منحوتات بغداد بين الفن والسياسة: تمثال فائق حسن يعيق (المترو)!

2021-11-22

جمال العتّابي

تعتمد الرؤية الجمالية في النصب والتماثيل على مجموعة من الاتجاهات، والتقاليد الفنية الجمالية، والخبرات التي يتفاعل معها الفنان والمتلقي، وشهدت بغداد العاصمة منذ التماثيل الأولى، التي نحتها الفنان الإيطالي بيترو كانونيكا أستاذ النحت في أكاديمية الفنون الجميلة في فينيسيا، البدايات الأولى في الالتفات لتأسيس ذائقة بصرية، تشكلها التماثيل المنصوبة في الفضاء العام، وكانت تلك التماثيل تمثل ركائز النظام السياسي الملكي في العراق، وهي تمثال الجنرال مود القائد البريطاني، الذي احتل العراق، وتمثال الملك فيصل الأول، والآخر الثالث لعبد المحسن السعدون.

وخارج هذا السياق، اتجهت أمانة العاصمة في أوائل الأربعينيات نحو حملة لتجميل الشوارع، فكلفت أحد النحاتين الروس، إسكندر الروسي، بتشييد نافورة من الحجر في شارع الشيخ عمر، تمثل أربعة أسود يندفع من أفواهها الماء نحو حوض دائري، الفكرة مستلهمة من الموروث الأندلسي، وسمي المكان (ساحة السباع) التي شهدت انعقاد أول مؤتمر لتأسيس اتحاد الطلبة عام 1948، وحضره الشاعر الجواهري.

تمكنت المهندسة المعمارية ميسون الدملوجي، في كتابها «منحوتات بغداد بين الفن والسياسة» الصادر عن دار درج للنشر والتوزيع 2021، من تتبع محاولات تأسيس فن نحتي عراقي، عبر التاريخ، ومنذ الحضارات التي قامت في بلاد الرافدين، وأكدت على فكرة استخدام الفضاء العام كوسيلة لاجتذاب المجتمع بعيداً عن الانتماءات الفرعية، والتركيز على إعادة بناء هوية وطنية.

إن مثل هذه الكتابات، من شأنها تحقيق حوارات ثرية لاحقة، تعمق الصلة بمورثنا الفني النحتي، بما يستدعي توظيف قوانا الثقافية والوجدانية، لإضاءة العالم المرئي، وحسم الموقف لصالح الأثر الفني، غير أن الدملوجي، وجهت اهتمام القارئ والمتتبع نحو الجانب التوثيقي في فصول الكتاب الأربعة، في سياق تاريخي، بدأ مع بناء الدولة العراقية في عام 2021، وحسب اختصاصها المعماري، فإنها أنارت جانباً مهما من تاريخ العمارة العراقية في إطارها الكولونيالي، بتأثير المهندسين المعماريين الإنكليز، وكان أثر ذلك واضحاً في مباني جامعة أهل البيت في الأعظمية، والمحطة العالمية في الكرخ للمعماري جيمس ولسن، بلمحات من طراز (الآرت ديكو) الذي لم تقدم لنا الكاتبة تعريفا لمعناه، فظل لغزاً للقارئ غير المتخصص، وهو في الحقيقة، تيار تصميم معماري ظهر في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، يعتمد الأشكال الهندسية البسيطة، والزخارف التقليدية مع المواد الممكنة. ان التحول المهم في العمارة العراقية بدأ في أوائل الخمسينيات، إذ ترافق مع تأسيس مجلس الإعمار العراقي، الذي وجه الدعوة لكبار المعماريين في العالم للمشاركة في برامج التنمية، وكان بينهم فرانك لويد رايت، وكوربوزييه (صمم قاعة الألعاب المغلقة قرب ملعب الشعب) ووالتر كروبيوس، وغيرهم من المعماريين الحداثويين.

وفي الخمسينيات كذلك ظهرت الحاجة لنصب جديدة تنسجم مع متطلبات العهد الجديد بعد تموز/يوليو 58، وشهدت بغداد، ارتفاع نصب الحرية في ساحة التحرير، الذي صممه الفنان الخالد جواد سليم، وشاركه المهندس رفعت الجادرجي بتصميم الجدارية على شكل لافتة تظاهرات.

وفي الخمسينيات كذلك ظهرت الحاجة لنصب جديدة تنسجم مع متطلبات العهد الجديد بعد تموز/يوليو 58، وشهدت بغداد، ارتفاع نصب الحرية في ساحة التحرير، الذي صممه الفنان الخالد جواد سليم، وشاركه المهندس رفعت الجادرجي بتصميم الجدارية على شكل لافتة تظاهرات. وشهدت الخمسينيات التحولات الأهم في ميادين الإبداع العراقي، وكانت الأعمال الفنية النحتية (النصب والتماثيل) التي توزعت في ساحات بغداد، ومدن أخرى، تمثل خبرة تجارب جيل من النحاتين، الذين تمكنوا من إتقان الأساليب الفنية الحديثة، وتأثروا بمدارسها في أوروبا، فقدموا نماذج ناجحة من الأعمال الفنية، ملمّة بموجبات المعاصرة، وبوعي إنساني، وبصياغات غير معقدة في الصورة والرمز والاستعارة، فقاد الفنان العراقي جمهوره نحو أرفع الأحاسيس وأنبلها في جداريات وتماثيل، وأعمال نحتية ظلت خالدة طيلة العقود الماضية. وشهدت عقود الستينيات والسبعينيات، وما بعدهما نهضة جديدة، في انتشار التماثيل والنصب، بمضامين وتوجهات جديدة، وبعناوين وأغراض متعددة، وبمواد مختلفة، شارك فيها جمهرة واسعة من الفنانين، مغامرين في آن، ومجددين في آن آخر، أو متأثرين بالموروث الحضاري والشعبي، بما يتضمنان من أفكار ورموز تمثل حقيقتنا الزمنية، وتواصلها الإيحائي مع المستقبل. كعنصر فعال في نسيج مدينة بغداد، كما تصفها الدملوجي، والكثير منها، ولاسيما التي تستوحي التراث الرافديني، أصبحت رمزاً من رموز الوحدة والهوية الوطنية، لهذا فإن الصراع على إزالة التماثيل والنصب، أو الحفاظ عليها، هو جزء من صراع أوسع بين قوى تتباين في التفكير، والرؤى، والمنهج والسلوك.

إن ما تأسس منذ خمسينيات القرن الماضي، تعرض لأولى محاولات الاجتياح والتخريب والسرقة، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 إن الجرأة في النقد والصراحة في المواجهة، ونبل المقصد، تدعونا إلى إدانة هذه الممارسات ورفضها، فالشعوب المتحضرة تحرص على تراثها الفني والحضاري وتحميه، وعلينا أن نتعلم الدرس من تجارب دول أخرى، وإن تغيرت أنظمتها وحكوماتها.

إن أفكاراً تمثلت بالدعوة لبناء هوية وطنية في النصب والتماثيل، تعدّ آراءً حية ويقظة وغنية، إلا أنها تناولت جانباً من الأزمة، فالوجه الآخر منها يتمثل بغياب التخطيط، وسوء الإدارات التي تسيدت المشهدين الإداري والفني، وعدم تخصصها، وحالة من الفوضى، والتخبط والعبث، وغياب المنهج، تسود العلاقات بين الدوائر ذات الشأن (الأمانة العامة لمجلس الوزراء، أمانة بغداد، دائرة الفنون التشكيلية) بهذا الصدد بودي أن أسوق مثلاً واحداً مضحكاً، ويدعو للرثاء في الآن نفسه إذ اتجهت النية لإقامة تماثيل لرموز وطنية وثقافية وفنية عراقية، في بعض المواقع، على هامش فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية عام 2012، وإن مشروعاً من هذا القبيل يتطلب موافقة أمانة بغداد، كي لا يتعارض و(مترو بغداد!) الوهمي، بمعنى آخر ان تمثالاً للفنان فائق حسن أمام كلية الفنون الجميلة، لا يجوز، لأنه يعيق المترو! وفي ظل المماطلة الفارغة والتسويف، ضيعت العقلية البيروقراطية مشروعاً فنياً كاد أن يجد طريقه للتنفيذ، وما يثير العجب أن هيئة (اجتثاث البعث) منحها الحاكم المدني للاحتلال (بريمر) صلاحيات واسعة في إعادة النظر بمخلفات النظام السابق، فأقدمت على (اجتثاث) نصب وتماثيل جميلة من ساحات بغداد، بقرارات غبية، وحاولت أن تمتد يدها إلى نصبي الشهيد، والنسور، والأسوأ من ذلك أنها أقامت تماثيل بديلة لا تتوفر فيها أدنى المعايير الفنية، والقيم الجمالية، وجرت محاولات أخرى، بإقامة تماثيل مشوهة لا تنتمي لأبسط مفاهيم الذوق بإرادة أشخاص وأحزاب سياسية (إسلامية) حسب الأهواء والولاءات الطائفية، ومن المعيب والمؤسف أن تنتشر بعض الأعمال في ساحات مدن جنوبية، نماذج هزيلة وفاشلة، تمثل حالة من الانحطاط والبؤس، وتحديا لذائقة الجمهور، واستهانة بتراث العراق الحضاري والفني، وبتراث فنانيه ونحاتيه، ودون احترام للجهد الفكري والمعرفي للإنسان في هذا البلد.

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي