الشائعة ليست كاذبة بالضرورة

2022-01-14

الشائعة أبعد ما تكون عن الغموضمحمد الحمامصي*

 

يؤكد المفكر الفرنسي جان نويل كابفيرير في كتابه “الشائعات.. الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم” أن الشائعة أبعد ما تكون عن الغموض، بل إنها تخضع لمنطق قوي من الممكن تفكيك آلياته.

ويشير إلى أنه سواء كان الأمر متعلقا بالسياسة أو بالتسويق، تسمح طبيعة التحديات المتصلة بالإمساك بزمام السلطة والهيمنة على الأسواق، للشائعة بأن تصبح جزءا من الأدوات التقليدية المعتمدة للإقناع وتقويض الآخرين وتضليلهم، ويجب ألا يكون ساذجا عالم الاجتماع الذي تواجهه شائعات كهذه. فظهور الشائعات في هذه الحالات ليس تلقائيا، وإن إقناع العامة بها العنصر الحاسم الذي يفسر نجاحها، والواقع أن تحديد مصدر الشائعات ضروري لشن الهجوم المضاد.

تركيب الأحجية

يصف كابفيرير الشائعة بأنها “تطير وتزحف وتتعرج وتعدو، وهذا ما يجعلها على المستوى المادي أشبه بحيوان مباغت وسريع الحركة يتعذر أسره، ولا ينتمي إلى أي فصيلة معروفة، أما تأثيرها في البشر فأشبه بالتنويم المغناطيسي، وخصوصا أنها تبهر وتغوي وتسحر الألباب وتلهب الحماسة”.

ويشير إلى أن الشائعة تنتشر في كل مكان بغض النظر عن طبيعة البيئة التي تحكم حياتنا الاجتماعية، وهي أقدم الوسائل الإعلامية في التاريخ، فقبل اعتماد الكتابة كانت المشافهة هي قناة التواصل الوحيدة بين المجتمعات. وكانت الشائعة وسيلة لنقل الأخبار وبناء السمعة أو تقويضها وتأجيج الفتن والحروب. ويبدو أن حضور الصحافة ومن ثم البث الإذاعي وختاما فورة الإعلام المرئي والمسموع، لم تستطع إخماد الشائعة. فبرغم تكاثر الوسائل الإعلامية، لا تزال العامة تستقي الكثير من معلوماتها من المحادثات الشفوية، بل إن جل ما فعلته الوسائل الإعلامية الأولى، بعيدا عن إخماد الشائعات، كان جعلها أكثر تخصصا، بحيث باتت كل وسيلة تنشر الشائعات في مجال محدد وخاص بها. ومع ذلك لا تتوفر لدينا معلومات كثيرة عن الشائعات، علما أن كل ظاهرة اجتماعية على هذا القدر من الأهمية تستحق في الغالب أن تكون موضع دراسة أكثر تعميما. لكن يبدو أن الشائعة التي تعتبر حدثا غامضا وشبه سحري لا تزال تشكل فضاء مبهما.

ويرى كابفيرير في كتابه، الصادر عن دار الساقي ترجمة تانيا ناجيا، أن ما يميز محتوى الشائعة ليس طابعها المثبت أو غير المثبت، وإنما مصدرها غير الرسمي. فلنفترض مثلا أننا علمنا من بعض المعلومات المسربة، أن رئيس الجمهورية مصاب بداء سرطاني، فهل يكفي ذلك أن يكذّب الرئيس الخبر كي تصبح فرضية انتفاء المرض مثبتة وفرضية وقوعه غير مثبتة؟

الواقع أن التثبت من صحة المعلومة لا ينفصل عن الشخص الذي يتولى مهمة التحقق من صحتها، كما لا ينفصل عن الثقة التي نمنحه إياها، لكن المعيار بعيد من الموضوعية بعدا يجعله غير كاف لاستخلاص تعريف متين للشائعة. وفي المقابل في مرحلة ما من حياة مجتمع ما أو جماعة معينة، يتجلى التوافق على هوية المصادر المصنفة “رسمية”. وبرغم عدم الاعتراف بصدقية هذه المصادر، فإنها تبقى “رسمية” أي مؤهلة قانونيا لبث المعلومات.

نطلق من ثم تسمية “شائعة” على ظاهرة بروز معلومات وانتشارها في المجتمع لم تؤكدها المصادر الرسمية علنا، أو على العكس عمدت إلى تكذيبها. ويمكن القول إن الشائعة هي ما لا يصرح به إما لأنها تتفوق على المصدر الرسمي “الشائعات المتعلقة بالاستقالات أو تراجع المكانة”، وإما لأنها تتعارض معه “كالشائعات التي انتشرت عن المذنبين الفعليين في جريمة جون كنيدي”.

ويتابع كابفيرير أنه يبدو جليا أن ظاهرة الشائعة سياسية بقدر ما هي اجتماعية. فمفهوم المصدر “الرسمي” مفهوم سياسي يحكمه توافق هوية الجهة التي تتمتع بسلطة قانونية تخوّلها الحديث في هذا الموضوع أو ذاك، وإن لم تكن هذه الجهة غير مؤهلة لذلك على المستوى الأخلاقي. وانطلاقا من هذا الواقع يمكن القول إن السلطة هي موضوع الشائعة. فإذ تفضح الشائعة الأسرار وتقترح الفرضيات، تجبر السلطات على الكلام، وإن كانت تنكر على هذه السلطات الحق في أن تكون المصدر الوحيد المخوّل الكلام.

أضف إلى أن التداول في الشائعة يبقى وليد فعل عفوي وتلقائي لا ينتظر دعوة من أحد. والشائعة كثيرا ما تعبر عن موقف معارض، خصوصا أن التكذيب الرسمي لها لا يقنع الجماعة، كما لو أن صفتي “الرسمي” و”الموثوق به” لا يمكن أن تجتمعا. ومن ثم تشكل الشائعة شاهدا على الارتياب في السلطات وفي هوية من يملك حق التحدث في هذا الموضوع أو ذاك. وإذ تحمل الشائعة معلومة موازنة وأحيانا مناقضة للخبر الرسمي، يمكن اعتبارها سلطة مضادة.

ويقول كابفيرير “كثيرة هي الشائعات التي يتمثل مصدرها بحادث أو واقع محيّر. فالشائعة هي تجييش اهتمام الجماعة؛ وفي سياق تبادل الشائعة تباعا، تميل الجماعة إلى إعادة تركيب الأحجية المكوّنة من أجزاء مبعثرة من القصص التي سردت على مسامعها. وكلما قل عدد الأجزاء، ازداد تأثير العقل الباطن للجماعة على تأويل المعلومة. وبالعكس، كلما ازداد عدد الأجزاء، أصبح التأويل أكثر اتفاقا مع الواقع الفعلي. وإذ ذاك، تنتشر الشائعة التي ترتكز على أكثر التأويلات إرضاء، خصوصا أنه يعلق في الذاكرة دون غيره. ولنأخذ مثلا على ذلك حادثة وقعت في الماضي القريب”.

الشائعة ليست كذبة

يرى كابفيرير أن لكل شائعة سوقها، وقد درجنا عموما على القول إن الشائعة في كل مكان، وإنها تنتشر في أنحاء المدينة كلها، لكن الحقيقة أن جزءا فقط من المدينة يسمع بها، وجزءا أصغر يصدقها. ومثال على مثال منشور فيلجويف الذي شاع بسهولة في الأوساط الفرنسية منذ العام 1976، والذي أصبح نموذجا للتحقيق في تغلغل الشائعة، فمن الفرنسيين من قرأ المنشور وتسلمه باليد؟

لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا المنشور، وبعد مرور عشر سنوات على صدوره، بلغ بتأثيراته منزلا فرنسيا واحدا من أصل ثلاثة منازل. إن التدقيق في مسار تسرب هذا المنشور إلى طبقات المجتمع المختلفة، يكشف عن مظاهر تنافر حادة. ففي أوساط المهن الحرة والكوادر العليا، قرأت ربتا منزل من أصل ثلاث هذا المنشور. أما في أوساط الموظفين والكوادر من المستوى المتوسط، فبلغ المنشور ربة منزل واحدة من أصل اثنتين؛ وفي محيط العمال وقع المنشور بين يدي ربة منزل واحدة من أصل ثلاث. ويبدو عموما أن المنشور بلغ بنسبة أكبر العائلات التي تضم أطفالا فقراء، فقرأه 50 في المئة من العائلات التي تضم أطفالا و30 في المئة من العائلات التي لا تضم أطفالا و17 في المئة من غير المتزوجين. كذلك تبين أن التعميم انتشر بنسبة أكبر في أوساط الزوجات الشابات.

ويقول المفكر “لا شك في القول إن لكل شائعة جمهورها الذي قد يثير الغرابة أحيانا، فنتيجة لسوء استخدام اللغة، كثيرا ما يتم الحديث عن الجمهور الكبير كما لو أنه كلٌّ متجانس مهيأ على أبسط شائعة كشخص واحد. وفي واقع الأمر إن كل شائعة تتناول حدثا محددا وخاصا. أما جمهور الشائعة فيشمل أولئك الذين يشعرون بأنهم معنيون بتداعيات الحدث موضوع الشائعة”.

جان نويل كابفيرير: الشائعات تخضع لمنطق قوي من الممكن تفكيك آلياته

ويضيف “معروف أن التداعيات تختلف بين شائعة وأخرى، وهذا ما يعني أن الجمهور أيضا يختلف بحسب الشائعة. إن لكل محتوى زبائنه فبالإضافة إلى وجوه التباين الاجتماعية أو السياسية أو الاجتماعية الثقافية التي تحدد الميدان المحتمل لشائعة ما، يمكن أن تعزز النفسية الفردية مستوى التأثر بالشائعة. فمثلا وإثر البحث في إحدى الشائعات المتصلة بتجارة الرقيق الأبيض، استنتج بي.بايارد أن أكثر النساء تخوفا من الشائعة كن في سن متقدمة مقارنة بالشابات اللواتي سمعن هذه الشائعة وهن أقل جمالا. فتصديقهن للشائعة يرتكز على أساس نرجسي، ذلك أنهن يثبتن من خلال ارتيابهن في إمكان اختطافهن، أن هذا الاحتمال قائم. أما النساء الأصغر سنا والأكثر جمالا فيبدين ميلا إلى التندر بالشائعة وينشرنها بسبب الإثارة التي تولدها فيهن على أساس مبدأ الفاكهة المحرمة والنرجسية”.

ويعتقد كابفيرير أن لكل مجموعة كبش محرقة مفضل، ويقول “يبدو أن لكل جماعة أو مجموعة اجتماعية كبش محرقة مفضل يكاد يكون ذا طابع مؤسسي. وربما يمكن للباحثين أن يحددوا سوق إحدى الشائعات عن طريق درس كبش المحرقة الذي تقترحه الشائعة، وأيضا عن طريق طرح السؤال التالي: ما الذي يجعله جريا على العادة كبش المحرقة؟”.

ويتابع “مثلا خلال الحرب العالمية الثانية انتشرت الشائعات المعادية للسامية تحديدا عبر الساحل الشرقي للولايات المتحدة حيث غالبية المجتمع من البيض والمسيحيين، أما الشائعات التي تتهم السود بأفظع التصرفات فانتشرت تحديدا في الجنوب، في حين تطرقت الشائعات في الغرب الأوسط مخزن الحبوب الأول في البلاد للإدارة والرئيس روزفلت واتخذت منهما كبش محرقة. ويذكر أن الشكل الأصلي لكبش المحرقة، المسؤول عن خطايانا كلها، يتمثل بالشيطان أو المسيح الدجال”.

ويلاحظ الكاتب أن دراسة الشائعة محكومة إلى اليوم بمفهوم سلبي يعد كل شائعة خاطئة أو وهمية أو منافية للعقل. وكثيرا ما كان يتم التنديد بالشائعات لكونها ضلالا عابرا أو حالة جنون اعتراضية، بل إن بعضهم رأى في تطور وسائل الإعلام فرصة للقضاء على علة وجود الشائعات. لكننا أثبتنا هنا أن هذا المفهوم السلبي لا يستند إلى أي أساس صحيح، خصوصا أنه أفضى بمحاولة فهم الشائعة إلى طريق مسدود.

وإذ ذاك، لبثت غالبية وجوه الشائعة غير مفسرة وموصوفة بالظاهرة المرضية، علما أن هذا المفهوم يبدو على وجه الخصوص محكوما بهاجس الوعظ الأخلاقي والآراء الديماغوجية المسبقة. والواقع أن الوقاية من الشائعات تتحقق بطريقة واحدة هي منع الناس من الكلام. ولا بد من الإشارة إلى أن الهاجس المشروع ظاهريا من حيث نشر المعلومات الموثوق بها فقط، يؤدي مباشرة إلى الرقابة على المعلومات ومن ثم على الحق في التعبير. وإذ ذاك تصبح الوسائل الإعلامية المصدر الوحيد للمعلومات المسموح به. وعليه فلن يكون ثمة وجود لغير المعلومات الرسمية.

تسمية "شائعة" نطلقها على ظاهرة بروز معلومات وانتشارها في المجتمع لم تؤكدها المصادر الرسمية علنا

ويؤكد كابفيرير أنه لا شك في أن هذه الفرضية تجعلنا في صميم علة وجود الشائعات، فالشائعة ليست كاذبة بالضرورة، لكنها حتما غير رسمية، فعلى هامش المعلومة الرسمية، وأحيانا على نحو يناقضها، تشكك الشائعة في الحقيقة الرسمية وتقترح حقائق أخرى. ولا ريب في أن هذا ما جعل الوسائل الإعلامية مستمرة. واعتقد الكثيرون على مدى وقت طويل بأن الشائعة بديل. ففي غياب الوسائل الإعلامية الموثوق بها والمنضبطة، كان لا بد من إيجاد وسيلة إعلامية بديلة تعوض هذا النقص، لكن التعايش بين الوسائل الإعلامية والشائعات يثبت العكس. فالشائعات وسيلة إعلامية مكملة تنقل حقيقة أخرى. علما أن هذه الظاهرة منطقية، خصوصا أن الوسائل الإعلامية كلها تندرج على الدوام في سياق منطق تواصلي تنازلي يتجه من الأعلى إلى الأسفل على ما يراد إعلامها به. أما الشائعة فهي معلومة موازية تخرج عن نطاق السيطرة.

ويخلص كابفيرير إلى أن الشائعات تذكرنا بالحقيقة البديهية، فنحن لا نصدق معارفنا لأنها صحيحة أو مثبتة، فالعكس هو الصحيح إلى حد ما، أي أن معارفنا حقيقة لأننا نصدقها.

وتعود الشائعة لتثبت عند الاقتضاء، أن اليقين ظاهرة اجتماعية، أي أن الصحيح هو ما تعتبره المجموعة التي ننتمي إليها صحيحا. ومن ثم تعود فإن المعرفة الاجتماعية ترتكز على الإيمان وليس على الإثبات. أليس الدين خير مثال عن الشائعة؟ وأليست الشائعة انتشارا للقول المنسوب إلى شاهد أصلي رفيع الشأن؟ المثير للاهتمام أن يسمى هذا المصدر الأصلي الدين المسيحي، الكلمة. الدين كما الشائعة يعبر عن إيمان معد. فنحن نتوقع من المخلص أن يصدق الكلمة ويدعم الحقيقة المكتشفة. كذلك إن إثبات وجود الخالق ليس هو ما يولد الإيمان، بل العكس هو الصحيح. وهكذا نجد أن الاقتناعات الحميمة التي تثير الشعوب لا تنبثق غالبا إلا عن الكلمات.


*كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي