جيل دولوز خارج الفلسفة.. عندما تكون الحياة مسرحا للأختلاف والإبداع

2022-01-19

أوس حسن

ظل النسق الصارم في تاريخ الفلسفة، يهيمن على صورة الفكر لقرون عديدة، فكان منطق الهوية لا يقبل مفهوم الاختلاف، إلا بوصفه صورة للتمايز عن الأصل، فكانت صورة الفلسفة تحتفظ بالعديد من الثنائيات والمراكز، دون الاستيعاب الحقيقي لمفهوم الاختلاف الذي غاب داخل مفهوم الهوية، فظل محكوما بعلاقة المقارنة بشيء آخر، لكن دولوز يرى في الاختلاف، أن يبقى مستقلا حتى داخل فضاء الهوية، دون أن يكف عن أنه تمايز، لكنه في الوقت نفسه، صورة جديدة ناتجة من الفعل الإبداعي، ففي كتابه «الاختلاف والتكرار» يضرب لنا استعارة عن العمق والسطح «يبدو أن القعر يصعد إلى السطح من غير التوقف عن أن يكون قعرا».

لكن هناك صيغة أخرى للعلاقات يقترحها جيل دولوز خارج منطق الثنائيات المبني على التشابه والتضاد، وخارج المفاهيم التي تبحث عن الأصل أو البدايات، إنه مفهوم الكثرة والتعدد اللامتناهي، بل إنها المفاهيم التي تخلق راهن الحياة، ويخلقها راهن الحياة أيضا، وتوجه دفة الوعي نحو كينونات متعددة ومتشظية، يرتحل معها الفكر ليؤسس لحاضرها الأبدي.

جيل دولوز خارج الفلسفة

يعتبر كتاب «جيل دولوز خارج الفلسفة» (نصوص مختارة) من الكتب التي تسلط الضوء على الحيوات التي يقترحها دولوز خارج الفلسفة وداخلها، وينسف كل ما جاءت به الفلسفة التقليدية، التي كانت تقيم علاقتها الفكرية مع الخارج عن طريق الوسائط، لتذوب في الداخل، فينطلق دولوز من مفهوم نيتشه، الذي ربط الفكر مباشرة بالخارج، فالفكر يتوجه نحو الخارج، إذ لا شكل له، فهو يتغلغل وينصهر في جميع الأشياء، فالفكر ليس المرئي والمعبر عنه، وإنما تلك العاصفة المجردة التي تأتي من الخارج لتسلط قوتها على الباطن وتخلخله. إذا كان الفكر ينبع من ممارسة إرادية، عندما يكون الإدراك هو نفسه ما يمكن أن نتخيله أو نتصوره أو نتذكره؛ فلا يكون سوى فعل عرضي، كذلك لا ينتج الفكر من الرغبة الطيبة الحسنة، أو من إرادة البحث عن الحقيقة؛ إنما الفكر يصدر من نزعة إجبار وإكراه تستفز الحواس والمخيلة والذاكرة.

يعتبر جيل دولوز الفيلسوف الوحيد الذي كان مهندسا للفكر، فالفكر يمتلك جغرافيا قبل أن يمتلك تاريخا، لذا فهو يرسم خريطة للفكر بارتحالاته، وتعدده، وذلك التكرار الذي يصنع الاختلاف وإبداع المفاهيم، إنه يخلق الحركة في الفكر ولا يكتفي بالتأملات المجردة، أو في حركة الفكر نفسه. في كتاب «الاختلاف والتكرار» يقترح دولوز مفهوم السيمولاكر، والسيمولاكر هو نسخة باهتة، عن الأصل، واقعة في اللاتشابه، ومفهومه عن التكرار مأخوذ من فكرة نيتشه في العود الأبدي، إلا أنها تختلف عند دولوز، فالنسخ المكررة من الهويات والأشياء، التي تحمل طابع السيمولاكر تحمل قوة إيجابية وتنتج اختلافها في الحاضر. فالمتعدد لا ينحل مباشرة من الواحد، وإنما ينبغي صنعه وإبداعه من عالم فقد المحور والأصل.

قوة الفكر خارج الفلسفة

لاحظ دولوز أن الفكر لا يأتي فقط من الفلسفة، وأصحابها أصحاب الفكر المتعالي، فالفلسفة في نظره أنتجت لنا صورة شعبية عن الفيلسوف رجل الأعالي الذي ينظر إلى سماء غير مادية، لجهله بالأرض وقوانين الطبيعة، فهناك أمراض مزمنة فتكت بالفلسفة كما فتكت بالبشر. إن ارتحال الفكر عند جيل دولوز هو هدم الهوة الأحادية في التفكير، والسفر في مجالات مختلفة للفكر، كالفن والعلم والفلسفة. والسينما، واستدعاء كل هذه المجالات لتفكر في مسرح الحياة. فالعلم هو إبداع الدوال، والفن هو إبداع التراكيب الحسية، والفلسفة إبداع المفاهيم. يجب أن تتخلى الفلسفة عن أوليتها المزعومة في التفكير، فإبداع المفاهيم ليس أقل صعوبة من إبداع التراكيب الحسية، ولا من إبداع الدوال، وهذه الخطوط لا تكف عن التداخل في بعضها بعضا. إنها إيقاعات مغايرة تتشابك مع بعضها داخل حركة الفكر. في كل منا تسكن الكثرة والتعدد والاختلافات، فليس ضروريا عندما نمارس عملية التفكير أن نذكر أباءه وأوصياءه كنيتشه وماركس وفرويد، فالفكر قد يأتي من أشياء بسيطة تتمازج وتتداخل مع بعضها. فالفكر هو هذه القوة المرتحلة والخالقة لكل معنى مستتر في أعماق الوجود.

الحدث والحركة والزمان

حول الحدث وأثره في النفس يستشهد دولوز بأعمال جوبوسكي التأملية حول الحدث والجرح واللغة، يقول بوسكي «جرحي هذا كان موجودا قبلي أنا الذي وجدت لأجسده». كما أن وصفنا للأحداث بأنها ظلم لا نستحقه، وأن نتهم الآخرين بأنهم السبب، هو الذي يجعل جراحاتنا تتعفن، فنحن هنا نقابل الحدث بالضغينة، فلا توجد أحداث حزينة وأخرى سعيدة، فكل حدث مزدوج في تركيبته وشكله مثل الحياة والعواطف الإنسانية، وكل الأشياء في العالم الخارجي، لكن المبدع هو الذي يجسد من معاناته الحقيقية كماله المنشود، فيجب أن نكون جديرين بالحدث لنقطع ولادتنا العضوية الأولى، ونصطنع لأنفسنا ولادة جديدة. إن الضغينة لا تسكن إلا نفوس العبيد، والتحرر منها هو فعل ثوري يصنعه الأحرار.

يصف جيل دولوز حركة الفكر من (أ) إلى (ب)… ومن (ب) إلى (أ) وفي ذلك خاصية تتعلق بصنع المفاهيم المستعادة من أحداث الماضي وتجسدها في الحاضر، عند استحضار صورة تتعلق بحدث ما في الماضي لم يتحقق في حينه، بل تتحقق في المخيال والذاكرة، لتصبح الحياة عبارة عن حاضر أبدي يملأ الزمان. وفيزيائيا فإن هذه الحركة تغير من صفات الجسم المتحرك (الحدث والفكرة). والمكان(أ_ب).. (أ-الماضي، ب – الحاضر). وبناء عليه فإن الزمان هو عبارة عن حاضر ممتد وأكثر اتساعا وديمومة، يمتص الماضي والمستقبل معا، أما الماضي والمستقبل فليسا سوى أبعاد للزمن يصدعان الحاضر ويفتتانه في كل لحظة، والحاضر هو الوحيد الموجود في الزمن، هو اللحظة التي لا سمك لها ولا امتداد.

الفعل الإبداعي بين الأدب والحياة

لا يتم الإبداع عند دولوز دون وسيط، مثل أشخاص عاديين أو فنانين أو علماء أو فلاسفة، أو حتى كائنات حية وجمادات، فالمبدع لا يتكلم بالاستناد إلى ذاته وحدها، مهما كانت أفكاره بديعة، وتخيلاته مميزة؛ لأنه سينتج خطابا تأمليا لا أكثر، فالإبداع هو الذي يؤثر ويتأثر، يطفو في القعر أو يغرق في السطح، دون أن يتخلى عن كينونته واختلافه، الفعل الإبداعي الحقيقي هو فعل مقاومة ضد الموت. أما الكتابة فهي تقع في جهة اللاشكل، أو عدم الاكتمال؛ لأنها قضية صيرورة تتجاوز كل محتوى معيش، وهي عملية تشكل ثم انصهار في الأشياء، فالكتابة كما يقول دولوز ليس أن نكتب مغامراتنا وذكرياتنا وأسفارنا، ولا أن نبالغ في الواقعية أو التخيل.

الكتابة كما يقول مارسيل بروست هي أن نبتكر لغة أجنبية داخل اللغة، أن نصنع شرخا من داخل اللغة؛ ونجر الحياة بكامل تفاصيلها في نظام من التراكيب اللغوية المبتكرة.

الموسيقى والفلسفة

يتطرق دولوز إلى فلسفة فرانسوا شاتليه، وعن حياته في جوار الموسيقى، التي لا تؤكد المعيش ولا المفهوم، لكنها تجسد لنا العقل الحسي، فالفن الموسيقي يتميز عند شاتليه بالبعد المادي للحركات، وفي صورة علاقات إنسانية تنشأ في المادة الصوتية.

يرى دولوز أن الموسيقى المسكونة بالتعالي والملتزمة بالكوني أكثر من اللازم تعمم الدمار وتجعله شاملا، مستشهدا في ذلك بموسيقى فاغنر، لذا فإن الموسيقي عند شاتليه هي أكثر القرارات روعة، وإن ما سيحبه كان أوبرا لفيردي حول بيريكليس

لا تنفصل الموسيقى عند جيل دولوز عن مفهومه للاختلاف والتكرار، والكثرة والتنوع، ما دامت الحياة عبارة عن سطح مقعر، أو قعر مسطح تتجاذبه القوى الخارجية المحرضة على الفكر الإبداعي. الموسيقى المجردة من الروحانيات والتعالي، والمتحققة في المادة والعلاقات، تنتج الحركة وتجعلنا ننتج الحركة، فالموسيقى تشعرنا بالديمومة التي تمر، وبالحدث الذي يتسارع، وتذكرنا بأن مهمة العقل هي إقامات علاقة إنسانية في قلب المادة وفي كل شيء ساكن.

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي