فرنسا تحتفي بالدنماركي كروير رسام "الساعة الزرقاء"

2021-07-25

أجساد وأضواء تترامى فوق البحر على امتداد الأفق

أبو بكر العيادي: عاش بيدر سيفرين كروير طفولة صعبة، فقد ولد في النرويج من أب مجهول وأم تعاني اضطرابات نفسية، فربّته خالته وزوجها في كوبنهاغن، ومهّدا له سبل الدراسة، ثم الالتحاق بالأكاديمية الدانماركية الملكية للفنون، فلاقت أعماله حسن القبول ما ساعده على تحسين وضعه المادي تدريجيا.

ولما كان مولعا برسم بورتريهات شخصية فإن من السهل أن نلاحظ التحوّلات التي طرأت عليه من جهة مظهره خاصة؛ فقد بدأ حياته بائسا، ولكنه ارتقى السلّم الاجتماعي بفضل أعماله فصار من الطبقة البورجوازية دون أن ينسى بدايته المتواضعة.

تتلمذ على فرديريك فيرميرن في الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون ثم على الفرنسي ليون بونّا في باريس حين تكفّل تاجر تبغ ثريّ يهوى الفنون وجمع تشكيلاتها اسمه هاينريش هيرشبرونغ بتأمين سفره إلى عاصمة الأنوار والإقامة فيها، وسرعان ما لفتت أعماله أنظار نقاد الفن وعشاقه في كوبنهاغن وباريس.

وعلى غرار الانطباعيين كان كروير يهوى الرسم في الهواء الطلق، لذلك كان يوزّع أوقاته بين مقر إقامته في العاصمة الدنماركية وقرية صيادين اسمها سكاجين في أقصى شمال الدنمارك، على شاطئ بطول كيلومترين حيث تختلط مياه بحر الشمال بمياه بحر البلطيق.

  الفنان كروير اختص في رسم وحدة الرمل والبحر والسماء بألوان يطغى عليها الضوء الهادئ والأزرق في أجلى درجاته

في ذلك المكان الذي يطول فيه النهار تسهل ملاحظة ظاهرة جوية أطلق عليها الصيادون والفنانون الذين يرتادون تلك القرية “الساعة الزرقاء”، وتحدث قبيل الغروب، وتتميّز بألوان وأضواء مخصوصة تترامى فوق البحر على امتداد الأفق.

ألهمته أجواء تلك القرية، وقد صار لها اليوم متحفٌ يضمّ نحو ألفي عمل فني من رسومات ولوحات ومنحوتات أنجزها الفنانون الذين زاروها أو أقاموا فيها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، في مقدّمتهم كروير وميكائيل أنشر وهولغر دراشمان وجيف ويلومسن، وغيرهم ممّن اختاروا البقاء في تلك القرية التي صارت اليوم مدينة يرتادها السيّاح، لما تتميّز به من شواطئ رائعة وهواء نقيّ ومناخ رائق، فضلا عن متحفها الذي يجمع أعمال فنانين لا يزال لهم تأثير في الفنون الدنماركية.

والمعرض المقام حاليا بمتحف مارموطان موني بباريس الذي يتواصل حتى نهاية سبتمبر القادم، والمحتفي بتجربة كروير، ليس استعاديا بقدر ما هو إحياء لذكرى فنان كان له في بعض العواصم الغربية حضور، وخاصة في باريس حيث أقام عدّة معارض، فلما توفّي طوى النسيان ذكره خارج بلاده، حيث يُعدّ من أهمّ الفنانين إلى جانب فيلهيلم هامرشوي.

ويتركّز هذا المعرض على المرحلة التي قضاها كروير في قرية سكاجين، حيث يكون الضوء، خاصة عند اقتراب عيد القديس يوحنا الموافق للثالث والعشرين من يونيو، صافيا بلّوريا، والنهار مديدا يكاد لا ينتهي، والزرقة فريدة قبيل الغروب، أي في لحظة أسماها كل مرتادي ذلك المكان البديع “الساعة الزرقاء”.

في تلك اللحظات كان كروير يلتقط المناظر الطبيعية على الشاطئ الرملي، أو المصطافين وهم يسبحون أو يتمشّون على الرمل الناعم، أو الأطفال وهم يلهون ويمرحون صحبة آبائهم وأمهاتهم.

من مناظر الكثبان عند رأس غرينن، والبنيّة الواقفة على الشاطئ، إلى مشاهد من حياة الصيادين ومراكبهم وشباكهم وتحوّلات غروب الشمس، كان كروير لا يني يلتقط مشاهداته بعين خبيرة ليرسم وحدة الرمل والبحر والسماء بألوان يطغى عليها الضوء الهادئ والأزرق في أجلى درجاته، وتعكس مسعى الخلق المعقد لدى الفنان الذي يولي نفس الأهمية لما كان ينجزه في مرسمه وما صار يبدعه في الهواء الطلق. وهو ما حواه الجانب الأول من المعرض.

ألوان هادئة تعكس مرونة الحياة في قرية سكاجين الدنماركية

أمّا الجانب الثاني فقد خُصّص لأعمال خلّدت مجموعة الفنانين التي عرفت بمدرسة سكاجين، من بينها بورتريه “ورود” لزوجته ماري في حديقة بيتهما، ولوحة تخلّد اجتماعات زملائه الفنانين أمثال ميكائيل أنشر وزوجته أنّا، وأوسكار بيورك والكاتب هولغر دراشمان.

كذلك البورتريه المزدوج الذي يمثل زوجته وصديقتها آنا أنشر وهما تتمشّيان بين البحر والشاطئ، على مسلك رملي ضيّق يعبر القماشة لكي يرتفع عاليا في الأفق منهيا المسار.

هذه اللوحة التي أسماها كروير “مساء صيفي على الشاطئ الجنوبي لسكاجين”، عدّها النقاد من أفضل لوحاته وأكثرها شاعرية، مثلما عدّوها ثروة وطنية. ووجودها في المعرض ينمّ عن الأهمية الكبرى التي توليها المؤسسة الثقافية في الدنمارك لهذا المعرض.

في أواخر أيامه تعرّض كروير لأزمة صحية وعانى اضطرابات نفسية، على غرار والدته، وتوفي عن سن ثمانية وخمسين عاما في القرية التي حقّق فيها مجده، بعد أن أنجز لوحة كانت بمثابة وصية جمع فيها كل الذين كان لهم دور في حياته حول نار القديس يوحنا على الشاطئ.

وبوفاته خبا حضور مدرسة سكاجين طيلة سنوات، وكاد النسيان يطوي إسهام هذا الفنان المتميز لولا الضجة التي رافقت بيع لوحته “سهرة هادئة على الشاطئ” لبارون الصحافة الألماني أكسيل سبرينغر في أواخر السبعينات، بمقابل لم يسبق لفنان دنماركي أن حصل عليه، وبذلك عاد الاهتمام ببيدر سيفرين كروير ورفاقه في سكاجين.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي