«طبائع الاستبداد ومصارع العباد»: الفكر السياسي للكواكبي في ترجمة ألمانية

2022-05-06

ادريس الجاي

دأب المثقفون العرب، في ترجماتهم إلى اللغة الألمانية، على نقل الأجناس الأدبية من شعر ورواية وقصة وقليل من الأعمال المسرحية، غير أن الباحث والمترجم السوري المقيم في برلين عماد العلي يدخل عالم الترجمة بمغامرة بعيدة عن الأنواع الأدبية ليمنح القارئ الألماني إطلالة مصحوبة بتحقيق على كتاب النظرية السياسية لعبد الرحمن الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذي صدر عن دار LIT للطباعة والنشر.

الكواكبي والربيع العربي

إن قناعة الكاتب التي يشاطره فيها الكثير من الباحثين والمشتغلين على الفكر السياسي وتاريخه، تنطلق من أن تحديد الخصوصيات الفكرية والسياسية لثقافة ما، هو السبيل إلى الاقتراب من هذه الثقافة وبالتالي تحديد موقعها وتجلياتها في الحاضر والمستقبل». ومن هنا جاءت فكرة ترجمة كتاب الكواكبي لتسهم بشكل ما في تقليص الفجوة بين الثقافة العربية والألمانية. وليكون الكتاب مادة يمكن مقارنتها مع ما كتبه المفكرون الألمان والغربيون في موضوع الاستبداد السياسي وتأثيراته على الفرد والمجتمع والثقافة» كما جاء في تصريح عماد العلي لمجلة «الدليل» التي تصدر في برلين. «فالاهتمام ببحث القواسم المشتركة بين نظرية الكواكبي والتحولات السياسية والاجتماعية، « يقول عماد، «مع بداية الربيع العربي هي ضرورة استنطاق للوضع الراهن في العالم العربي من خلال نظرية الكواكبي، رغم كل ما يمكن أن يلاقينا من صعوبات وإكراهات، فالوضع المرضي، القائم على الاستبداد والتعسف والديكتاتوريات، التي واجهت الكواكبي هي الحالة المرضية نفسها التي نعاني منها نحن اليوم». كانت قناعة العلي بمنطقية آراء الكواكبي وتحليلاته للأوضاع السياسية، التي يرى أن بعضها يستلزم البيان والتوضيح، أحد دوافعه لترجمة الكتاب، الذي يتضمن أفكارا وتحليلات تربط بين أفكار المؤلف والواقع العربي الحالي، الذي يعاني من إشكالات مختلفة سياسية، ثقافية واجتماعية واقتصادية أفرزت نتائجها احداث الربيع العربي.

الكواكبي وفكره

يعد عبد الرحمن الكواكبي (1855ـ 1902) أحد رواد النهضة العربية وواحد من زعماء الفكر القومي العربي، الذي يتحدث في كتابه هذا وبلغة مباشرة عن آلية الاستبداد التي تحول المستبد بمجرد جلوسه على كرسي السلطة من بشر إلى إله. لقد جاء فكر عبد الرحمن الكواكبي نتيجة تأثره بمفكرين ورواد حركة الإصلاح الديني والسياسي مثل جمال الدين الأفغاني ورشيد رضا. فبعد دراسته لعلوم الفقه والشريعة، وسع من آفاقه التعليمية والفكرية بدراسة الأدب وعلوم الطبيعة والرياضيات، ما جعله يلتحق في سن مبكرة، في الثانية والعشرين من عمره محررا في جريدة «الفرات» التي كانت تصدر في مدينة حلب. ثم بعد شعوره بأن العمل في هذه الجريدة الرسمية يضيق من أفق عمله ويحد من طموحاته في ممارسة رسالته التنويرية، التي ما فتئ الإعلان عنها في كل مناسبة، من خلال فضح ممارسات الولاة وفسادهم، قام لاحقا وزميله هشام العطر بتأسيس جريدة «الشهباء» انطلاقا من إيمانهما بروح الحرية والمقاومة. غير أن هذه الجريدة لم تصدر إلا خمسة عشر عددا، حيث تم حظرها من قبل السلطات العثمانية، لما كانت تنشره من مقالات نقدية جريئة.

لقد تقلب الكواكبي في عدة وظائف، بين كاتب للجنة المعارف، ومحرر للمقالات ومأمور للإجراءات، ورئيس البلدية. كما قام برحلات من أجل الاطلاع على أوضاع المسلمين في كل من مصر وسواحل افريقيا وسواحل شرق آسيا والصين والهند. مات الكواكبي في ظروف غامضة في القاهرة، سنة صدور كتابه «طبائع الاستبداد» 1902.

يرى الكاتب في عبارات الكواكبي: «إنّه لا نهضة لأمّة دون القضاء على الاستبداد من جذوره». «هي خطاب للإنسان العربي الحالي متضمنا وصلة الوصول إلى الهدف». لقد عمل المترجم ليس فقط على إيصال فكر عربي تنويري إلى المتلقي الألماني وحسب، بل الأوروبي عامة. بغرض «تعريف هذا المتلقي وجعله يقترب من أحد أشكال الفكر السياسيّ من خارج النموذج الأوروبي والغربي عامة. هذه الترجمة تطمح إلى فتح نافذة أمام القارئ الألماني من أجل فهم، المجتمعاتٍ العربية كشعوب تعاني من الاستبداد والتعسف والهمجيّة، من سنوات مديدة، وأن هذا الاستبداد لا يمثل عمق الثقافة العربية والإسلامية التي أنتجت فِكراً نهضوياً أصيلاً، إلا أن الظروف والتحولات التاريخية وقفت ضد هذا الفكر حتى يمكنه فرضِ نفسه واقعياً».

لم يكن فكر الكواكبي يقف عند الإشارة إلى الخلل في نظام الدولة السياسي، بل تعداه إلى فحص مسببات هذه العراقيل وإبراز آثارها على الحاضر والمستقبل. فالكواكبي يقول «أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية». وقد نادى بضرورة العقلانية من أجل الانسلاخ من الاستبداد والوحشية السياسية، لم يقتصر فكر الكواكبي على نقد الحاكم الديكتاتور وحسب، بل تعداه إلى الفرد المهيأ للتنازل عن قيمه ومبادئه الأخلاقية من أجل الدنو من السلطة واكتساب الامتيازات وأيضا الحصول على المناصب، كما ينتقد بحدة أكثر من يسمّيه «أسير الاستبداد» ذلك الذي يسكت مهادنا أعمال الاستبداد ومظاهر الاستبداد، ويقبل أن يكون خادما مطيعا للسلطة التعسفية من «أجل الحفاظ على حياته، بدلاً من مواجهة الاستعباد والانتفاضة من أجل استعادة كرامته الإنسانية. يقول المترجم العلي. فالكواكبي يصرّ على، أن الحياة تفقد قيمتها إذا فقدت الحرية والكرامة، هكذا فهو يؤكد أن «المُستبد لا يخرج قط عن أنّه خائنٌ، خائفٌ، مُحتاج لعصابة تعينه وتحميه، فهو ووزراؤه كزمرة لصوصٍ، رئيس وأعوان»!

لم يكن عمل العلي منحصرا في ترجمة كتاب الكواكبي فقط، بل اشتغل على التعريف بفكر الكواكبي، فجعل من الترجمة جسرا يخدم هذه الغاية. فقد قام بكتابة تعليق على الكتاب كدراسة عن الفكر السياسي عند الكواكبي في إطاره التاريخي وعلاقته بواقع العالم العربي. من أجل جعل الواقع العربي قريبا من تصور القارئ الألماني وربطه بالقضايا الأساسية، التي «ركز عليها الكواكبي مثل مفاهيم «الشورى الدستوريّة» و»الإسلاميّة» والتصوّر الذي يقدّمه عن العلاقة بين الإسلام والدولة والموقف من العلمانيّة، وثانياً من أجل مناقشة أفكار الكواكبي باستخدام منهجيّةٍ علميّةٍ موضوعيةٍ وبعيداً عن الأيديولوجيا السياسية والفكرية» يقول العلي. لقد صنف الكواكبي وفقا لمراحل تاريخية مختلفة في خانات القومية أو العروبية أو الإسلامية، بل حتى العلمانية وغيرها من الخانات، غير أن عماد العلي يؤكد من خلال دراسته على، «أنّ المنهاج الفكري لعبد الرحمن الكواكبي لا يمكن إدخاله في خانة أيديولوجية محددة».

الترجمة

لا يرى عماد العلي نفسه مترجما محترفا، على الرغم من دراسته للغة والأداب الألماني، ذلك انه واجه تحديات تتمثل في الأسلوب اللغوي البلاغي الراقي، الذي كتب به الكواكبي، هذا الاسلوب العالي المستوى، الذي نلاقيه في الأعمال الفلسفية العربية القديمة. ومن أجل الحفاظ على هذا الأسلوب في صياغته كان لا بد للمترجم من البحث عن نوع من التوازن بين أسلوب الكاتب والمجال اللغوي للقارئ الألماني. لم يكن هذا الإشكال وحده هو ما واجهه المترجم، ففي إطار شرح الكواكبي لأفكاره كان «يوظف العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، أو يسوق مقولات الأقدمين وهذا ليس بإشكالية بالنسبة للعرب أو المسلمين، وإنما بالنسبة للقارئ الألماني، الذي يحتاج إلى توضيحات وشروح لمعاني هذه الآيات والأحاديث». إن اهتمام القارئ باللغة الألمانية متخصصا كان أو غير ذلك، يجنح إلى التعرف على الأفكار من مصادرها الأصلية، وهذا ما تجعله ترجمة عماد لكتاب الكواكبي في متناوله، «عندما تواصلت مع البروفيسور أودوشتاين باخ وسألته عن إمكانية كتابة مقدمة تعريفيّة للترجمة عن الكتاب، وهو يعرف تماماً قيمة الكواكبي في الفكر العربي، لم يتردد أبداً في الموافقة، إدراكاً منه للقيمة المعرفية للكتاب وحاجة المكتبة الألمانية لمثل هذه الكُتب».

فالتحديات، التي كلفت سنوات من العمل، يقول المترجم، «تفقد صعوباتها، حين يدرك الإنسان، أن هذه الترجمة قد تكون نافذة للقارئ في المجتمعات الناطقة باللغة الألمانية، يطل من خلالها على معاناة الشعوب العربية وما ترزح تحته من آفة الاستبداد، كما يقول الكواكبي».

*كاتب من المغرب







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي