سؤال السؤال

2021-11-26

منير الهدهودي ـ حمادي تقوى

ما الدافع إلى التفكير في موضوع ما؟ إنه السؤال نفسُه

يتجلى موضوع التفكير مدفوعا بالسؤال، يتخذ الأول من الثاني منطلقا، بل إن طبيعة السؤال تُقِيم للموضوع إطاراً، ترسم له حدودا. بهذه الطبيعة ترتسم غايات السؤال، ويبرز جزء من «الأجوبة» التي يتطلع إليها المتسائل.

ليس سؤالا ذلك الاستفهام الذي تحركه اللهفة لتبرير جاهزية الجواب؛ ليس سؤالا ذلك الذي لا يملك الجرأة على تجاوز الدوكسا: ذاك الذي لا يعدو كونه حجة تبريرية للجواب. ذلك أن الانطلاق من الجواب يكبح مناورات السؤال، إذ يرغمه على التخلي عن الارتياب والتوجس من الأشكال التي يبشر بها الجواب في يقينه ووَهْمِ امتلائه. لا يكون سؤالا ذلك الذي يسعى، في أقصى تجلياته، لأن يبرر الواقع عوض تفسيره.

السؤال تفجير للمفارَقات داخل انغلاق الدوكسا.. إنه محاولة لا تنفك تفضح المفارقات وتكشفها وترصدها وتحدد طبيعتها وأطرافها. من هنا تلك القدرة الذاتية للسؤال على توليد أسئلة فرعية، تحُوزُ طاقةً تُمكِّنها من تجزيء السؤال – الكتلة إلى شظايا أسئلةٍ تفسر العلاقات المشكِّلة للموضوع. يولد السؤال من معترك الواقع، لذا فإنَّ تحقُّقَ وعيٍ ما به (الوعي الذي ينفصل عن الإدراك الحسي للعالم) لا يكون خارج نسيج العلاقات التي بها يتجسد الواقع.

يُحصّن السؤال انتسابَه إلى التفكير الفلسفي، فالسؤال في «جوهره» سؤال عن الوجود، وما المعرفة في تشعباتها إلا أعراض لهذا «الجوهر» من جهة، ومحاولات حثيثة لاقتراح أجوبة تضمن استمرارية الوجود من جهة أخرى. فروع المعرفة في هذا المعنى تحقُّقٌ للوعي بالسؤال، غير أن هذا الوعي يحمل في نواته بذرة تجدده (ومن ثم نضجه) أمام قوة السؤال. ولأن الوعي يجتهد كي ينضج (ويصير أهلا لمجابهة تلك القوة) فإن مستوى هذا النضج يقاس بمدى مسايرته لأهوال السؤال. الوعي في نضجه مشاركة حية لحركة السؤال، أما الجواب فمحاولة لتثبيت حركة الوجود التي ليست إلا حركة السؤال. الشاهد على محاولة التثبيت هذه أن الدولة تقترح نفسها جوابا عن سؤال الاستمرارية، اقتراح كهذا قد يصل إلى مستوى الزعم بأنه الإجابة الوحيدة والنهائية عن سؤال الاستمرار، مع ما ينطوي عليه هذا الزعم من رغبة في إلغاء السؤال، رغبةٌ تمارس عنفا على فعالية التفكير. يجري تعدين السؤال في مصنع التفكير، ومعه تغدو الحاجة ملحة لإبداع المفاهيم. بهذه المفاهيم يتكون مستوى من الوعي له القدرة على إنتاج الأسئلة؛ إنتاج يحرص على «تعميق» السؤال ودفعه إلى اختبار صلابته في الواقع الذي هو أرضه وموطنه ومعترك فعله وحاضن تطوره. إنها الحركة اللانهائية لجدل الفكر والواقع.

لعل ما يعوز الجواب من قوة عائد إلى كونه يتغذى على الوعي المتحقق بماضي السؤال، بما تجاوزه السؤال. في الجهة المقابلة يخطو السؤال نحو المستقبل. الجواب، حسب هذه الرؤية، يتحرك في فضاء الوعي ذاك الذي تجاوزه السؤال. ولأن الجواب يستشعر في فضاء الوعي تجليا للحقيقة، فإنه يصارع لإيقاف حركة السؤال وتعطيل صيرورة الوجود. حينها يصير الجواب توأما للسلطة، يغدو عنفا ووثوقية عمياء. في الضفة الأخرى يتخذ السؤال هيئة الحرية والتدفق.

قد يشيخ فكر ما حين يتخلى عن حيويته النقدية، فيستسلم للبداهة والجاهز. أما السؤال فوحده يحافظ على طفولته الأبدية. ربما لأن أكثر الأسئلة قدرة على الصمود أمام أي شكل من أشكال اليقين أو الجمود أو سلطة الدوكسا وتَكَلُّسِها، هي تلك التي يطرحها الأطفال.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي