التشكيلي العراقي مكي حسين: اكتشاف القدرات الخفية لفن النحت

2021-05-19

جمال العتّابي*

 

لم يكن ممكنا أن تستمد الاشكال النحتية للفنان مكي حسين ديمومتها من محيط التأثر، لكنها رغم رغم ذلك صارت قناة إيصال أعادت حالة التوازن مع العالم، ومنحتها روح الألفة الحميمة بالإنسان، وهذا هو السر في ديمومة فن مكي حسين، لأنه، بمعنى ما يحمل في طياته روح الزمن الراهن، ومعطيات الزمن الآتي. وقد أدركه الغياب عن الوطن، وبعدَ عنه، عندما تغوّل الكابوس ليزرع الخوف والرعب في البيوت، وبدأ تكدسْ الموت على الأبواب، فكانت الرحلة الأولى للمنافي، وكان مكي حسين قد انتهل من كل الروافد والينابيع والأنهار الرافدينية، متأثراً بالتجارب التشكيلية العراقية الرائدة، إنها اللحظة الفارقة، التي شهدت بداية التحولات الثقافية والفنية، ترافقها محاولات النفاذ بالتجربة الشخصية إلى أعماق الحياة العراقية، وإستيعاب صورة الإنسان فيها، في تحولاته الوجدانية والفكرية.
مكي حسين الفنان المولود في البصرة عام 1947، المتخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1967، شارك مع فنانين عراقيين في معارض عديدة في عقد السبعينيات من القرن المنصرم، وواصل المشاركة بعد مغادرته العراق، عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له، أقامه في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله (صرخة من عمق الجبال) الذي أدان فيه مجزرة (بشتاشان) ضد فصائل الأنصار في كردستان.
منذ أول تمثال برونزي نفذه حسين، (الرجل صاحب الجناح) قبل أن يختار المربع كثيمة تعبيرية في أعماله اللاحقة، كان مكي يبحث بقلق واضح عن الشكل الرامز لطموحه في تحقيق شخصية تنسجم وروح العصر، تلفّت إلى كل الجهات، استعار الرموز، وذهب إلى كل ما جنحه من أخيلة، وما أحياه من أفكار، تمثل حقيقتنا الزمنية، التي نحيا داخل أسوارها، فكانت الرحلة المضنية في مجملها البحث عن الحرية.

 

يقول الناقد التشكيلي عادل كامل: شهدت أعوام الستينيات، تشكل حضور مجسمات مكي حسين، إلى جانب تجارب إسماعيل فتاح، طالب مكي، اتحاد كريم، جوشن إبراهيم، مقبل جرجيس، خلود سيف، فرحان، فضلاً عن نشاطات الرواد، وتمسكهم بأكثر الصياغات إقناعاً، ديالكتيك المخيال بالذاكرة، أو المعاصرة بالموروث، كما في تجربة عبد الجبار البناء، محمد الحسني، صالح القره غولي، عبد الرحمن الكيلاني، ميران السعدي، لتشكل هذه السنوات، روحاً حية كما وصفها الشاعر فاضل العزاوي.
اعتمد مكي خامة البرونز في أغلب أعماله النحتية، وكرّس جهده لتطويع هذه الخامة، في التأكيد على موضوع الجسد المحاصر، المكبّل، في مواجهة شاقة للإفلات، وتفجير الطاقات الحبيسة، التي تريد أن تعلن عن ذاتها، للانطلاق بحرية، إن مثل هذه المعادلة الصعبة، تفضي إلى حالة من اللاتوازن مع العالم، الذي يحاول فيه مكي، أن يبقى على علاقة سليمة به، قد لا تسعفه في المضي بالتجربة نحو نهايتها، لأنه، حينما يقف إزاء كل جبريات الحياة، ويواجه امتحاناتها ومعضلاتها، يجد أنه في حاجة إلى معين متجدد من طاقة الحياة لا ينضب.
إن أعمال مكي حسين تدعنا دائماً في مواجهة عالم لا يحتمل أكثر من ذي قبل، ما دام الفنان يعرف كيف يزيح ما كان يضايق نظرته، ليكتشف ما سيبقى من الإنسان، عندها ستنحى الأعذار الكاذبة، ليصبح حنينه للوطن على درجة من القوة، تهبه القدرة لينجح في بحثه، بحث لا يتناول الإنسان وحسب، بل يمتد إلى كل الأشياء، ويبدو لي أن فن مكي يريد اكتشاف هذا الجرح السري عند الكائنات، وحتى الأشياء لكي يضيئها.
إن منحوتات مكي تزرع في نفس المتلقي إحساساً غريباً، إنها تبدو مألوفة تسير في الطريق، إلا أنها في أغوار الزمن، لا تكف عن الاقتراب، أو التراجع، وإذا ما حاولنا أن نروضها، ونقترب منها، تبدو أليفة، مفهومة، صادرة عن رجل لا يكف عن الجسارة، وهي واحدة من سمات تميزه، فما تطرحه أعمال حسين من الأفكار والتداعيات كثيرة، وتنتزع موضوعاته شموليتها من كثافة حضورها الحي، وهي تحمل خصوصيتها، وامتيازاتها، في ارتياد المجاهيل، والبحث عن تجارب جديدة، يقع من خلالها على بعض الحلول التشكيلية لمعضلات إنسانية، وهكذا استطاع مكي أن يستخدم قدرته بالنحت في إغناء تعبيره الوجودي. ومنحه قدراً كبيراً من الحركة، فهو لا يكتفي بعرض عمله النحتي على قاعدة وسط صالة العرض، وأن يقيم حواراً مع سطحها الخارجي، بل عمد إلى تكثيف الطاقة في العمل الفني ذاته، وأعطى للمشاهد قدرة اختراقه، والإحساس به، بحيث يصبح في النهاية جسداً يتحرك، ويومض، ويبعث الأصوات، حتى يأخذ بالمتلقي إلى اكتشاف المنابع الخفية لقدرات فن النحت.

 

تماثيل مكي حسين، هي الأجساد، لا ترقص في مهرجان للفكاهة، بل هي الأجساد المنتزعة من عذابات الضحايا، كما يصفها عادل كامل، وما لا يحتمل من انتهاكات حقوق الإنسان، إنه يمسك الإنسان حتى في عزلته، في إشارة دوّنها الفنان والناقد موسى الخميسي، في تناوله لتجربة مكي، مانحاً تجربته سمة الأناشيد البصرية، مشيراً إلى عدم خضوعها لأسلوب محدد.
الفنان مكي حسين منحاز للإنسان، مرتبط به، بوشيجة متينة، ملتزم بقضاياه لا يحيد عنها، طيلة حياته الفنية، لا يتصدى بشكل مجازي، أو متخيل، بل يثير لدى المتلقي إحساسه بعصر مخترق من الأعماق، ومطعون بأخلاقيته، هذا المنحى يمكن تلمسه في مجموعته نحتية موضوعها الأول، هو رفض الاحتلال الأمريكي للعراق، نذكر منها على سبيل المثال: قسم الثوار أمام شجرة آدم، انتفاضة مقطوعي الرؤوس، من أجل وحدة الوطن، رعب الحرب، الشهيدة، رفض ومقاومة.
إن المسلّمة التي تختزل الكلام، تفضي بنا إلى حقيقة واحدة ندركها، هي أن الفعل الفني لدى مكي يبدو متطابقاً مع أفكاره التي ترجمها بدقة على درب سنين عمره، وتاريخه الفني.

*كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي