لا تتنبأ فحسب.. كيف تُشكِّل استطلاعات الرأي مستقبل فرنسا؟

France’s problem with polls
2021-07-24

في الوقت الراهن، لا تتوقع استطلاعات الرأي في فرنسا التطورات في المستقبل فحسب، بل إنها قادرة على تشكيلها وصياغتها.

أعدَّ جون ليتشفيلد، مراسل مجلة «بوليتيكو» في العاصمة الفرنسية باريس، تقريرًا نشرته المجلة الأمريكية استعرض فيه مدى الأهمية التي وصلت إليها استطلاعات رأي الجمهور الفرنسي، حتى أنها باتت قادرة على تشكيل التطورات المقبلة، وصياغة ملامح المستقبل السياسي للبلاد.

كيف تسبب استطلاعات الرأي الارتباك والحيرة؟

وفي مستهل تقريره يُشير الكاتب إلى أن استطلاعات الرأي عامل مؤثر في جميع الأنظمة الديمقراطية، وصحيحٌ أنها تُنتقد بصورة مستمرة، لكن نتائجها تُرصَد وتُراقَب بهوسٍ شديد. والأمر في فرنسا مختلف بعض الشيء؛ إذ تُعد استطلاعات الرأي أكثر من مجرد عامل مؤثر، فقد أصبحت جزءًا من الآلية الانتخابية في البلاد. وهذا سبب أدْعَى للاعتقاد بأن استطلاعات الرأي التي تُجرى في فرنسا موثوق بها. لكنها لم تعد كذلك شيئًا فشيئًا.

ويُؤكد الكاتب على أن استطلاعات الرأي، أو الدراسات الاستقصائية، التي تُصدرها 14 مؤسسة متنافِسة في فرنسا، تُثير الحيرة والإرباك على أحسن تقدير. أما عن تأثير هذه الاستطلاعات قبل انتخابات العام المقبل، فسيكون أكثر إرباكًا وضبابية.

إذًا ما هو حجم شعبية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل ثمانية أشهر من سعيه ليصبح أول رئيس فرنسي يفوز بولاية ثانية منذ عقدين؟ خلصت استطلاعات الرأي المختلفة، التي أجراها عدد من المؤسسات، وطرحت عدة أسئلة من زاويا مختلفة قليلًا، إلى أن تقدير «شعبية»، أو «موثوقية»، أو «قبول» ماكرون تراوحت بين 36% إلى 45%.

استطلاعات الرأي والمبالغة في التقييم

ويتطرق التقرير متسائلًا عن حجم شعبية ماري لوبان زعيمة حزب «التجمع الوطني (RN)» اليميني المتطرف، والتي ستكون على الأرجح أقوى منافس للرئيس ماكرون في الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في العام القادم. إذ أخطأت كل استطلاعات الرأي التي أجرتها المؤسسات الفرنسية عندما توقَّعت جميعها تحقيق ماري لوبان قفزة في الجولة الأولى من الانتخابات الإقليمية التي أُجريت الشهر الماضي.

وقد بالغت استطلاعات الرأي الخاصة بالانتخابات الإقليمية إلى حد كبير جدًّا بشأن الدعم الذي سيحظى به حزب «التجمع الوطني» بزعامة لوبان؛ لأن نسبة المشاركة كانت أقل بكثير مما كان متوقعًا، وشهدت الانتخابات عزوفًا غير مسبوق. كما ثبت أن استطلاعات الرأي بشأن الجولة الثانية من الانتخابات الإقليمية كانت معيبة إلى أقصى حد.

ونوَّه التقرير إلى أن هذا الخطأ لم يكن الخطأ الوحيد؛ إذ بالغت استطلاعات الرأي الفرنسية في تقدير قوة اليمين المتطرف في جميع الجولات السبع من الانتخابات الأربعة الأخيرة (الرئاسية، والأوروبية، والمحلية). وكانت استطلاعات الرأي الفرنسية قد اعتادت التقليل من حجم الأصوات التي من المحتمل أن يحصل عليها اليمين المتطرف، لكنها في الوقت الراهن تبالغ بصورة منتظمة في تقديرها.

استطلاعات الرأي جزء من الجهاز السياسي الفرنسي

ولفت التقرير إلى أن سجل استطلاعات الرأي الفرنسية بوجه عام لا يُعد أسوأ من استطلاعات الرأي المماثلة التي تُجرى في الدول الأخرى. وكانت استطلاعات الرأي التي تُجرى بشأن أي انتخابات وطنية كبرى موثوقة إلى حد معقول، بصرف النظر عن الهفوات الخطيرة التي حدثت في انتخابات عام 1995، وانتخابات عام 2002.

ومع ذلك يُمكن القول إن استطلاعات الرأي الفرنسية يجب أن تكون أكثر دقة من استطلاعات الرأي التي تُجرى في أية دولة أخرى؛ لأنها أكثر قوة. وأصبحت هذه الاستطلاعات على نحو متزايد جزءًا من الجهاز السياسي، أكثر من كونها مجرد مُعلِّق عليه.

يقول كاتب التقرير: لا أقترح – كما يفعل البعض – أن تكون مؤسسات استطلاعات الرأي ذات توجه حزبي. لكنني أعتقد أن هذه المؤسسات جرى استيعابها في النظام الانتخابي بطريقة قد تنطوي على مخاطر محتملة. إن التأثير المشترك الناجم عن هيمنة مؤسسة الرئاسة، وضعف البرلمان، والعزوف عن المشاركة في جولتي التصويت، وتدهور أوضاع الأحزاب السياسية القوية والمستقرة، يعني أن استطلاعات الرأي يُمكنها حاليًا تشكيل التطورات في فرنسا وصياغتها، أكثر من مجرد توقُّعها.

ما مدى تأثير استطلاعات الرأي السابقة؟

ألمح التقرير إلى أن استطلاعات الرأي التي أُجريت عام 2017، ساعدت إيمانويل ماكرون، الشاب الذي كان حديث عهد بالتوجه الوسطي، على الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية. إذ تسببت في تكوين الزخم الذي أقنع الناخبين المنتمين إلى يسار الوسط ويمين الوسط على حد سواء بتغيير وجهته لاختيار ماكرون، والابتعاد عن مرشحيهم المعيبين، بصورة لا تخطِئها العين.

وعلى نحو مماثل أظهرت استطلاعات الرأي في عام 1995 أن ليونيل جوسبان هو الخيار الأفضل لمنافسة يمين الوسط في سباق الرئاسة. وكان لاستطلاعات الرأي، وليست أفكاره أو شخصيته، الفضل في فوزه بالانتخابات التمهيدية الاشتراكية. وتكرر الأمر نفسه مع سيجولين رويال عام 2006.

وخلُص التقرير إلى أن استطلاعات الرأي يُمكنها أن تكون ذات تأثير قوي، وجذب مغناطيسي مماثل في الانتخابات التمهيدية الرئاسية في الولايات المتحدة، والتي تنعقد داخل نظام صارم من حزبين. لكن قوة استطلاعات الرأي تضخمت إلى حد كبير في فرنسا بسبب انهيار الاحتكار الثنائي القديم بين اليسار واليمين، وضعف أحزابها السياسية.

التأثير الحالي لاستطلاعات الرأي

وفي الشهور القليلة المقبلة ستكون استطلاعات الرأي الفرنسية أكثر أهمية من ذي قبل، بالإضافة إلى أنها ستُؤدي دورًا حاسمًا بشأن ما إذا كان ليوجد مرشح ينتمي إلى يمين الوسط منافس لماكرون وماري لوبان أم لا. وإذا ظهر هذا المرشح، فهل من الممكن أن يُطاح بماكرون في الجولة الأولى من الانتخابات أم لا. وبخلاف ذلك ووفقًا لاستطلاعات الرأي يجب عليه أن يضطلع بمهمة سهلة نسبيًّا تتمثل في التغلب على ماري في جولة الإعادة.

ويُضيف التقرير أن أربعة أو خمسة من بارونات (البارون أدنى مراتب النبلاء) يمين الوسط، وبارونة واحدة (وهي فاليري بيكريس، رئيسة المجلس الإقليمي لمنطقة إيل دو فرانس) يأملون في أن يكونوا المرشح الوحيد لليمين «التقليدي». وبينما يريد معظمهم إجراء انتخابات تمهيدية لليمين، يوجد بينهم شخص واحد فقط لا يريد ذلك، وهو كزافييه برتران.

وفي هذا الصدد أوضح كزافييه برتران، رئيس منطقة أوت دو فرانس الواقعة في شمال فرنسا، أنه لن يشارك في الانتخابات التمهيدية المقبلة ليمين الوسط تحت أي ظرف من الظروف، متسائلًا لماذا ينبغي عليه ذلك؟ وبعد رفضه المشاركة في الانتخابات التمهيدية، يكون برتران قد عقد فعليًّا الانتخابات التمهيدية الخاصة به، والتي تُحدَد فيها النتيجة من خلال تقييمات استطلاعات الرأي، والتي يتمتع فيه برتران بالحظ الأوفر.

ويُفيد التقرير أن استطلاعات الرأي منحت برتران في الوقت الحاضر من 16 إلى 18% من أصوات الجولة الأولى، وهي ليست كافية للوصول إلى الجولة الثانية حينما يحقق ماكرون وماري لوبان من 22 إلى 28%. ومع ذلك فإذا بدأت نسبة برتران بالصعود في استطلاعات الرأي إلى 20% أو أكثر، فسوف يظهر بوصفه مرشحًا واضحًا وحتميًّا ليمين الوسط. وهذه هي إستراتيجيته، ولهذا السبب قفز إلى صدارة السباق في أوائل مارس (آذار).

أسباب التشكيك في مصداقية الاستطلاعات

ويستدرك كاتب التقرير متسائلًا عن مدى موثوقية استطلاعات الرأي. إذ اشتكى أربعة من المنافسين الآخرين من يمين الوسط في مقال رأي نشرته صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية الشهر الماضي من أنه من السخف أن يُترك الأمر لاستطلاعات الرأي لاتخاذ قرار بشأن أحد المرشحين، خاصةً عندما «تكون مصداقية استطلاعات الرأي مشكوك فيها دائمًا».

ويرى كاتب التقرير أن كلامهم سليم لا يمكن إنكاره. إذ تشير تصريحات مسؤولو المؤسسات المعنية بإجراء استطلاعات الرأي إلى سببين يجعلان الاستطلاعات أقل موثوقية في السنوات الأخيرة، في الانتخابات المحلية أكثر منه في الانتخابات الوطنية.

السبب الأول: يتمثل في التحول إلى استطلاع الآراء عبر الإنترنت في لجان اقتراع شبه دائمة بدلًا عن استطلاع الرأي عبر إجراء مكالمات هاتفية بصورة عشوائية. يقول أحد المسؤولين في مؤسسة لاستطلاعات الرأي: إن «استطلاع الرأي عبر الإنترنت أرخص بكثير، وهو يُعطي انطباعًا باختبار عينة ثابتة وآرائهم متغيِّرة. لكن هذه الطريقة قد لا تصل إلى رأي الناخب غير السياسي أو الساخط على الأوضاع كما تصل إليها طريقة الاتصالات العشوائية».

السبب الثاني: يوجد تزايد في حجم الاستياء من السياسة بجميع أطيافها، حتى داخل اليمين المتطرف المعادي للمؤسسة. بالإضافة إلى أن الإقبال آخذٌ في الانخفاض، لكنه انخفاض موزَّع بنسبٍ غير متساوية بين مختلف الفئات العمرية والاجتماعية. ويُعد هذا هو أحد أسباب المبالغة بصورة منتظمة في تقدير الأصوات التي سيحصل عليها اليمين المتطرف خلال السنوات الأربع الماضية.

وفي السياق ذاته يُرجِّح التقرير أن تكون جهود ماري لوبان لتصحيح مسار حزب والدها تفسيرًا آخر. واعتاد الناخبون إخفاء حقيقة أنهم صوتوا لحزب الجبهة الوطنية بزعامة جان ماري لوبان. لكنهم حاليًا يتفاخرون لمستطلعي رأي الجمهور بأنهم ينوون التصويت لصالح حزب «التجمع الوطني» بزعامة ماريان، لكنهم لا يفعلون ذلك في نهاية الأمر، أو على أقل تقدير لا يُكلفون أنفسهم عناء الحضور للمشاركة في التصويت.

كيف قوَّضت استطلاعات الرأي الثقة في السياسة الفرنسية؟

يؤكد التقرير على أن استطلاعات الرأي لم تزل تحتل مكانة مرموقة في النظام الديمقراطي. يقول جيروم جافري، عميد منظمي استطلاعات الرأي الفرنسي ومدير مؤسسة «سيكوب» لاستطلاعات رأي الجمهور: إن «استطلاعات الرأي لم تزل تُمثل أداة أساسية لتحليل الأوضاع. وإذا أبعدتها عن الاستعانة بها لقراءة المشهد، فإنك بذلك تحجب الرؤية عن الإعلام».

ومن حيث المبدأ يتفق مع جافري عدد آخر من المراقبين، مثل فيليب جويبرت، معلق سياسي والرئيس السابق لهيئة الاستعلامات الحكومية، لكنهم يقولون إن استطلاعات الرأي الفرنسية أصبحت محمومة جدًّا ومهيمنة للغاية. يقول جويبرت: إن «التحليل السياسي تراجع في كثير من الحالات إلى سباق خيول يعتمد على التقديرات الظنية والافتراضية».

ويختتم الكاتب تقريره بالإشارة إلى أن آلان جاريجو، أستاذ العلوم السياسة بجامعة غرب باريس نانتير لا ديفونس ومؤلف كتاب (ثمالة الاستطلاعات) ذهب إلى أبعد من ذلك، حينما قال: «إن قوة مستطلعي رأي الجمهور قوَّضت الثقة في السياسة الفرنسية، وعزَّزت الانطباع بأن النظام يخضع لسيطرة النخبة، ويعمل لصالحها».

وقد يكون هذا مبالغًا فيه، ومع ذلك فمن المؤكد أن الأوضاع يحتمل أن تمثل خطرًا على النظام الديمقراطي الفرنسي عندما تكون استطلاعات الرأي أكثر تأثيرًا وأقل دقة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي