقائبنا، وأوقفونا على أكثر من حاجز عسكري بين الأزقّة القديمة، للسؤال عن "التصريح" تارةً، وأُخرى  للاطمئنان من أنّنا لسنا يهوداً، ضلّوا طريقهم بالاتجاه إلى الأقصى. أذكر وقتها كم ضحكنا حين استنطقَنا ضابطٌ "إسرائيلي" ليتأكّد من ذلك، وضحكنا أكثر حين استنطقَنا أحد حُرّاس الأقصى بعد دخولنا باب الأسباط.

كان الأسبوع الأخير من شهر رمضان فرصةً ذهبية للوصول إلى القُدس والمبيت في الباحات. ما زلنا نذكر قبل سبعة أعوام كيف بدت تلك الأيام، خاصّةً ليلة عيد الفِطر. أعلن المؤذّن عبر المُكبّرات حلول العيد، وتلوّنت زاوية السماء بالمفرقعات. حينها، وقف مقدسيٌ مُسِن بعد صلاة العِشاء يهتف في النّاس: "فلنُحيِ سُنّةً أغفلها كثيرون، ولنطُف في أزقّة وأسواق القدس القديمة، نحتفل بالعيد".

التحقنا والموكبُ يموج بهجةً، تدفّقنا من باب السلسلة، التصق المستعمِرون المُسَلَّحون بآلات استعمارهم بالحائط، خوفاً من هُتافنا نحن أهل المكان. لقد كانوا خائفين، نعم، قرأنا هذا في أعينهم ووجوههم المخطوفة، وفي هروبهم من المداخل وعلى أطراف الطريق، حتّى إنّ بعضهم عُجِن بيننا. الحقيقة أنه لم يسبق أن شعرنا بِعيدٍ قبل هذا، لقد كان نصراً.

سهرنا تلك الليلة حتى مطلع الفجر ونحن نضحك، وكان لافتاً وجودُ كثيرٍ من السودانيين، كانوا يتجنّبون الاحتكاك بأيّ شخص منّا، وكُنّا نتفهّم الأمر على نَحْوِ أنّ وجودَهم "غير شرعي" - بتوصيف الاحتلال - وبالتالي قد يُكلّف تواصلهم معنا الاعتقال أو الترحيل الفوري، علماً أنّ عبد الفتّاح البُرهان لم يكن قد تولّى حينها رئاسة المجلس السيادي السوداني الذي طبّع علاقاته مع "إسرائيل"، لكنّ حكومة الاحتلال كانت تستغل السواعد السمراء "الرخيصة" في العمل، لذا تغاضت عن وجودهم فترة من الزمن.

في اليوم التالي، جلستُ في ساحة المُصلَّى المرواني ووجهي لـِ "الصخرة"، أراقب الشمس تُصافح القُبّة المُذهّبة. كان للتكبيرات مذاقٌ مختلف، صلّينا العيد، وفي طريق عودتنا خارج السُّور، أفطرنا على كعك القُدس والشاي بالميرمية عند باب العامود، وركبنا الحافلة. كانت عيوني لا تُفارق القُبّة الذهبية التي تطلّ من خلف السّور. وفي استذكار اللحظة، يُباغتني صَوْتُ صديقنا الشاعر في قصيدته "قُدْس": "عندما أُغادِرُكِ أَتَحَجَّر/ وعندما أَعود إليكِ أَتَحَجَّر".

عُدنا قبل عدّة أشهر إلى القدس، وكانت كُلّ التفاصيل مُتحجّرة. استرقنا الوقت أنا وشقيقي للذهاب إلى الأقصى، في يومٍ كان يتملّكنا فيه الخوفُ والقلقُ والأعصاب المُحترقة على صحّة والدنا الذي كان يرقد في مستشفى المقاصد، وكان التفتيش والتدقيق مُكثّفاً أكثر من ذي قبل. وكانت الأجواء العامة مُتوتّرة ومشحونة بوباء "كورونا"، وجولة لشخصيات "عربية" في القدس، وقّعتْ صكّ التطبيع مع العدو وزارتْ يافا، المدينة التي شُرّدنا منها ولا نستيطع زيارتها.

مع نهاية شهر رمضان هذا العام، أُشعِل التلفاز برُوحٍ مُنطفئة. هناك تشديد على ذهابِ "أهل الضفّة" إلى القدس. أشاهدُ خطاباً لرئيس السُلطة يُمدّد بقاءه، يقول: "لا انتخابات بدون القُدْس". أُقاطعه مُغلقاً التلفاز وأحذف بـِ"الريموت" جانباً. أتصفّح الهاتف، وتنهمر مقاطع الفيديو لمقدسيّين يخوضون حربهم وحيدين في الشارع، يُسحَلون ويُعتقَلون عند باب العامود، وكذلك يهبّون ويركلون عساكر الاحتلال.

صوتُ الشاعر ذاته، مستطرداً: "فليذهب إِلى الجحيم مُبَجِّلوكِ، بائعو تَذكاراتِ أَلَمِكِ".

تختلط عليّ المشاعر وفق الفيديو الذي يَحضُر، فأفرح وأضيق ذرعاً في اللحظة ذاتها، وتتجدّد الأخبار في تدفقها عبر الشاشة؛ هذه المرّة عن بَدْء سلطات الاحتلال بتنفيذ مخططاتها لإخلاء منازل 58 عائلة مقدسية في حيّ الشيخ جرّاح.

أرمي الهاتف وقد انتصف الليل، وتُساورني نيّةٌ بالذهاب إلى "عيدٍ" آخر، عيد انتظرناه طويلاً.

 

  • كاتب من فلسطين

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي