"أشجار غير آمنة" لدارين حوماني: سيرة الذّات الموجعة

2021-12-05

نبيل مملوك

تتخذ #دارين حوماني ال#شعرَ من خلال نصوص مجموعتها الشعرية الجديدة "أشجار غير آمنة" الصادرة عن دار النهضة العربية طبعة أولى 2021 الشعر منبرًا لسرد سيرتها الذاتيّة ومناجات الأنا في داخلها وتبرير تواجدها وتآلفها مع الموجدودات معرّجة على الأحداث الاجتماعية والسياسية من خلال وضع رؤيتها وكسر التشيّوء والترميز وغيرها من التفنيات الشعريّة التي تتسلح بها القصيدة المكتوبة بالنثر أو بالأحرى القصيدة العصريّة.

المجموعة التي تتألف من 120 صفحة، تفاوتت إيقاعات نصوصها بين السريع المصحوب بالتكيثف والسريع المعتمد على السرد الشعريّ الذي اختارته الشاعرة للبوح والتعبير بعيد هجرتها وانشقاقها عن المحيط الإجتماعيّ المؤلم كما يظهر الإهداء "إلى مكتبتي التي آلمني جدًا فراقها حين هاجرت".

أوجه الموضوعاتيّة والترميز

يصعب على المتلقي أن يحدّد حين يطالع المجموعات الشعريّة لا سيّما الحديث منها الثيمة أو الموضوعة الواحدة التي يبنى عليها الكتاب الشعريّ، وهذا ما يسوغ ما قدّمته حوماني من تعريج على عدة موضوعات في قصائد لم تخلُ معظمها من حضور ضمير المتكلم الدال على وجوديّة الذات وتواجدها.

وإذا أردنا انتقاء بعض الموضوعات التي تناولتها الشاعرة، يمكننا البدء بالسيرة الذاتية السريعة التي قدمتها من خلال قصيدتها الأولى "اكتبي الشعر أولاً" وهي تحمل عنوانًا ومطلعًا إيعازيّين تتوجه بهما حوماني للمرأة والمرأة الأم "أكتبي الشعر أولاً/ قبل تعليم أطفالكِ/ وقبل أن تبدئي التفكير (ص.9)، كما للّهو الكامن في جهازها النفسيّ الذي يضج بالرغبات والرومنسيات المتراكمة "أريد أن أجلس معك على طاولة/وأن أحبّكَ أكثر" (ص.10).

ويتواتر ذكر الجانبين الفكري والمعرفي للشاعرة من خلال عدة نصوص "سيلفيا بلاث كانت مُحقّة/ أي طقوس من الكلمات/ يمكن أن ترمم الخراب"(ص.40)، و"سارتر قل لي الحقيقة/ لا تكن مزيّفًا إزاءها"(ص.57)، وسلّطت الضوء على الكوارث الاجتماعية والسياسية  المتلاحقة والمتراكمة التي عصفت بلبنان وعاصمته خلال العقد الماضي في قصيدة حوادث سيئة السمعة "ثمة ما يوحي على التراب/ ما يوحي بحوادث سيئة السمعة/ حصلت على مدى خمسة عشر عامًا/ حين خذل الإله ومحبوه بيروت"(ص.33). وتضعنا حوماني من خلال هذه الثيمة أمام إشكالية وتناص أدبي مطروحين لدى أدونيس في قصيدته الوقت: "أترى قتلك من ربك آتٍ/أم ربك من قتلك آتٍ؟".

 وبالرغم من تعدد الموضوعات والثيمات وتوزعها على مختلف النصوص التي شكلت هذه المجموعة الشعريّة، إلّا أن رموزًا محدّدة قد تواترت وتكررت في غير نص شعريّ،  منها رمز الموسيقى (حوالي خمس مرات) وما يتّصل بمعجمها كالصوت/الرقص/ عازفين إلخ...  في دلالة واضحة على رغبة الشاعرة بالافصاح عن توقها للصوت والإيقاع والهروب من الألم الذي رافقها مع الصمت قبيل هجرتها.

ورَمز الأشجار الذي توّج في عنوان "أشجار غير آمنة " ونصّ "شجرة ضعيفة " وغيرها من القصائد، دلّ على ما تحمله أشجار أو نصوص المجموعة من مآسٍ شخصيّة وعامّة  خالية من أوكسيجين السلام والأمان الذي تبحث عنه حوماني: "ما أريد قوله حزين جدًّا/ قد يؤلمكم سأحمله في ظلي فقط..." (ص.44)، و"أريد أن أضحك بلا أسباب مهمة " (ص.46).

إذن، تنوّعت وتفاوتت الموضوعات داخل المجموعات الشعرية، ما ولّد ظلالًا وأوجهًا عديدة للموضوعاتية وخلق مجالاً خصبًا للرموز والترميز رغم تركيز الشاعرة على المعنى أكثر من زخرفة اللفظات.

 كسر التشيّوء وبروز الشعريّة

سعت حوماني من خلال لاوعيها في  عدة قصائد الى كسر التشيوء (أي جعل الموجودات جامدة) من خلال إعطاء الأمكنة والذات حق الوجود أي تعميم الوجودية، لا سيّما خاصيّة حق الاختيار التي تحدث عنها سارتر في محاضرته التي رد فيها على الكاثولكيين والماركسيين بـ" أريد أن أنتمي لأهدأ" (ص.46).

 واستخدمت الشاعرة عامل التساؤل لإزاحة التشيوء عن الموسيقى التي تشكل إحدى الرموز الرئيسة في المجموعة: "هل كان يحب الرسم  والموسيقى  والكلمات" (ص.51) في معرض تساؤلها عن الله وطبيعته في قصيدة "هذا الكوكب من نافذتي"، وتطرّقها لجائحة كوفيد-19 من خلال إعطائها صفة إنسانية سلبية تجعلها كائنًا حيّصاً مليئاً بالانتقام: "قد يعجز الوباء عن قتل كل من يريد قتله/ فقد امتلأ بالحقد"(ص.53).

وبالرغم من كل ما يوحي بفعل السردية الشعريّة من عزم الشاعرة على سرد سيرتها الذاتية ونظرتها الحاليّة للمحيط والكائنات والمجتمع والماضي والحاضر "صورة لي  منذ ديسمبر 1977/ كانت تكفي لأحدق في هذ الزمن مرارًا/ بحزن بالغ " (ص.11)، إلّا أنّ الشعريّة في هذه المجموعة حاضرة بعواملها الخارجيّة تحديدًا أي على الصعد الاجتماعي والسياسي والنفسي، من خلال قصائد :" حوادث سيئة السمعة في بيروت"، "لستُ بخير"، "خيار أخير للتنفس"، "مواجهة أصنام هذه الأرض"... وهي خير دليل على انسلاخ الشاعرة العبثي عن عالمها وماضيها وبروز عقدة النكوص المتمثلة بالعودة للحظات البريئة والحالمة العودة الى التسويغ والتبرير الى ما تم فقده (خصيصًا الأبوّة) في قصيدة "قبر أبي" التي أظهرت مدى ارتباطها بالأبوة التي تركها والدها تفوح في الأرض "الطريق إلى المقبرة حيث يرقد أبي/ مكسوّ بغطاء من العشب... بإمكانك أن ترى الآلهة على براءتها". (ص.49).

لقد كشفت النّصوص عن تجربة غنيّة تضعنا أمام الهروب الذي تحاول الشاعرة صناعته من خلال الشعر، إلا أن الشّعريّة بأوجهها الاجتماعي والنفسي تحاوطها وتحاصرها، مرغمةً إياها على العودة للماضي القريب والبعيد.

حاولت دارين حوماني فإذن أن تكون الشاعرة التي تعترف على مذبح الشعر بكل شيء، إلا أنها قد جرفت محيطها والأمكنة معها على أنها كائنة حيّة تعاني ما تعانيه وتفهم المناجاة والصوت الحواري الواحد (مونولوغ) المنسحب على المجموعة ككل لعله يكون الصدى الذي يعطي لأشجارها- نصوصها صفتها الآمنة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي