رواية «حسان وحارس الكنز» للتونسي نور الدين بنبوبكر: منهجية التعلم في ظل السرد العجائبي

2022-05-28

مهدي غلاب

رواية «حسان وحارس الكنز» عمل أدبي مجدد خص فئة الفتيان، من حيث المقدرة على تلمس سبل العلم وتعويض المعطى الخرافي السائد المعتمد على الطريقة الشفهية والاعتقادات في الأرواح والعفاريت، وذلك بالغوص في المبادرة المعرفية، وهو عمل سار في صف الروايات الموجهة للطفل مثل السلسلة الرائدة «الرحلات المثيرة» لجول فيرن ملك الإثارة والخيال العلمي وفانتازيا الطفل. ويلاحظ أن العمل ترجم لأكثر من ثلاث لغات، نظرا للحجم المعرفي والأسلوب اللغوي السلس والتشويقي الذي يستدرج القارئ للغوص أكثر في خبايا الأسلوب السردي الحواري المطرد، باعتماد بناء لغوي بسيط وعميق في آن، ورد زاخرا بطوفان التحدي عبر تضمين وتثمين مشاهدات سيريالية لا تنضب، تتجسد في إنشاء ممر لـ»رؤية لا زمنية» لاختراق وتجاوز حضور الوقت والراهن، كإطار محدد لتقدم الفعل الإيجابي الذكائي، واعتماد الانتقال الزمني والرغبة في الإثارة الفردية بالمفهوم الفلسفي. وهو ما يذكرنا بتناول الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في مؤلفه «محاولة في الوقائع المباشرة للوجدان».

بهذه المقاربة استطاع القاص التونسي نور الدين بنبوبكر أن يتلاعب بالزمن، ويخطف منا زمننا الحاضر ليحاكمه (رفض الواقع المتردي المعاش من خلال وضعية العمل والعمال والفقر وقلة الحيلة وصعوبة الرزق والارتزاق وتبعات العمل المنجمي الصحية، والمورفولوجية والسيكولوجية. لينتقل بنا إلى إطار آخر أكثر شساعةً. فمن زمن مصطفى وخديجة (الفصل الأول والثاني والثالث) إلى زمن العم خليل والخالة أم الخير والطفلة سحر (الفصل الرابع) إلى زمن حسان، البطل الخيالي الذي عوض حضوره السردي التخيلي المكثف اختفاء الأب وتغييب دور الأم (الفصول من السابع وحتى الخامس عشر) والقطيعة مع الجوار، رغم أن الرجل يبحث عنه ليلاً ونهارا. تاركا بذلك الفصل الأخير الـ(16) مسخراً من جديد لزمن الواقع والعودة إلى الأرض. وبذلك نفهم أنها رحلة تطلبت جولتين (الذهاب والإياب) بالعودة للقدر المحتوم. فكان السارد بمعزل عن الكاتب يستقل في كل محطة قطارا، يلبس فيه حلة الساحر المثير أو المعلم المنير الذي يقود مهرجان المسيرة العجائبية بالقفز على الزمن وتدجين الهجين وإخضاع الغربة «الزمكانية» ليتحول مفهوم التغريب الذي رصدناه في ثنايا هذه التجربة إلى تسيير رحلات مكوكية متلاحقة لمصافحة خبايا الكون والإنسان ومعانقة سر الوجود الفانتازي الحائر، لأغراض تربوية تعليمية، تثقيفية وسيكولوجية، بجملة أدوات تستدعي اختيارا منهجيا مدروسا، مقصودا وموجها لفتح آفاق الطالب المدرسي خصوصا، والدارس الأكاديمي والأدبي عموما.

تجاوزات زمنية

بهذه الطريقة عمل السارد انطلاقا من النصف الثاني من النص الروائي (الفصل السابع إلى حدود الفصل الخامس عشر) على تأثيث ماكينة خيالية تتجول بين العصور، حسب التتابع المختار من المعاصر إلى الحجري والثلجي والطباشيري فالحديث، ثم ينتهي بقفلة معاصرة وعودة ماراثونية محمومة إلى الوقت المتأزم. كل هذا التجوال النغمي الحالم المتسم بحبكة استثنائية وفّر مقاربةً ومقارنةً كونية نجد ما يشابهها في الأدب العربي، مثل «الطوفان الأزرق» للمغربي عبد السلام البقالي و»أصدقاؤنا الغرباء» للبناني أمين معلوف، التي أسهمت كثيرا في تنشيط الإنتاجات والتقنيات السينمائية الموجهة للطفل حيث استلهمت منها سلسلة «الرجل العنكبوت».

إن الحضور العجائبي للتفاحة في ردهات النص يوضح مدى تشعب المنحى، فيمكن لهذا العمل أن يطلق سير تتابع الأحداث من منطلق الاشتغال على مبحث التفاحة، الصداقة الدينية والصداقة الواقعية والصداقة الخيالية.

دلالات الرحلة

ينطلق بطل نور الدين بنبوبكر من النوم أو التنويم، للنفاذ إلى الحلم عبر المرور بحقبات مختلفة وباعتماد توجيهات تقنية تعليمية. هذه التوجيهات جعلت من الغريب (المكان، الشخوص الخارقة) قريبا وأفقا شاهقا سابحا في عوالم الشوق واللذة الفكرية الحكائية. وهي قراءة تستقل طريقها لذهن القارئ فتسكنه وتهذب محتواه بواسطة تركيب متسلسل لأيقونات اصطلاحية علمية معرفية سمحت بالتشبث بخيوط العلم بالحلم، ناهيك من الفائدة الذهنية الدراسية والتحصيل، باتباع وسائل ووسائط متصالحة مع عصرها مثل، الاستكشاف والتدرب والتدرج وتفرد المحطات، سبيلا لزرع إضافة في الذاكرة الصغيرة للطفل واليافع، والاشتغال على الملكات الحسية لتعميق التجربة الجمالية وضمان الانتعاش باعتماد صور الخوارق والمرور إلى تحريك الأحداث والحوارية، والسعي لاستخلاص العبرة في كل مرحلة وإعادة رصد البناء، دون الوقوع في التكرار وركوب الموجات الإيجابية السحرية والجلوس على جناحي الخفاش المتعاظم، لتجسيد معادلة داخل تضاريس خريطة مخيفة ومضيفة للمشهد. كل هذه العلامات صارت منبع الأنس ومصنع الرغبات ومقود الوجدان الحالم، انطلاقا من الجبل إلى البحر، فالعودة إلى التراب الأسود، في حد ذاته ترميزة لونية وعضوية على مقاربة الفناء والنماء من جديد، وهو أصل الحياة عند الفلاسفة الطبيعيين. فالفضاء القريب الذي تمتعنا فيه بهالة التغريب المفاجئ الباهر، عبر السفر المتلاحق وتطويع الفكرة وتقريب البعيد، ليتحول المستحيل في قرية متكلسة مدمرة إلى تحصيل، وجمرة العناء والمتاعب إلى ثمرة تؤسس متعةً ولذةً لفترات مهمة فيلبس الغريب عباءة الساحر، وهو صانع الدهشة البناءة في عالم خيالي اختار نهج التتويج ومجابهة الألم، بالحلم تارة وبالواقع طوراً للتملص من كل عنصر هجين ومريب. وهي تتابعات سردية منتظمة، حوّلت المخيف إلى درس مطواع ومفيد، وقرأت وقربت العصيب والبعيد إلى ذهن الصغير والكبير وفتحت تسلق سلم أبواب المستحيل على مصراعيها للولوج خطوةً خطوةً إلى عالم الذاكرة، وجسمت السعادة في النوم وفي الحلم كتعويض لأجيال من الطفولة المغدورة والمقهورة، وقطفت فاكهة الجنان بعطرها وعسلها (التفاحة المنسية) كشهادة اعتراف بالمبادرة وتشجيع على التحدي، والمضي قدما في طلب العلم وسلب الضمير الميت للأمة وللوطن والموطن والمواطن من الضحالة التي تغمره وتعمره.

عن الواقع وتجاوزه

انطلق الكاتب من محيطه المحلي، الذي يروي الواقع المعاش في قريته الصحراوية الصغيرة القاحلة بسبب عوامل الاستغلال المفرط وانحباس الماء وهي وسائل عيش متهالكة لا تختلف عن القرية المنجمية التي ارتبطت بالجهد والقوت والتحصيل، وكانت بمثابة الشرارة وسط العتمة. يتحول المشهد بعد ذلك إلى سرد عوالم غريبة لم نستأنس بها، بحضور شخصيات أسطورية تتحرك وتتحول حسب الأحداث. وهي محطة لبداية مكوث الرواية في فضاء الغريب المثير والمتموقع خارج العالم، لذلك نلحظ تشكل ملامح بناء ديالكتيكي حتمي بين التقريب والتغريب.

من بين العناصر الفعالة والمؤثرة نجد.. تواتر البديع وتردد تعبيرات الإنعاش والإدهاش، يشيران إلى انتقال بطل القصة من بطل روائي واقعي إلى بطل خيالي وما يتطلبه ذلك من قدرة على إحداث مسرحة حكائية مشهدية. التلاعب بالزمن ببراعة ساهم في التفاعل والتأثر والتأثير بين القريب (زمن البشر) والغريب (زمن الوحوش والخوارق) في عملية تبادل أدوار تحول فيها الفرد إلى صامت كالحيوان، (اختفاء مصطفى وغياب خديجة) والوحش إلى ناطق بلسان البشر، بل يسهر على زرع المعرفة والحكمة في ذهن الناس، خاصةً أثناء الرحلات الاستطلاعية الدراسية، فصار الغريب أقرب من القريب.

إن الحضور العجائبي للتفاحة في ردهات النص يوضح مدى تشعب المنحى، فيمكن لهذا العمل أن يطلق سير تتابع الأحداث من منطلق الاشتغال على مبحث التفاحة، الصداقة الدينية والصداقة الواقعية والصداقة الخيالية والصداقة العلمية والصداقة التربوية. فبمجرد التفكير في ضم البطل السارد مع صديقته نستحضر التفاحة التي تقودنا إلى الثنائية النبوية الأولى آدم وحواء في سيرة الخلق.

كاتب تونسي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي