سحر إيزابيلا!

2021-11-25

إبراهيم نصر الله

دخلت الكاتبة إيزابيل الليندي الحياة الثقافية العالمية بروايتها «بيت الأرواح» عام 1982 بعد أن تجاوزت الأربعين من عمرها، وخلال فترة قصيرة أضحتْ واحدة من أشهر كتّاب وكاتبات العالم؛ «لقد دخلتُ عالم الأدب بصورة مفاجئة، في سنٍّ لا تطمح فيها نساء أخريات بأكثر من رفو جوارب أحفادهنّ. لقد اقتحمتُ الأدب اقتحامًا، وفوجئتُ بالصدى الذي أثارتْه كتبي، لأني لم أكن أتوقعه».

في كتابها «باولا» الذي تسرد فيه سيرتها لابنتها القابعة في سرير الغيبوبة، تقول إيزابيل الليندي مستعيرة قول إيفالونا، بطلتها: «عندما أكتب أروي عن الحياة مثلما أحبّها أن تكون.. مثل رواية». لكنها حين تتحدّث عن كتابة القصص القصيرة بشكل خاص، وتجربتها مع مجموعتها القصصية «حكايات إيفلونا» التي نحن بصددها، تقول: «في القصة القصيرة كل شيء مرئي، يجب ألا يكون هناك أيّ زيادة أو نقصان، فالمجال مضبوط تمامًا والوقت قليل.. إن كتابة القصة القصيرة مثل إطلاق سهم، حيث لا بدّ من توفر غريزة وممارسة ودقة رامي القوس الجيد، والقوة اللازمة للإطلاق..»

في مجموعتها هذه التي ترجمها «صالح علماني»، تفاجئنا الكاتبة بخمس عشرة قصة قصيرة تَقلب الكثير من المفاهيم حول طبيعة القصة القصيرة المتعارف عليها، لغة وأحداثًا، وسردًا، فتذهب بحريـة بالغة لا حدود لها لكي تتجوّل في أزمنة متباعدة وفي أماكن يفصل بعضها عن بعضها الآخر بلاد ومحيطات، في قصص لا يتجاوز طول الواحدة منها في الغالب عشر صفحات.

وإذا كانت صفة «رواية الأجيال» ظلّت حبيسة الفن الروائي وسمة من سمات بعض أشكاله، إلا أن إيزابيل الليندي تأتي لتكسر هذا الأمر بجرأة فتقدّم «قصة الأجيال»، حيث يولد جيل ويموت جيل، ويولد جيل آخر بتلقائية مدهشة وغنية، لا فراغات فيها، ولا اختصارات تربك الكتابة أو القارئ، تأتي لتكتب قصصًا روائية؛ ولذا من الطبيعي أن ترد في هذه القصص بعض الجمل مثل: «حين ولج سوء الطالع بيت آل أوريانو ليزرع فيه كوارث متعددة تطلّب جني حصادها انقضاء ثلاثين سنة».

تذهب القصص إلى ذلك الواقع الشرس لحياة البشر في عزلتهم. ولعل فكرة العزلة واحدة من سمات وفضاءات الأدب في أمريكا اللاتينية بشكل عام، إذ إن هذا الأدب وهو يتّخذ العزلة مرجعًا نفسيًّا وجغرافيًّا له، يستطيع بذلك أن يظفر بأدق أحاسيس البشر وأعمق هواجسهم، وعلى الرغم من أن كثيرًا من شخوص الأعمال يذهبون بعيدًا ويعودون، إلا أن ذهابهم وعودتهم ما هما إلا تعميق لفكرة العزلة دائمًا لدى من يعيشها، وزيادة في شراسة طوقها المفروض بقوة الفقر والتخلّف والتّسلط دائمًا.

تلعب إيزابيل الليندي في المنطقة الخفيّة من أرواح البشر، كما يلعب الشعر فعلا، وتذهب بمقدّماتها نحو نهايات مغايرة لمنطق هذه المقدمات، وذلك يعود في اعتقادنا إلى أنها تختبر الحياة، بالقدر الذي تختبر فيه الفن، بل إنها حين تمضي لكشف أبعاد النفس الإنسانية، تحرص أول ما تحرص على أن تذهب نحو أرض طالما زُرعت بالمثاليات والنتائج الجاهزة، تعيد حراثتها لتزرعها بما يليق بها فعلا؛ بالفضاء الملائم كي تتفتح تحته المشاعر الإنسانية بلا قيود. فكأن الإنسان في قصصها يكتشف نفسه وهي تمسك بيده وتقوده إلى مناطقه الوعرة التي في داخله، ولم يسبق له أن ملك جرأة الوصول إلى قرار عبورها، أو تأمّلها من خارج حدوده – حدودها.

في قصة «إذا ما لمست قلبي»، يحبس آماديو الفتاة التي أُعجب بها، قبل زواجه من أخرى بقليل، سبعًا وأربعين عامًا في قبو مظلم، وحين تنكشف جريمته ويحبس، نجدها تذهب حاملة الطعام له قائلة بنبرة اعتذارية لبواب السجن: «لم يكن يتركني أجوع تقريبًا»!

وفي قصتها «كلمتان» تسرد إيزابيل حكاية بيليسا التي تمتهن بيع الكلمات: بخمسة سنتافو تقدم أشعارًا مرتجلة، وبسبعة تحسّن نوعية الأحلام، وبتسعة تكتب رسائل للمحبين، وباثني عشر تُعلّم شتائم محدثة لأعداء لدودين، ومن يشتري منها بخمسين سنتافو تهمس في أذنه بهدية هي كلمة سرية لها قدرة على إبعاد الكآبة، ولم تكن تقول الكلمة نفسها للجميع بالطبع. وهي تدرك أهمية الصدق: لقد باعت بضاعتها لسنوات دون أن يخطر ببالها أنه يمكن للكلمات أن تُكتب أيضًا.

في قصصها تولد طفلة وتموت أمها، وما يلبث الأب أن يقضي حزنًا، يربي الطفلةَ عمُّها الذي يغدو وصيًا على أملاكها، وتكبر الطفلة ويعمل العمّ ما استطاع على أن تتزوج ابنه، وتتزوجه فعلًا، وتنجب، ولكنها تحس دائمًا -وكما رأت في أحلامها- أن من كان يكتب الرسائل لها أثناء دراستها ليس ابن عمها، بل شخص آخر تراه في الحلم قبيحًا ومشوهًا ووجهه محفور بسبب إصابته ذات يوم بالجدري، وأعرج ونصف أصلع.

ولعل ما يلفت الإنتباه كثيرًا في لغة إيزابيل الليندي في مجموعتها هذه وفي رواياتها أيضًا، تلك اللغة المتأملة غير العادية، حيث تقول: «إن الكلمات كالعصافير، تمضي طليقة دون نظام ولا وعي، وفي إمكان أي كان بقليل من السّحر أن يحبسها ويتاجر بها». ثم تلك الأبعاد الشعرية والفلسفية في اللغة: «حيث على المعلمة أن تمضي يومين كي تستطيع تنظيف الغرفة من رائحة الرّعب، في «نـزيل المعلمة»، وفي «أستير لوثيرو» يهيأ للناس أن الدكتور يستطيع أن يتكلم مع الكواكب..

إن البنية العامة لحكايات إيفالونا تنتمي في الحقيقة إلى بنية الحكاية الشعبية بشكل عام أكثر مما تنتمي لبنية القصة القصيرة، ففي الحكاية الشعبية نرى الملامح كلّها التي تتميز بها قصص إيزابيل الليندي، ونلمس ذلك الانتقال العجيب بين الأزمنة والأمكنة، بين الطفولة والشيخوخة، بين الواقعي والسحري، رغم أنها تقول في سيرتها حول هذه المجموعة: «لقد كانت تلك القصص مُرسلة من بُعد آخر، فقد تلقيتُ كل قصة منها وهي مكتملة تمامًا من الجملة الأولى وحتى الأخيرة، مثلما أتلقى تفاحة، ومثلما تلقيتُ من قبل قصة «كلمتان» أثناء اختناق في حركة السير في كاركاس».

لكن قول إيزابيل على ما فيه من جمال، ليس فيه الكثير من الحقيقة، إذ لا يمكن أن يكون المبدع في النهاية جهاز استقبال لموجات صادرة من أماكن بعيدة، وإن زُين له ذلك وتخيّله، لأنه لا يمكن أن يكون مجرد صفحة بيضاء‎، أو مادة خام، فالكتابة تبدأ وتنتهي، في، وعبر، مصفاة ذاتٍ واعية جماليًّا وإنسانيًا، تزن الأمور بميزان الروح والوعي معًا، ولذا من السهل أن تذيب وعيها ورؤياها الإنسانية وهي تعبر عن حيوات أخرى بسلاسة لا يستطيعها جميع الناس.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي