شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

قصر البيكاديلّي … ذاكرة بيروت الجريحة

2021-08-04

 واسيني الأعرج*

بيروت الرمزية، المدينة الكوزموبوليت المتعددة ثقافيا وحضاريا، التي احتلت مشهد السبعينيات، انكسرت، وفقدت بعض نسغها، يوم انكسر البيكاديلّي (البيكادللي) وتحول إلى بقايا عظام لزمن انتهى.

لم يكن انفجار 04 آب / أغسطس المدمر (رابع أقوى انفجار في العالم) الذي كاد يمسح مدينة بكاملها من على الخريطة، إلا تنويعا عاما على سلسلة الفواجع التي ألمّت بالمدينة منذ الحرب الأهلية التي أبانت عن شراسة هذبتها الثقافة طويلا، قبل أن تسيرها الأحقاد الدفينة والخلافات المدمرة. امتصّ البيكاديلّي في وقت وجيز وبالوسيط الفني فقط، كل حرائقها وأحقادها.

مسرح فخم وجميل، يجبرك على الأناقة المسبقة لتحلم أن تكون من بين 800 حاضر للسهرات. كيف للذاكرة الجمعية أن تتخلّى عن معلم عظيم بحجم البيكاديلي بسهولة وتصبح فجأة غير معنية به، وألا توليه الاهتمام الذي يليق به؟ بل لم يعد يعني لها أي شيء، مع ألا أحد من العاقلين، ينفي رمزيته الفنية الحية والمتقدة؟ فقد تأسس في سنة 1966، وافتتح بفرقة موسيقية من فيينّا حضروا كل من شكلوا الخامة الثقافية والسياسية اللبنانية من رؤساء حكومة ووزراء وشخصيات اقتصادية فاعلة.

واستقبلت قاعة العروض أول فيلم عالمي كبير: الدكتور جيفاغو، بطولة عمر الشريف.ثم الكوميديات الموسيقية للأخوين الرحباني مثل «لولو» «هالة والملك» (1967) «الشخص» (1968) «يعيش يعيش» (1970) «ناس من ورق» (1971) وغيرها.

شهد البيكاديلّي تنامي وبروز تجربة الرحابنة في الكوميديا الموسيقية في عمق مسرح البيكادلّي، بزغ نجم فيروز هناك أيضا، لدرجة أن ظن الكثيرون أن البيكاديلّي ملكية للرحابنة من شدة حضورهم على ركحه، بينما كانت تسيره وقتها شركة ماميش-عيتاني.

ولكي تحصل على مكان، أي على كرسي لحضور حفلة من حفلات فيروز، عليك أن تنتظر شهرا كاملا وأكثر، لأن العروض كلها ممتلئة. لكن البيكادلّي الحامل في جوهره لبذرتي الحياة والموت، هو نفسه المكان الذي شهد نهاية فيه شراكة الرحابنة وانفصال فيروز، قبل أن يحتل المشهد الرحباني الابن، زياد، الذي كسر النظام الكلاسيكي لفيروز وطعمه بحداثة الآلات والأنواع الشعبية كالجاز، وأخرجه من دائرة الكلاسيك، وقربه من الشارع أكثر وانشغالات الجيل الجديد، من 1980-1990 وجدد بقوة في ريبيتوار أمه الفني، مثل «وحدُن» «عهدير البوسطة» «كيفك أنت» وغيرها.

وبدا كأن جمهورا آخر بدأ يرتاد البيكاديلّي. شهد المسرح أو القصر كما كان يسميه البعض، مرور كبار نجوم الفن العالمي، داليدا، شارل أوزنافور، تودوراكسيس، سلوى قطريب، عادل إمام وغيرهم، مما أعطاه بعدا أوسع. خرج مسرح البيكايلّي سالما من الحرب الأهلية ربما لأنه وضع نفسه في دائرة أوسع: لبنان والعالم، ورفض التشرذم والتعبيرات الحزبية.

ذاكرة حية لم تدخل للأسف في اهتمامات الذين قادوا مشروع تجديد بيروت العظمى، بيروت ما بعد الحرب، فاهتموا بالمتاجر الواسعة، وبالصوليدر، وكأن بيروت العنيقة التي نشطت في عز الحرب، وقاومت بسبلها الفنية العالية، الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي 1982 الذي أجبر ياسر عرفات للتخفي في بيكاديلي برفقة بعض رفاقه، كان ينام في القبو التحتي للمسرح، ولا أحد كان يعلم باستثناء المقربين جدا، انتهت تلك الحقبة ولم تعد إلا أصداء خبر.

عاشت المرحومة سلوى قطريب جزءا من حياتها الفنية فيه، وغنت لبنان الجميل قبل أن يطويها الموت والنسيان. شيء ما في بيروت شديد القسوة.

النسيان السريع؟ التخلي عما تم تأسيسه والبداية من الصفر؟ هل لأن عمر الأجيال قصير في لبنان؟ وبالتالي يصبح تذكر الماضي صعبا، للتمكن من العيش؟ أم أن في لبنان البيزنس أصبح يمر قبل أي شيء آخر؟ أسئلة تتراكم وتبقى الإجابات معلقة.

ما الذي قادني اليوم نحو هذا المعلم؟ هل هو انفجار 4 أوت، أم موته المبكر وتغييبه في شارع الحمراء الذي لم يعد شارع السبعينيات الحي أبدا؟ كنت يومها مصرا على رؤية «بترا» وفيروز، ونصري شمس الدين، في معرض دمشق الدولي، يوم تم عرض الكوميديا الموسيقية التراجيدية بترا، لكني لم أفلح، بسبب الوقت الذي لم يكن يومها في صالحي. حزنت كثيرا، وانتظرت الفرصة التي لم تمنح لي إلا بعد سنة.

فقد عرضت «بترا»على مدار السنتين في البيكاديلّي وكازينو لبنان. قرأت بأن «بترا» ستعرض ثانية على مسرح البيكادلّي، في جانفي 1978 إذا لم تخني الذاكرة. الحرب الأهلية مشتعلة. ركبت رأسي ووجدت من يحجز لي مكانا، وسافرت إلى بيروت، بالمرور على الطريق العسكري، برفقة صديق فلسطيني كان يعرف المسالك جيدا. وقتها كان المتصارعون يتذابحون على الهوية. ليس شجاعة مني سوى الشغف والجنون وسلطة عمر 24 سنة.

ما بقي في ذاكرتي من تلك السهرة، أكيد شاكيلا (فيروز) وهي ما بين أمومتها (ابنتها ذات السبعة أعوام، الرهينة) وواجبها. فقد ذهب زوجها الملك (جوزيف ناصيف) لمحاربة الرومان الغزاة الذين كانوا يريدون نهب الشرق وخيراته.

يحاول الجنديان الرومانيان باتريكوس (أنطوان كرباج) ولايوس (أندريه جدعون) التخفي ضمن القوافل، لإحداث تصدع ما في المملكة.

يختطفان الصغيرة ابنة الملك، ويهدد باتريكوس الملكة بموت ابنتها إن هي لم تقنع زوجها بالتراجع والانسحاب من المناطق التي حررها. لكنها ترفض أن تقايض حياة أمة بأمومتها. وكان ثمن الانتصار غاليا.

في ذلك اليوم اكتشفت مسرح البيكاديلي من الداخل بثرياه المدهشة، التي تنزل وتصعد حسب الحاجة. والبيانو الساحر الذي يخرج من اللامكان، من تحت الركح قبل أن يغلق وعندما ينتهي العازف من أداء وصلاته بالخصوص أيام العروض السينمائية، ينزل من جديد إلى تحت.

الستائر الحمراء المتجانسة والأنيقة التي التهمها الحريق، بنفس لون الكراسي الوثيرة. كيف لذلك كله أن ينتهي في لمح البصر ويتحول إلا أطلال وكأن شيئا لم يكن؟ وعلى الرغم من مآسي الحروب، عاد البيكاديلي إلى نشاطه من جديد بصعوبة، لكنه في 19 آب / أغسطس 2000 كانت الضربة القاضية.

صمت البيكاديلّي نهائيا، هو الذي لم تسكته الحروب المتتالية، أحرق، يبدو بسبب سهو؟ من عامل من عمال الديكور، لا تحقيق في هذا السياق يثبت العفوية، لأن أصابع الاتهام تذهب أيضا نحو بعض من كان يزعجهم هذا المسرح الجميل والثقافي؟ الذي ظل من 1966-2000 رمزا لتجميع اللبنانيين حول الأكثر خلودا: الفن والإنسان. كان الحريق الضربة القاتلة للمسرح والمدينة.

بعدها بدأ عصر آخر، المساومات المتتالية لتحويل نشاطات البيكادلّي باتجاه ما هو تجاري بحكم موقعه في عمق الحمراء؟ مول الشرق الكبير مثلا؟ أو حتى تهديمه وإعادة بنائه وفق المصالح المالية المستجدة، قبل أن تستعيده وزارة الثقافة التي حمته من الدمار، لكنها لم تتمكن من أن تعيد له الحياة. ربما لأن الزمن تغير كثيرا، وأن غالبية الشباب لا تعرف عنه أكثر من كونه بناية مغلقة منذ سنوات طويلة، ولا دور لها.

التاريخ الذي يحمله البيكاديلّي هو نفسه جمال لبنان المشتهى الذي أصبح معبرا لكل الفنانين والمثقفين الضائعين الذين سرقت منهم أوطانهم، ونفسا ناعما من الحرية، قبل أن تأتي يد لبنانية-عربية-أجنبية لا يرضيها النموذج العربي للحياة الحرة، حتى ولو كان هذا النموذج هشا، وأسسه ليست عميقة بالشكل الذي يحميه أبدا، لكنه يكفي أنه وجهة للحرية كان يمكن أن تتأصل وتتثبت.

 

  • روائي جزائري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي