كتاب «حدث ذات مرّة في لبنان» لحازم صاغية: عن السياسة والزجل والمصارعة الحرّة… وأشياء أخرى

2022-06-02

كتاب «حدث ذات مرّة في لبنان»حسن داوود

كان زمن الستينيات اللبناني، بين مظاهر أخرى، زمن الزجل والمصارعة الحرّة. تلفزيون لبنان كان يعرض حفلات أسبوعية لكلا المبارزتين: جوقة زغلول الدامور للزجل، والثنائي إيلي بجاني ونجيب نهرا للمصارعة. وفي تعقّب حازم صاغية لأدوار الطوائف اللبنانية وتوزّع ميولها واختصاصاتها، نقرأ أن المصارعة كانت رياضة المسيحيين، فإلى المتبارزيْن المذكوريْن أعلاه كان هناك أدمون الزعني والأخوان سعادة وخليل أبو خليل وسواهم، فيما اشتهر المسلمون بتحقيقهم بطولات في رفع الأثقال وكمال الأجسام، لذلك كانت قليلة المواجهات بين الطائفتين على الحلبات، طالما أن لكل منهما حلبته وميدانه. لكن على الرغم من ذلك، استُدعيت المخيّلات آنذاك لتقيم حفلاتها الخاصة. من هذه ما يروى عن إدمون الزعني (أسد لبنان) أنه بقر بطن مصارع خصم قال إنه يحب أكل الآذان قبل أن يقضم أذن الزعني، فأجابه هذا الأخير بأنه يحب أكل المصارين قبل أن يمدّ يده لإخراجها من بطن مُنازلِه.
هذه الحكاية ذاتها جرى تحويرها في رواية أخرى مضادة، ليكون نجيب ياسين، وهو مصارع مسلم، هو الذي مُضغت أذنه وهو الذي أدخل يده إلى مصارين خصمه. الأرجح أن الخصم المتخيّل ينتمي إلى الطائفة الأخرى وأن الرواة، هنا وهناك، كانوا مدركين أن تلك الوحشية مقتصرة على الكلام، فها هو أدمون الزعني يظهر على التلفزيون، بعد سنوات من ذلك ومن دون أن نلاحظ أن هناك خطأ في أذنه، فيما نجيب ياسين ظل إسما فقط، لم يحظ رواة حكايته بمشاهدته ولو لمرّة واحدة.
أما في حفلات الزجل المنقولة مباشرة على شاشة القنال 7، فكان ينبغي أن يكون التراشق أكثر هدوءا وتعقّلا. جوقة زغلول الدامور، التي حظيت وحدها تقريبا بالظهور على الشاشة الفضية، كانت قد تألّفت تبعا للقاعدة التي كان ينبغي أن تؤخذ دوما بعين الاعتبار. الزجالون الأربعة، كما كل ظهور عام لممثلي المواهب جميعها، يجب أن ينقسموا بين المسلمين والمسيحيين، اثنان من هؤلاء واثنان من أولئك. أما المواجهة فينبغي لها أن تتحلى بالكثير من الذكاء حيث، من جهة، يجب ألا يبدو التراشق الكلامي طائفيا، لكنه مع ذلك، ينبغي أن يذكّر كل من الأربعة بالجهة التي هو منها. زين شعيب كان اعتراضيا في الغالب، بمواجهة زغلول الدامور الذي عليه أن يلعب دور الداعي إلى التعقّل، شأن ما يجب أن يكون عليه من هو حاصل على حصّة زائدة من السلطة. هناك بالطبع طرق أخرى جزئية ومضمرة لم تجر تسميتها ولم تُعرَّف بكلام أو بصيغ كلامية، لكنها متأسسة في الوعي الزجلي، المتخبط رغم ذلك ببطولاته الكلامية.

يلمح حازم صاغية إلى أن الزجل ممتد الحضور إلى خارج ما تتراسل به الجوقات، وهو يشير إلى أن «النشيد الوطني جاء زجلا مكتوبا بالفصحى». فرشيد نخله كاتبه، زجّال في الأصل بدليل أن اللبنانيين صُوّروا على أنهم «أسد غاب متى ساورتنا الفتن». يُذكر أن عبارة «ساورتنا» هذه هي الفعل الوحيد في النشيد الذي، كما يكتب صاغية ناقلا عن الشاعر عباس بيضون، كُتِب كلّه بجمل اسميه حصرا. ربما يرجع ذلك إلى أن التحليق الجاري في الأعالي لم يحصل فعليا في الأسفل وتتجلّى حادثة تزكّيه أو ترفده.
كتاب حازم الجديد، الصادر توّا بعد كتابه الضخم «رومنطيقيو المشرق العربي»، يصعب إدراجه في موضوع واحد إذ إنه كُتب على شكل مقالات متفرّقة ومتباعدة زمانيا. ثم إنه متوزّع بين السياسة والثقافة والمصارعة والغناء وسائر الغرائب في عادات الناس ومسالكهم. كل ما ينبّه، ويستمر لافتا الانتباه يوما بعد يوم، لن يتأخر حازم في إعمال الكتابة فيه. ومن ذلك أمور ومسائل عفّت عنها كتابة الكاتبين وأبقتها حيث هي، في التندّر العادي والكلام الشفهي.

 

يلمح حازم صاغية إلى أن الزجل ممتد الحضورإلى خارج ما تتراسل به الجوقات، وهو يشير إلى أن «النشيد الوطني جاء زجلا مكتوبا بالفصحى». فرشيد نخله كاتبه، زجّال في الأصل بدليل أن اللبنانيين صُوّروا على أنهم «أسد غاب متى ساورتنا الفتن».

 

من هذه الانتباهات مثلا مقالته حول ما فعله السندويش في تغيير العادات والطقوس التي كانت جارية حول طاولة الأسرة، وكذلك إخراجه الأبناءَ إلى خيارات شخصية تتعدّى مجرّد الأكل «على الواقف». من ذلك أيضا نذكر كتابة حازم عن الأسماء وصلتها بالتحولات العقائدية والسياسية المتقلّبة. البعث على سبيل المثال سيبتدع أو يعيد إحياء أسماء لم تكن شائعة، الناصرية أيضا، وصعود التيارات الدينية كذلك. ودائما هناك ما يُسترجَع من الماضي، كاسم خالد مثلا، المتذكّر به خالد بن الوليد، هو غير خالد الذي أعطاه محبّو جمال عبد الناصر (أبو خالد) لأولادهم، وذلك لاختلاف المنطلق بين هذا الفريق وذاك.
ودائما هناك تعداد للأسماء يظنّ قارئه أنه فاض عما يمكن أن تحتويه ذاكرة واحدة، وهي أسماء متوزّعة أصنافا وأقانيم تبعا لمحفّزاتها. وهذه الأسماء لا تقتصر كثرتها على بعض مقالات في الكتاب، بل هي منتشرة حيثما دعت الحاجة إلى التسمية. بعض من هذه احتاجت بحثا وتتبعا لكيلا يظهر رجل من دون اسمه في التأريخ لحزب البعث، أو للمشاركين في قيادة الانتفاضات العمالية والطلابية في غير مقال من مقالات الكتاب.
وفي معظم ذلك نقرأ صاغية منتقدا الماضي، وهاجيا لبقائه في الحاضر. غير مرّة، وفي أكثر من مقال، ربما قرأنا، أو سمعنا، حازما يحتجّ على فيروز كيف أنها ترجع اللبنانيين إلى زمن انشغالهم بالفلاحة، فيما كنا نرى أن زمن الأغنيات لا تصح نسبته إلى الكلمات وحدها. أتذكّر الآن، فيما أنا أدوّن هذه السطور، كيف أن أغنيات لفيروز لم تكن تطربنا فقط، بل كانت تدفع بنا إلى الأمام. أتذكّر مثلا أغنية «يا أنا يا أنا، أنا وياك صرنا القصص الغريبة» أو أغنية «طريق النحل» أو تلك الغنية المنحولة عن الكازاتشوك، وهذه تعود إلى ستينيات القرن الماضي، والتي كانت تجدّدنا. ربما هو اللحن، أو ربما الكلام القديم ذاته لكن وهو يتجدّد… هذا موضوع لا مجال هنا للإفاضة فيه، لكنه قابل للنقاش على كل حال.


*كاتب لبناني

*كتاب حازم صاغية «حدث ذات مرة في لبنان» صدر عن مؤسسة دار الجديد في 2022- عدد صفحاته 265.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي