شمسو بلعربي… من سلالم الحديد إلى رسام أفيش عالمي

متابعات الأمة برس
2022-07-30

رسام «الأفيش» شمس الدين بلعربي (صفحة الفنان)عبدالحفيظ بن جلولي*

يمتلك شحنة الفن حين لا تبقى في الذات سوى قصة اللون، أي الجُملة التي تمنح نص الذات معنى الحياة، فلا معنى للحياة خارج مستويات الألوان، الألوان هي ما يجعل للحياة هوية، تختلف وتتعدد لجعلنا أكثر بهجة، ذلك المعنى العميق في ما يقدمه رسام «الأفيش» شمس الدين بلعربي واسمه الفني «شمسو بلعربي» الذي اعتُبِر في حفل تكريمي في وهران حضره وفد بلجيكي من خبراء سينمائيين تحت رئاسة الممثل العالمي أليكسي هوتوندجي alexis houtoundji آخر عربي وافريقي ما زال يصمم ملصقات الأفلام العالمية بالطريقة التقليدية، أي عن طريق الرسم والفن التشكيلي.
تاريخيا، فكرة «الأفيش» أو ملصقات السينما بدأت في فرنسا مع هنري دو تولوز لوتريك الذي كان دائم الحضور في الطاحونة الحمراءMoulin Rouge، ووضع لوحات للممثلين هناك، ومن ثم بدأت تظهر فكرة ملصقات للمسرح وأخرى للسينما.
ولد شمسو بلعربي في 14 فبراير/شباط 1987 في «عين تادلس» التابعة لولاية مستغانم غرب الجزائر، مدينة المسرحي الكبير ولد عبد الرحمن كاكي. يتحدث عن نفسه قائلا: «كنت أرعى الغنم مع خالي رحمه الله.. وفي سن الخامسة من عمري، ولما كنت أصادف قصاصات الجرائد، كانت تجذبني الصور البراقة لنجوم السينما، فألتقطها وأتمعن فيها وأتناول عودا ثم أبادر إلى رسمها». حاولت أن أجد رابطا بين رعي الغنم والعمق الفني لـ»شمسو» لم تسعفني الفكرة في أن أعثر على ما يبرر العلاقة، لكن الفن يمثل هذه المصادفات الغريبة التي تخلق مفارقة الإمساك بالفرشاة، فالفكرة هنا تقع في مفصل العلاقة بين الانطلاق خلف القطيع ومحاولة الإمساك بمجموعه، وبعد ذلك سوقه إلى المرعى أو إلى مربطه، واللوحة لا تتطلب أكثر من مطاردة الخيال الذي يتشكل أثناء الحركة ثم الإمساك بالشاردة الفنية وبعدها سوقها إلى بياض القماش أو الورق.
إن التقاط قصاصة الجريدة من قبل الطفل الذي كانت تشده الصور، طبعا وحده هذا الطفل الشارد مع الغنم الهائم في حركتها وأصواتها، من كانت تستولي على اهتمامه تلك الصور. تمثل هذه الحالة الوعي الأول بانطباع الصورة على الورقة، أي التفكير بوعي طفولي تشمله الغرابة في رؤية العالم يتشكل بتعقيد كبير، ومحاولة مسايرة هذا التعقيد في تشكيل العالم، وهنا تأتي أهمية «الرعي» التي ربما يتحدث بها لاوعي الشاب ويستعيدها ببساطة المفضي بسيرته، لكن الوعي العميق بسردية الرعي، يكشف علاقات التعقيد في العالم التي تربط الإنسان في تتبعه له (العالم) من حالة معيشية وظيفية إلى بداهة عفوية فنية.
لم يكتف «شمسو» بهذا، بل كان يهرع إلى الإمساك «بعود» ويبدأ في محاكاة الصورة على الورقة بوضعها تصميما على الرمال، و»العود» طبعا سوف يتحول إلى «ريشة» وصفحة «الرمال» سوف تتحول إلى فضاء اللوحة، لكن ما يؤسس له الانغماس في عدم إفلات اللحظة الإلهامية هو تطوير «الخيال» باعتباره المنتج الإبداعي لما لا يمكن أن نسميه، أي التشكيل المدرج في وعي العالم والمستلهم ذاتيا بوعي «التخييل» الأكيد أن تلك المحاكاة على الرمل كانت تتشكل بما تخطه يد الطفل، وبما يساهم فيه الهواء من تغيير في شكل الخط الهندسي الذي سوف ينسج «خيال» الطفل على ذرات الرمال المتناثرة.
في سن السادسة ينتقل «شمسو» إلى المدينة للالتحاق بالمدرسة، وهناك سوف يكتشف المعلمون موهبته في الرسم، ويعطي الأهمية الكبرى لهذه المادة على حساب المواد الأخرى، لكن مشكلته كانت في إنه من عائلة «فقيرة جدا» كما يصفها، فيضطر إلى ترك المدرسة ليعانق الشارع ممتهنا الرسم كحرفة، فاشتغل في تزيين المحلات التجارية والديكور، ولعل من محاسن الأقدار أن لا يبتعد في محاولته لمساعدة الأسرة عن مجال الرسم، وحتما كان العسر عاملا مهما في تفجير الطاقة والاشتغال عليها من خلال توظيف حالة العائلة المزرية والبحث عن المخرج لإعالتها وإعادة التوازن الحياتي والمعاشي لها، وهو ما يربط الفن بالالتزام بمعناه الأشد أخلاقية. لم يكن الشارع رحيما بـ«شمسو» كان قاسيا جدا، إذ تعرض للاستغلال من قبل عديمي الضمير الذين امتصوا طاقته الفنية، يقول: «في بعض الأحيان كنت أعمل عند أشخاص ولما أطلب المقابل المادي كانوا يتجاهلونني ويهددوني».
يرتبط الفن في هذه الحالة بالمأساة، ويكشف عن مدى إخفاق مجتمعاتنا في إيجاد المؤسسات التي تلتقط مثل هذه الطاقات الإبداعية، إذ لم يكن هناك داع لترك «شمسو» المدرسة والخروج إلى «الشارع» لتتقابل المؤسستان في تعارض، في الوقت الذي كان يجب أن يكونا متكاملين، فالشارع فضاء الإلهام والمدرسة قناة التأطير له، لكن الغياب المريع لمعنى المؤسسة في الوعي المجتمعي والرسمي على الخصوص، يحيل الموهبة إلى مجرد متاهة تضيع في ثناياها الطاقات بين زحمة الشارع المهيمن باستهلاكيته وعدم مقدرة الذات الفاعلة على إدماج فعاليتها في إطار الفعل الذي تضطلع به المؤسسة أو الجهة الداعمة. عندما يصور «شمسو» مأساته في «الشارع» يعود بها إلى صعوبة تحصيل القوت من الموهبة، فكانت لوازم العمل هي مصدر شقاء «الوعي الصغير» أو «الوعي الشقي» بتناقضاته والشعور بالاغتراب بمفهوم هيغل. «كنت أعمل تحت الشمس الحارقة، حاملا السلالم الحديدية، وأنا ضعيف البنية الجسدية، والحديد بفعل الحرارة يسخن فيسبب لي حروقا في اليد» يضعنا هذا المشهد أمام مفارقة عجيبة، إذ اليد المستعملة للفرشاة تحترق بفعل حرارة الشمس ومادة السلالم الحديدية، ولم يدفع ذلك الطفل إلى التخلي عن حلمه، بل كان الحرق بمثابة الشاحن للطاقة وللحلم الصغير في صيرورته كبيرا مستقبلا.
ترتسم هذه الرمزية في مجال الإنهاك باعتباره مؤهلا موضوعيا يدفع بالذات إلى بلوغ الأمداء القصوى للفعل/الحلم الذي يؤثث فضاء الموهبة/الرسم بالصبر والألوان باعتبارها معاناة في تجربة «شمسو».
كان يمر بجانب قاعات السينما ويشاهد الأفيشات ثم يعود إلى البيت ليتمرن على رسمها على أوراق الرسم، لكن يتذكر بحسرة أن العائلة كانت تقطن مساحة ضيقة، فمكان الطبخ هو مكان الرسم، ووسط هذا الضيق كان يشتغل بصبر. يستعيد بمرارة فداحة تعرض بعض ما يرسمه إلى التلف بفعل المطر الذي كانت سيوله تتسرب من خلال فجوات السقف المكسور. فكر في إرسال أعماله إلى الخارج، وبدأ الاتصال بشركات الإنتاج السينمائية عن طريق البريد، يقول: «كان الاتكال على الله وحده منقذا لي من نعت الناس لي بالجنون» فكيف لهذا القابع في البر الجنوبي المتخلف أن يطمح إلى البروز على مسرح الشمال المتطور؟
تأخر الرد، ولم تتصل به أي جهة، فواصل العمل في الشارع مثابرا، لكن تأثرت صحته من خلال اشتغاله في المعامل وأدخل المستشفى ومكث فيه لمدة ثلاثة أشهر، إلى أن تحسنت حالته، وجاء يوم تلقى فيه رسالة من منتج أرجنتيني يعمل بالشراكة مع هوليوود، وعرف بأعماله في الأوساط السينمائية، وبدأ يتلقى العروض من المخرجين والمنتجين، وأنجز الكثير من ملصقات الأفلام العالمية، يذكر منها:
The News، Honor،Garra Mortal، Bucks of America.
عُرضت أعماله الفنية في مهرجان كان السينمائي الدولي ومهرجانات الأوسكار، فشاهدها الممثل الهوليودي Kevin D Benton، بعد ذلك تمت دعوته للمهرجان العالمي للسينما في الدار البيضاء ومراكش في المغرب من قبل الممثل الهوليوودي الشهير Don Wilson الذي له أفلام شهيرة رفقة روجي مور، وتم هناك الاتفاق على مشروع عمل، وهناك في الأفق مشاريع مستقبلية. يقول: «لقد حاولت التعريف بالثقافة الإسلامية والقضية الفلسطينية في الأوساط الأوروبية والعالمية. وتم تسجيل اسمي في القاموس العالمي للسينما العالمية IMDB، كما تم تسجيل قصة حياتي إلى جانب عمالقة السينما العالمية، في كتاب أصدرته مؤسسة هوليوود العالمية، بعدها صنفتني مجلة «مؤثرون» الأمريكية الشهيرة Influential People Magazine كشخصية مؤثرة لعام 2020 ونشرت الرسم الذي صممته لأحد الأفلام على غلافها الأول، ونشرت أيضا تقريرا من ثلاثة صفحات».
بعد صدور هذه المجلة الأمريكية، يقول: «تواصل معي الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن طريق شقيقه مصطفى أوباما لإنجاز فيلم حول مسيرتي الفنية بالتنسيق مع مؤسسة هوليوود العالمية قريبا».
ليست قصة خارج الإمكان البشري الحالم، إنها معاناة الوعي حين يكتشف مساره في هوية الحلم، مكابدة الشيء وهو يخرج عن المعتاد وينفصل عن المستهلك ويرسم أفقه في فضاء صراعي مع الوقت ومع الأشياء المعيقة، الفعل وهو مكبل بمراسيم الهدنة مع الواقع ومع ما يجري، ليس ما يجري سوى الزمن في صورته الراكدة، و»شمسو» زمن يتحرك صوب الرسم المعلق على حرائق الطفولة ذات وقت ارت سمت فيه صورة لليدين وهما في انفصال/اتصال مع السلالم الحديدية.

*كاتب جزائري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي