أنظمة المعاناة لجوناثان دارلينج

متابعات الأمة برس
2022-09-05

غلاف أنظمة المعاناةترجمة وعرض: نضال إبراهيم

يتعرض طالبو اللجوء في بريطانيا ودول غربية أخرى إلى أشكال من القسوة التي تفرضها الدولة مثل الاحتجاز والترحيل، لكن هناك ممارسة ثالثة مخفية وهي: التشتيت. يبين جوناثان دارلينج كيفية حدوث هذه الممارسة بنظام الإقامة واللجوء في بريطانيا، وكيفية إنتاجها أنماطاً من العنف والمعاناة.

يرى دارلينج بعد ست سنوات من البحث في نظام التشتيت البريطاني، وإبرازه أصوات وتجارب اللاجئين، أن التشتيت لعب دوراً بارزاً في محو اللجوء من الاهتمام العام، ويجد أن ما يطرحه في هذا العمل الصادر عن دار بلوتو برس للنشر في مايو 2022 ضمن 256 صفحة، يشكل أداة حيوية في ترسانة أولئك الذين يعملون على محاسبة الحكومة بسبب سياسات اللجوء العنيفة.

قامت المملكة المتحدة بتشغيل نظام التشتيت منذ عام 2000، وهو باختصار يعني أنه بعد فترة من الوجود في مراكز الاستقبال المؤقتة، يتم نقل طالبي اللجوء إلى بلدات ومدن في جميع أنحاء البلاد لإيوائهم أثناء انتظار قرار بشأن طلب اللجوء الخاص بهم. تتشابه سياسات التشتيت في المملكة المتحدة مع عدد من البلدان الأوروبية الأخرى، مع اختلاف أنه لا يتم استيعاب طالبي اللجوء المشتتين في مرافق استقبال منفصلة.

يستكشف الكتاب فترة حرجة في تطور التشتيت من خلال التركيز على خصخصة إقامة اللجوء وخدمات الدعم من عام 2012 فصاعداً، وآثارها على المعنيين، فضلاً عن آثارها السياسية على حقوق طالبي اللجوء والديمقراطية.

يشير المؤلف إلى أن تشتيت طالبي اللجوء ليس مجرد مسألة توزيع مكاني، بل تنقل هذه الممارسة أيضاً رسائل مهمة حول توزيع القيمة الاجتماعية وقيمة الحياة المختلفة التي لها تأثيرات بعيدة المدى. ومع ذلك، على الرغم من الدور المركزي للتشتيت في تشكيل حياة طالبي اللجوء، فإنه نادراً ما كان محط اهتمام نقدي. يتناول الكتاب هذا الصمت من خلال سرد عميق لكيفية ظهور ممارسة التشتيت في بريطانيا، وكيف أعادت تشكيل العلاقات بين الدولة والقطاع الخاص ومنظمات حقوق اللاجئين، وإخضاع طالبي اللجوء لأشكال من العنف والمعاناة.

ويرى أن هذه الممارسة تمثل شكلاً من أشكال العنف الموزع، قائلاً عن ذلك: «يعد هذا عنفاً (بطيئاً) وشاملاً على حد سواء من خلال تشتيت العديد من المنظمات والأفراد، من الحكومة المحلية والمتعاقدين الخاصين إلى خدمات الدعم والمنظمات المجتمعية، بحيث يتم استقطابهم إلى نظام يحافظ على المعاناة»، مضيفاً على ذلك بقوله: «يعتمد هذا العنف على عمليات التوزيع ذات الطبيعة المكانية والاجتماعية على حد سواء، ويعيد إنتاجها، بحيث تعمل على وضع طالبي اللجوء واللاجئين ضمن تسلسل هرمي للقيمة والموقع يحافظ على عدم المساواة وينتج بحقهم الضرر. في عملية التشتيت لا يُمنح طالبو اللجوء أي خيار بشأن مكان إقامتهم، كما أنهم غير قادرين على العمل خلال فترة وجودهم بنظام اللجوء في المملكة المتحدة. وفي الوقت الذي تستخدم الدولة عملية التشتيت ضمن إطار ممارسة واجبها في الرعاية بموجب القانون الدولي، نجد غالباً أنها تؤدي إلى العزلة الاجتماعية، وتقيّد الأفراد بمواقع غير آمنة، وتخلق الاستياء بين المجتمعات التي ترى أن طالبي اللجوء يمثلون «عبئاً» يصعب تحمّله». ويضيف أنه «غالباً ما يتم محو هذا العنف من الاهتمامات العامة على وجه التحديد، لأنه مبطّن ويصعب رصده من جانب جهة فاعلة مسؤولة. خصخصت الدولة أماكن اللجوء من دون أن يثير ذلك أي جدل في الوسط البريطاني لأن طالبي اللجوء كانوا أحدث مجموعة تتحول إلى سلعة».

يبرهن هذا الكتاب على أن الاستعانة بمصادر خارجية لإيواء اللاجئين في المملكة المتحدة هو مظهر من مظاهر العنف الموزع المتراكم. يقول في هذا السياق: «نادراً ما يُنظر إلى التشتيت بنفس النظرة إلى المصطلحات العنيفة مثل الاحتجاز أو الترحيل، ونادراً ما تكتسب نفس الطابع بين الناشطين. هذا هو الموقف الذي تم استغلاله من قبل مقدمي الإقامة الخاصة والحكومة البريطانية للحفاظ على نظام يضع طالبي اللجوء في مساكن غير آمنة، ويكسر شبكات دعمهم، ويفصل قضية إقامة اللجوء عن المساءلة الديمقراطية للحكومة المحلية».

البيئات العدائية وأدوات الردع

يلفت الكتاب الانتباه إلى مجموعة من السياسات التي تم تطويرها منذ أواخر التسعينات من أجل «تشديد» عملية اللجوء في المملكة المتحدة وردع طالبي اللجوء المحتملين. دخلت هذه السياسات حيز التنفيذ في عام 2000 إلى جانب توسيع السلطات لاحتجاز وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، كما أدى التشتيت إلى تعطيل الشبكات الاجتماعية لدعم طالبي اللجوء، وأعاق اندماجهم المحتمل، وحرم ممّن ينتظرون الحصول على وضع اللاجئ من حق تقرير المصير. يرى المؤلف أن المملكة المتحدة شهدت «تكثيفاً مستداماً في الطرق التي تعمل بها أنظمة إدارة طالبي اللجوء لاستبعادهم وحكمهم من خلال إزعاجهم وتجريمهم وتعريضهم لحالة عدم اليقين والمخاطر».

يذكر المؤلف أن هذا الدافع نشأ لردع طالبي اللجوء، رداً على عاملين مترابطين، الأول: كان العدد المتزايد من طلبات اللجوء التي شهدتها المملكة المتحدة خلال أواخر التسعينات وأوائل القرن الحادي والعشرين. فقد ارتفعت طلبات اللجوء السنوية في المملكة المتحدة من 11640 إلى 71158 من 1989 إلى 1999. وبلغت الطلبات ذروتها في عام 2002 مع 84132، ما أدى إلى تحولات جذرية في السياسة لمعالجة وإدارة طالبي اللجوء بشكل أفضل، وتقليل الطلبات من خلال الأشكال المعززة لإنفاذ القانون والردع على الحدود. في الوقت الذي ظهر فيه أن مثل هذه التدابير كانت ناجحة في تقليل الطلبات طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلا أنه كان للسياسات التي تم وضعها خلال هذه الفترة تأثير عميق في رفاهية أولئك الموجودين في نظام اللجوء. فقد ارتفع عدد طلبات اللجوء بشكل طفيف إلى 29456 في عام 2020، في أعقاب ما يسمى ب «أزمة اللاجئين» في جميع أنحاء أوروبا في عامي 2015 و2016.

والعامل الثاني الذي يقود الردع هو «المناخ الإعلامي الذي شيطن طالبي اللجوء، وقدم اللجوء باعتباره «تهديداً» لكل من أنظمة مراقبة الحدود الحكومية والرعاية الاجتماعية، وخلط بين فئات مختلفة من الهجرة كوسيلة للحفاظ على العداء تجاه المهاجرين على نطاق أوسع. ونتيجة لذلك، ركزت الحكومات المتعاقبة على تشديد السياسات على حساب حقوق اللاجئين. وقد تضمنت هذه الإجراءات قيوداً على المساعدة القانونية لطالبي اللجوء، وإلغاء الحق في العمل، وفرضت تقييداً متزايداً للوصول إلى التعليم أو التدريب، بما في ذلك التدريب اللغوي، وزيادة الاستثمار في قدرات الكشف والإنفاذ لجعل بريطانيا أكثر صعوبة في الوصول لطالبي اللجوء. كان شعار (اذهبوا إلى أوطانكم) معروضاً على شاحنة صغيرة تابعة لوزارة الداخلية كانت تجوب لندن في صيف عام 2013».

ظهر تطوران بارزان في قضية «السياسات الإقصائية للجوء»، بحسب الكاتب. التطور الأول هو توسيع نطاق احتجاز طالبي اللجوء، فخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وسعت المملكة المتحدة قدرتها على احتجاز المهاجرين إلى 4000 محتجز في وقت واحد. وقد ثبت أن الاحتجاز يخاطر بإحداث صدمة ثانوية لضحايا التعذيب، لإدامة أزمات الصحة العقلية المزمنة للمحتجزين، بما في ذلك إيذاء النفس والانتحار، ولتعريض المحتجزين للمعاملة السيئة من الموظفين. ومما يساهم بشكل كبير في هذه المخاوف هو حقيقة أن تمارس بريطانيا احتجاز المهاجرين إلى أجل غير مسمى، ما يعني أن المحتجزين ليس لديهم فكرة عن المدة التي سيُحجزون فيها، وهو إجراء مكلف ومُسيء لطالبي اللجوء في المملكة المتحدة. ونتيجة لذلك، كان احتجاز المهاجرين موضوع نقاش نقدي كبير باعتباره شكلاً من أشكال عنف الدولة، سواء في المملكة المتحدة أو على الصعيد الدولي. كما أصبح تأديب المهاجرين جزءاً من الحياة اليومية.

أما التطور الثاني في التهميش الذي تفرضه السياسة فهو زيادة استخدام تدابير الترحيل لطرد أولئك الذين لم ينجحوا في طلبات اللجوء الخاصة بهم. يقول الكاتب: «كما هو الحال مع الاحتجاز، تعكس تعبئة الترحيل توجهاً عالمياً نحو استخدام الترحيل كأداة لإدارة السكان طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في بعض الحالات، توسّعت حملات الترحيل خاصة في الولايات المتحدة. وفي المملكة المتحدة، كانت الصورة مشوشة أكثر، حيث وصلت عمليات الترحيل خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى ذروتها في عام 2004، وتم تنفيذ 21425 عملية ترحيل. بحلول عام 2020، انخفض هذا الرقم إلى 3327 حالة ترحيل قسري، منها 486 حالة عودة متعلقة باللجوء فضلاً عن الانخفاض في الطلبات بسبب جائحة كورونا».

ممارسات الاحتجاز والترحيل

أصبحت ممارسات الاحتجاز والترحيل أيضاً محور نشاط سياسي كبير، ويقول الكاتب عن ذلك: على سبيل المثال، أوضحت حملة قادتها منظمة «ديتيكشن آكشن» أن الاحتجاز غير فعال في الدفع إلى الترحيل، وهو مكلف لدافعي الضرائب، وضار بالمحتجزين. في معارضتهم للاحتجاز إلى أجل غير مسمى، ساهم الناشطون في نمو تجارب جديدة «بدائل للاحتجاز»، مثل مشاريع تقدم دعماً مخصصاً للعاملين في القضايا القانونية للمحتجزين بما يتماشى مع توجيهات مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين. كما أن عمل مجموعات مناهضة للترحيل لفت الانتباه إلى عنف الترحيل، وأجبر الحكومة البريطانية على التوقف عن استخدام الرحلات الجوية التجارية العامة لهذه الممارسة. لكن مع عدم وقف عمليات الترحيل، أثار هذا النشاط تساؤلات علنية حول شرعية ممارسات الترحيل والظروف التي يتم فيها ترحيل الأفراد. وبالتالي، فإن الاحتجاز والترحيل يلفت الانتباه إلى حد كبير كمواقع للعنف الذي تجيزه الدولة تجاه طالبي اللجوء.

يجد المؤلف أن «القيام بنشاط حقوقي وإنساني رداً على مثل هذا العنف أمر ضروري تماماً، ويتوافق مع الاهتمام النقدي للأكاديميين والناشطين في إثبات الآثار المقلقة لهذا الدافع للردع وعلاقاته بجني الأرباح واستخراج القيمة من قبل الشركات الأمنية. ويرى أنه على النقيض من العنف الصريح للاعتقال أو الترحيل، يعكس التشتيت نمطاً أكثر خطورة للانتظار الهامشي.. لا يزال التشتيت مقيداً وتحت السيطرة، لكن انتهاكاته أقل وضوحاً وغالباً ما تكون موضوعاتها مخفية». ويجد أنه «لفهم حياة طالبي اللجوء، من المهم للغاية التعرف إلى الدور الذي يلعبه التشتيت في إدارة اللجوء».

يجد المؤلف أن ممارسة تشتيت طالبي اللجوء يجب ألا يُنظر إليها على أنها تتعلق فقط بسياسة الهجرة واللجوء، بل ترتبط بسلسلة أوسع من مخاوف العدالة الاجتماعية حول الإسكان وعدم المساواة والحرمان العنصري في بريطانيا المعاصرة. إن إجراء مثل هذه الروابط مهم من الناحية السياسية، ليس فقط لتجنب تشعب الجدل وتفرعه إلى مجالات منفصلة من السياسة، ولكن لرفض سرديات الاستحقاق التي تضع المجموعات الاجتماعية المختلفة بسهولة في موقع يبين أنها تتنافس على الموارد.

 

* جوناثان دارلينج أستاذ مشارك في الجغرافيا البشرية بجامعة دورهام. وهو محرر مشارك في كتاب «المدن الملاذات والصراعات الحضرية: إعادة قياس الهجرة والمواطنة والحقوق»، و«مواجهة المدينة: لقاءات حضرية من أكرا إلى نيويورك».







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي