البروفيسور ثيو فاريل : هكذا نجح تمرد طالبان بفضل المحاكم والنسيج المجتمعي

2021-08-24

البروفيسور ثيو فاريل

عثمان أمكور

في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، شنّت الولايات المتحدة حربا خاطفة على حركة طالبان الأفغانية أجهزت فيها على "الإمارة الإسلامية". ومع ذلك، في غضون سنوات قلائل أعادت طالبان تجميع صفوفها وعادت إلى ساحة المعارك.

وبحلول عام 2016 اجتاح مقاتلوا طالبان ما لا يقل عن ثلث أفغانستان، واليوم بعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان، هيمنت طالبان على المشهد العسكري والسياسي مجددا، وذلك بدخولها كابل وسيطرتها على كل المناطق الأفغانية.

ولأجل فهم مدى تجذر طالبان ومرونتها مجتمعيا وعسكريا، أجرت الجزيرة نت حوارا مع البروفيسور ثيو فاريل الأستاذ والعميد التنفيذي للقانون والعلوم الإنسانية بجامعة ولونغونغ بأستراليا.

شغل فاريل سابقا منصب رئيس قسم دراسات الحرب في كينجز كوليدج لندن، ونشر كتبا عدة في الشؤون العسكرية والإستراتيجية، بينها " التكيف العسكري في أفغانستان" (Military Adaptation in Afghanistan) الصادر عن مطبعة ستانفورد العريقة، وكتاب "حرب بريطانيا التي لا يمكن أن تربح في أفغانستان، 2001-2014" (Unwinnable: Britain’s War in Afghanistan, 2001-2014)، كما كان مستشارا لقيادة الجيش البريطاني والقوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان بين عامي 2009 و2010؛ نترككم مع الحوار:

ما المصادر والجذور الاجتماعية التي أسهمت في انبعاث طالبان؟

هناك أهمية لـ"الأوقاف الاجتماعية" في تعبئة الناس للانضمام إلى حركة التمرد أو دعمها، وتشمل الأوقاف الاجتماعية الشبكات الموجودة سابقا، والهويات المشتركة، والمعتقدات المشتركة، وقواعد المعاملة بالمثل، وكلها تسهل التعاون والعمل الجماعي لا سيما في المواقف ذات التكاليف القصيرة الأجل والوعد بالمكاسب الطويلة الأجل.

   

تماسك المنظمات المتمردة مرتبط بالشبكات الاجتماعية التي تؤسس قبل الحرب، وهناك أهمية لـ"الأوقاف الاجتماعية" في تعبئة الناس للانضمام إلى حركة التمرد أو دعمها.

كما أن تماسك المنظمات المتمردة مرتبط بالشبكات الاجتماعية التي تؤسس قبل الحرب، حيث يكون القادة المتمردون غالبا مناسبين اجتماعيا للهياكل القائمة بالعمل الجماعي داخل المنظمة التي يمكن أن تتجسد على شاكلتين: الأولى الشبكات الأفقية والثانية الروابط العمودية؛ تربط الشبكات الأفقية بين الأشخاص الذين قد يكونون مشتتين جغرافيا من خلال المعتقدات الأيديولوجية المشتركة، وتطور العديد من حركات التمرد هياكلها لتقديم خدمات للمدنيين. وهذا يتطلب من الجماعات المتمردة تحويل جزء من الموارد -التي افترض فيها أن تخصص للتمرد- إلى المدنيين لضمان ولائهم.

هذا الأمر يتجسد بشكل كبير داخل حركة طالبان التي تمتلك شبكة خدمات أفقية توفر التعليم الديني والخبرة العسكرية وهي أرضية قوية لتدعيم الإطار الأيديولوجي للحركة؛ هذه الحركة منذ لحظة تأسيسها المنبثقة من المدارس الديوبندية في باكستان حشدت آلافا من الشباب من هذه المدارس للقتال ضد السوفيات في الثمانينيات؛ وهو ما جعلها تنظم نفسها داخل شبكات أكبر تسمى "الجبهات"، كل جبهة يقودها قائد كان قادرا على توزيع الإمدادات العسكرية من المانحين الأجانب عبر جبهته إلى القادة الميدانيين.

كان التحدي الرئيسي للإدارة الأفغانية المؤقتة لحميد كرزاي في عام 2002 هو تأكيد سلطة الحكومة خارج كابل ومنع العودة إلى الحرب الأهلية؛ فعل كرزاي ذلك في المقام الأول من خلال ضم العديد من أمراء الحرب إلى الحكومة الأفغانية الجديدة. وبهذه الطريقة، عاد أمراء الحرب الفاسدون الذين طردتهم حركة طالبان من السلطة في التسعينيات ليصبحوا حاكمين محليين وقادة شرطة. وتحت ستار السلطة الرسمية، قامت هذه الشخصيات المتجسدة مرة أخرى بسرقة السكان وإساءة معاملتهم، وقد وفر هذا بذورا خصبة للعودة التدريجية لطالبان إلى جنوب أفغانستان وشرقها منذ عام 2004.

وعندما أصبح كرزاي رئيسا، لم تكن طالبان تقاتل، بل إن تدخل الحكومة الأميركية مع السلطات الأفغانية ضد أسر طالبان هو ما جعل طالبان تعود إلى معارك القتال في قندهار وأقاليم بكتيا وغيرها.

كتاب

ومنذ عام 2004 عادت طالبان بطريقة أكثر قوة إلى جنوب أفغانستان حيث ولجت الحركة إلى المناطق الريفية؛ بدأ الأمر بزيارة فرق صغيرة من طالبان للقرى لإجراء اتصالات مع المتعاطفين، ولإثارة التمرد، وترهيب أو قتل الشيوخ ورجال الدين الموالين للحكومة. ومع زيادة الثقة بهم، عقد مبعوثو طالبان اجتماعات مفتوحة لدعوة الناس للجهاد ضد "الحكومة الفاسدة" و"الغزاة الأجانب"، كما تم إرسال ملالي طالبان للدعوة إلى الجهاد في القرى؛ كانت المهمة الإستراتيجية لهذه الفرق "الطليعية "هي تمهيد الأرض لتصعيد التمرد لاحقا.

وفي إشارة إلى وجود شبكة أفقية قوية، تم توحيد جبهات طالبان في جنوب أفغانستان في ظل "مجلس شورى كويتا".

وبصورة ثابتة، ظهرت الخصومات بين بعض كبار قادة طالبان؛ كان التنافس بين الملا عبد الغني برادر والملا داد الله واضحا بشكل خاص، وفي الوقت المناسب أدى ذلك إلى ظهور مجلسي شورى قياديين إضافيين ينافسان مجلس شورى كويتا. ومع ذلك، لم يتحدّوا علانية أسبقية مجلس شورى كويتا. كان هذا مهما من الناحية الرمزية ومتسقا مع أيديولوجية طالبان، التي تحافظ على مركزية طاعة الأمير.

ما قيمة الروابط العمودية التي تجمع طالبان بالمجتمعات المحلية، وكيف وظفت المحاكم من أجل زيادة شعبيتها ؟

كانت الروابط العمودية مهمة بالقدر نفسه لتأسيس تمرد طالبان، إذ تم تطوير نظام سياسي مغلق في عهد كرزاي فتدفقت الموارد الحكومية بشكل أساسي إلى الشبكات العائلية لأمراء الحرب المعينين في مناصبهم ومن حولهم، كما تحالفت المجتمعات المضطهدة مع طالبان للحصول على الحماية من المليشيات الموالية للحكومة.

ورسم التمرد الخلافات القبلية الموجودة سلفا، وهو ما تجسد في مجتمع إسحاقزي داخل مقاطعة سنجين في هلمند، وعلى امتداد أجيال، كان مجتمع أليزيه وأليكوزا في شمال هلمند في منافسة مع إسحاقزاي. وفي ظل دولة طالبان، شغل أهل إسحاقزاي عددا من المناصب الحكومية الرئيسة في المحافظة، بما في ذلك منصب الحاكم، ثم انقلبت الأمور عندما عين كرزاي أحد أمراء الحرب في أليزاي حاكما إقليميا وكذلك بتعيينه أمراء حرب على أليكوزاي رؤساء للشرطة السرية الإقليمية، حينئذ استخدم أمراء الحرب مناصبهم الحكومية كغطاء لفرض الضرائب ومضايقة إسحاقزاي.

   

عندما سيطرت طالبان على أجزاء كبيرة من الأراضي، شرعت في محاولة إعادة تأسيس إمارة إسلامية في أفغانستان، وكان هناك طلب كبير لتدخل طالبان في حل النزاعات الريفية المتكررة على الأراضي والتجارة والشؤون الأسرية.

ولكن عندما سيطرت طالبان على أجزاء كبيرة من الأراضي، شرعت في محاولة إعادة تأسيس إمارة إسلامية في أفغانستان، كان هناك طلب كبير لتدخل طالبان في حل النزاعات الريفية المتكررة على الأراضي والتجارة والشؤون الأسرية.

وفي هذا الصدد، سعى مجلس شورى كويتا إلى تكرار نظام المحاكم للإمارة الإسلامية في التسعينيات هيكلة محاكمة متنوعة في هلمند، وبذلك تمكنت طالبان من إعادة إنشاء نظام محاكم الإمارة لبعض الوقت. إلا أن معظم الأقاليم كانت تعرف تطبيق العدالة من قبل حكام الظل وملالي طالبان والقادة العسكريين، وانتظام طالبان في منظومة العدالة أكسبها شعبية واحتراما دعم تمردها من قبل المجتمعات المحلية، بخاصة في جنوب أفغانستان.

وبسبب الضغط المتزايد لعمليات قوة المساعدة الأمنية الدولية، تحولت طالبان في عام 2009 من المحاكم الدائمة إلى المحاكم المتنقلة في هلمند، ومع ذلك ظلت محاكم طالبان مستخدمة على نطاق واسع لأنها مقارنة بالمحاكم الأفغانية الرسمية توفر عدالة أكبر وبيروقراطية وفسادا أقل.

لماذا ركزت طالبان على الجانب العسكري رغم توغلها في النسيج المجتمعي وتحكمها فيه؟

كان تركيز طالبان على الجانب العسكري مردّه أنها لم تكن قادرة على تقديم الخدمات العامة للأشخاص في المناطق الخاضعة لسيطرتها. نتج عن هذا اشتداد الصراع، وهو ما أدى إلى تراجع الدعم المقدم لطالبان مع مرور الوقت في أجزاء كثيرة من أفغانستان. وبصرف النظر عن تلك القرى والجماعات القبلية المتحالفة مع طالبان، فإن العديد من المزارعين في شرق أفغانستان كانوا يسعون للسلام، ولكنهم مقيدون بقيود طالبان التي طوقت حركة المدنيين.

هيكلَ مجلس شورى كويتا حكام الظل لضمان أنهم اتخذوا إجراءات لكسب المجتمعات، مثل حظر عمليات الإعدام التعسفي والحد من الهجمات على المعلمين والمسؤولين الصحيين.

وحددت طبعتا 2007 و2010 من صحيفة "الليلة" إجراءات للمجتمعات لتقديم شكوى إلى مجلس شورى كويتا إذا كان حاكم المقاطعة أو المنطقة شديد القمع أو الفساد. وتم استبدال اثنين من حكام المقاطعات في سنجين عام 2009، أحدهما للسماح لمقاتلي طالبان بمهاجمة المزارعين المحليين الذين تلقوا مساعدات زراعية حكومية والآخر بسبب إدارته المتشددة إزاء العدالة.

كما اتخذت طالبان إجراءات لتعزيز التسلسل القيادي العسكري وتحسين التزام القادة الميدانيين بتوجيهات كويتا، في حين تراجعت الهجمات على المدارس وعمليات القتل خارج نطاق القضاء في عامي 2010 و2011.

كيف حققت طالبان التكيف العسكري مع الوضع القائم حولها؟

لقد أثبتت طالبان أنها خصم يتمتع بقدرة عالية على التكيف العسكري خلال الحرب مع السوفيات؛ حيث طور المقاتلون الأفغان خبرة تناسب تكتيك حرب العصابات، وهو ما شمل على وجه الخصوص زراعة الألغام ونصب الكمائن للقوافل، والقيام بغارات ضد القواعد العسكرية، كما اكتسبت طالبان في الحرب خبرة تكتيكية كبيرة وقدرة عالية على التكيف رغم سقوط الإمارة الإسلامية.

وشكل الهيكل التنظيمي الفضفاض لطالبان -القائم بشكل أساسي على عدد كبير من الجبهات شبه المستقلة المرتبطة بمختلف مجالس الشورى- مشكلة أساسية لمجلس شورى كويتا في ما يتعلق بإدارة المجهود الحربي. في البداية، حاول مجلس شورى كويتا الحصول على جبهات للتعاون من خلال تقديم حوافز مالية، وحاولت حركة طالبان أيضا حشد القوات عن طريق نقل الجماعات المقاتلة ذات الخبرة عبر المحافظات، وبحلول عام 2008 أدركت قيادة طالبان أن هذه المحاولات غير مجدية.

بدأ مجلس شورى بيشاور تطوير نظام قيادة أكثر مركزية لمقاتلي طالبان في الشرق والشمال الشرقي لأفغانستان، وتضمن هذا النظام الجديد إنشاء لجان عسكرية إقليمية لتخطيط عمليات واسعة النطاق، ولإدارة اللوجستيات، والتعامل مع النزاعات بين قادة الجبهات، بالإضافة إلى تعيين مفوضين عسكريين محليين لضمان امتثال القادة الميدانيين للتوجيهات من مجلس شورى بيشاور، وهو تكيف هيكلي يخدم الجانب العسكري.

   

أسهم الدعم العسكري الباكستاني المكثف لطالبان، بما في ذلك توفير المستشارين العسكريين، في إنشاء هذا الهيكل التنظيمي وتشغيله؛ تشكلت شورى بيشاور جزئيا من فصيل منشق عن الحزب الإسلامي في عام 2006، وبهذه الطريقة دخلت أفكار الحزب الإسلامي عن كيفية تنظيم التمرد إلى حركة طالبان.

أسهم الدعم العسكري الباكستاني المكثف لطالبان، بما في ذلك توفير المستشارين العسكريين، في إنشاء هذا الهيكل التنظيمي وتشغيله.

تشكلت شورى بيشاور جزئيا من فصيل منشق عن الحزب الإسلامي في عام 2006، وبهذه الطريقة دخلت أفكار الحزب الإسلامي عن كيفية تنظيم التمرد إلى حركة طالبان.

تم تبنّي هذا النظام الأكثر مركزية لاحقا، مع بعض التردد من قبل طالبان الجنوبية لدى تعيين الملا عبد القيوم ذاكر رئيسا للجنة كويتا العسكرية في عام 2009؛ عين برادر ذاكر للإشراف على لجنة كويتا العسكرية، وتمكن ذاكر من ضمان انتشار النظام المركزي الجديد عبر الجنوب، كما كانت المساعدات الخارجية التي تتدفق عبر باكستان منذ 2008 موجهة بشكل متزايد نحو شورى بيشاور، فسمح ذلك لهم بزيادة الإنفاق التدريجي على مجلس شورى كويتا في تمويل الحرب، وهو ما جعل جهود طالبان العسكرية أكثر احترافية.

كتاب

كيف تكيفت طالبان تكتيكيا مع تغير الأوضاع العسكرية من حولها وكيف تجلى ذلك في اختيار السلاح المستعمل؟

قامت طالبان بتكييف تكتيكاتها ردا على ضغوط ساحة المعركة؛ ففي هلمند على سبيل المثال استخدمت طالبان هجمات المشاة التقليدية في عامي 2006 و2007 في محاولة لاجتياح البؤر الاستيطانية البريطانية. عدد قتلى طالبان بفعل هذه العمليات غير محدد، لكن استخبارات الدفاع البريطانية قدّرتهم بالآلاف.

استجابة لهذه الخسائر المتزايدة، تكيفت وحدات طالبان الميدانية من خلال التحرك نحو استخدام تكتيكات جديدة. وحسب مقابلات قمت بها مع قادة طالبان، أكدوا أن ضرورة تقليل الخسائر في ساحة المعركة هي التي غيّرت تكتيكاتهم؛ وكمثال للتكيف التكتيكي إصدار لجنة كويتا العسكرية في عام 2010 أمرا عاما يوجه الوحدات الميدانية إلى تجنب القتال المباشر والاستفادة بشكل أكبر من تكتيكات حرب العصابات.

كما استعانت الطالبان بعدة حربية متناسبة مع تكتيكاتهم، بما في ذلك إدخال المدافع الرشاشة الثقيلة المضادة للطائرات ومدافع الهاون الثقيلة والأسلحة المتقدمة المضادة للدروع واستخدام بنادق القنص والعبوات الناسفة، واعترف القادة الذين تمت مقابلتهم أنهم تلقوا هذه المعدات العسكرية من إيران وروسيا كما تلقوا التدريب من باكستان.

كان أهم تكيف عسكري مرتبط بالتكنولوجيا العسكرية قامت به طالبان هو الانتقال إلى استخدام العبوات الناسفة على نطاق صناعي، وهو ما طبقته في كويتا وبيشاور؛ إذ أنشأت طالبان لجان ألغام لقيادة هذا الجهد. ففي عام 2006، كان نحو 30% من جميع وفيات التحالف بسبب العبوات الناسفة، وفي العام التالي ارتفعت الحصة إلى ما يقرب من 40%، ومن عام 2008 إلى عام 2010 كانت العبوات الناسفة مسؤولة عن أكثر من نصف وفيات قوات التحالف.

ومع حدوث تحول في التكتيكات، جاء نظام تدريب عسكري جديد مدعوم بتوجيهات من كويتا وبيشاور تجبر القادة التكتيكيين على الخضوع للتدريب وتلقي المشورة بانتظام بشأن تكتيكات حرب العصابات. وحسب ما أفاد به أحد قادة طالبان في هلمند في أوائل عام 2012، فإن التركيز ينصب على التدريب على العبوات الناسفة، وصنع سترات الفدائيين، والاستعداد لقاذفات الفدائيين والقتال وفق حرب العصابات.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي