رحلة تاريخية وفلسفية وفيزيائية في بُعدٍ غامض ومدهش

متابعات الامة برس:
2022-09-07

دان فالك

لطفية الدليمي: كان الزمن، وسيظلُّ، موضوعاً لدراسات بحثية معمّقة على الأصعدة التاريخية والثقافية والفلسفية والفيزيائية. أسبابٌ كثيرة تسوّغُ استمرارية هذه الدراسات، منها:

- الزمن موضوعٌ تتقاطعُ فيه معظم الحقول المعرفية.

- الزمن هو أساس تجربة الوعي البشري.

- الزمن تركيب عقلي في نهاية المطاف وليس كينونة مادية مشخّصة توجد بمعزل عن الذات المُدْرِكة (أو العقل الواعي بالتعبير الفلسفي التقني).

- بقدر ما يبدو الزمن كينونة مألوفة وملازمة للوجود البشري فإنه مفهوم يكتنفُ بأشدّ الغموض والتعقيد.

- الزمن هو أعظم ما يهتمُّ لشأنه البشر حتى لو لم يعرفوا هذا. تجربة العمر –مثلاً– والاستحالات التي تترك أثرها على الناس لا يمكن نكرانها أو إغفالها من جانب أي شخصٍ بصرف النظر عن خلفيته العلمية والثقافية.

- الزمنُ ليس كينونة انفرادية بذاتها بل يتلازم دوماً في هيئة ثنائيات: الزمن والمكان، الزمن والوعي، الزمن والذاكرة؛ ومن هنا سحره الطاغي وجاذبيته البحثية.

نحنُ –باختصار– مخلوقات الزمن، ومتجذّرون فيه.

* * * * *

كثيرة هي الكتب التي تناولت مفهوم الزمن، ومنها كتبٌ تمّ التعريف بها في ثقافية «الشرق الأوسط»، أذكر منها –مثلاً– كتاب «نظام الزمن» للفيزيائي العالمي كارلو روفيللي. قد يَردُ مفهوم الزمن في فصول محدّدة من بعض الكتب، مثل كتاب «العالم كما تفهمه الفيزياء» للفيزيائي جم الخليلي؛ لكنّ الكتاب الحديث المنشور عن «دار المدى» بعنوان «في البحث عن الزمن: رحلاتٌ في بُعدٍ مدهش In Search of Time: Journeys in a Curious Dimension»، لمؤلفه دان فالك Dan Falk بترجمة أنيقة للدكتورة رشا صادق التي أضافت الكثير من الهوامش التعريفية للكتاب وساهمت في تعزيز مادته... يختلف هذا الكتاب عن الكتب الأخرى بكونه يقدمُ تناولا شاملاً لمفهوم الزمن في سياق تاريخي وفلسفي وفيزيائي، وهذا ما يمنحُ الكتاب قيمته الإثرائية للقراء. من المثير أنّ المؤلف يمتلك تحصيلاً دراسياً في الفيزياء والصحافة والكتابة العامة لجمهور القرّاء؛ وعليه فإنّه يحكي من داخل المشغل الفلسفي والفيزيائي وليس متطفلاً عليهما.

يكتبُ المؤلف في تمهيده للكتاب عن الطبيعة الإشكالية للزمن فضلاً عن تأليف كتابٍ عنه:

«قُلْ للناس إنّك تؤلّف كتاباً عن الزمن وستتلقى ردود أفعالٍ مدهشة! هل ستكتب عن السَّفَر عبر الزمن؟ أؤكّد لهم أنّ كتابي يطرح أسئلة ساحرة عن طبيعة الزمن نفسه وعن الفضاء وعن قوانين الطبيعة. بعضُ الناس يخمّنون أنني أكتبُ كتاباً عن (الفيزياء)، ولا بد أنه سيكون تقنياً متخصصاً، فيه الكثير عن الإنتروبيا وحدود العالم وما إلى هنالك. أطمئنُ هؤلاء: هذا الكتاب، على الأقل، ليس كتاب فيزياء فحسب. هدفي هو مقاربة أوسع للغز الزمن من اتجاهات متعدّدة...».

يحتشدُ الكتاب بمفردات تقنية فلسفية كثيرة؛ لكنّ فرادة المؤلف تكمنُ في قدرته على تحويل هذه المفردات من الفضاء التجريدي التقني إلى الفضاء العام عبر سرديات حكائية يمتلك زمام قيادتها بغية الإمساك باهتمام القارئ. يضمُّ الكتاب اثني عشر فصلاً، تختصُّ الفصول الأربعة الأولى منها بموضوع تاريخ الزمن، ومن عناوين هذه الفصول: دورات الزمن الطبيعية، والبحث عن التقويم المثالي، وتقسيم اليوم، والزمن والثقافة. الفصول الباقية تختصُّ بفيزياء الزمن وفلسفته. ولن يخفى على القارئ هذا التلازم الوثيق بين فيزياء الزمن وفلسفته إلى حدٍّ لا يعود معه ممكناً تناول فيزياء الزمن بمعزل عن فلسفته، ولعلّ هذه الحقيقة تؤكّد الرأي الشائع أنّ الفلاسفة الحقيقيين في عصرنا هذا هم فيزيائيون بالضرورة. نقرأ في عناوين فصول الجزء الفيزيائي – الفلسفي: الذاكرة جسر عبر الزمن - زمن إسحق (نيوتن) - زمن ألبرت (آينشتاين) - العودة إلى المستقبل - البحث عن فجر الزمن – ما قبل البغ بانغ (الانفجار الكبير) - كل شيء يجب أن يموت - الوهم والحقيقة. لا بأس من الإشارة إلى حقيقة أنّ مفهوم سهم الزمن Arrow of Time –بكلّ أشكاله– يلعبُ دوراً مركزياً في هذه الفصول، وسيشهد القارئ أطروحات مثيرة في كيفية تعشيق هذه الأشكال بعضها مع بعض.

من الأفكار المثيرة في الكتاب تلك الخاصة بفكرة كلّ من نيوتن ولايبنز عن الزمن:

«اعترض عددٌ من الفلاسفة على فكرة الزمن (النيوتني) المطلق، وجادلوا لمصلحة مفهوم علائقي relational للزمن؛ أي بمعنى أنّ الزمن له معنى فقط من خلال علاقته بحركة جسم مادي. أحد أبرز مناصري هذا الرأي كان فيلسوفاً ورياضياتياً ألمانياً معاصراً لنيوتن هو غوتفريد لايبنز (1646 – 1716)... الزمن وفقاً للنظرية العلائقية هو –ببساطة- طريقة لمقارنة حدث ما مع حدث آخر وليس مستقلاً عن العناصر المادية التي تشكّل الكون...».

حرص المؤلف على إيراد الكثير من الأفكار في سياق سردية روائية محببة للقارئ، حتى لكأنّ القارئ يكادُ يرى المشهد السردي حياً أمامه. هاكُم مثال:

«التقيتُه (جوليان باربور) في منزله، وهو منزل ريفي عمره ثلاثمائة وخمسون عاماً، ذو سطحٍ من القش، مبنيٌّ في قرية ساوث نيو إنغتون شمال أكسفورد شاير. دعاني إلى الحديقة حيث شربنا الشاي وتحدّثنا عن الزمان والمكان، عن الحركة والتغيّر، وعن ماخ ومينكوفسكي. انطباعي عن باربور أنّه عالم وجنتلمان إنجليزي ريفي في آن واحد. تمّ لقاؤنا في أواخر الربيع، الشمس ساطعة وفق المعايير البريطانية، ورائحة أزهار الويستريا تفوح في الجو... ثم انتقلنا إلى داخل المنزل كي نتناول عشاء من الهليون والخبز والزبدة والجبنة...».

هاكمُ مثال ثانٍ يختصُّ بآينشتاين:

«في بيرن يتجوّل الزوّار في الشقة المتواضعة التي عاش فيها آينشتاين خلال ذروة قدراته الإبداعية، ويزورون الغرفتين حيث تناول وجبات بسيطة مع زوجته، وهدهد ابنه الرضيع كي ينام، وعزف على الكمان، وتخيّل كوناً جديداً. كان أصدقاؤه يزورونه على العشاء، ويتناقشون مطوّلاً. تحدّثوا عن الميكانيك والكهرباء، عن الساعات والأطر المرجعية، عن الفيزياء والفلسفة... في دوّامة تلك النقاشات التي غذّتها السجائر والقهوة التركية بدأت بذور النسبية الخاصة تتولّد في عقل آينشتاين...».

يمكنُ للقارئ بعد إتمام هذا الترحّل المدهش في الزمن أن ينتهي إلى خلاصة تتجوهر فيها آراء فلاسفة العلم والفيزيائيين المعاصرين، مفادُ هذه الخلاصة أنّ ملايين من سنوات التطوّر البيولوجي، فضلاً عن آلاف السنوات من التطوّر الثقافي واللغوي، شكّلت عقولنا بطريقة تجعلنا نتخيّلُ «جريان» الزمن رغم أنّ هذا الجريان غير موجود على أرض الواقع. إنه وهمٌ ليس أكثر، وقد خلق هذا الوهمُ معضلة يشترك فيها الفلاسفة وعلماء النفس. ربما سيتّضحُ لنا آخر الأمر أنّ (جريان الزمن) معضلة شديدة التعقيد تنتمي إلى صنف المعضلات الكبرى في حقلَي الفلسفة وعلم النفس، وهي معضلاتٌ على شاكلة: ما الذات؟ وما الوعي؟

يختتم المؤلف كتابه بعبارة مؤثرة وذات قيمة دلالية كبيرة وردت في رسالة عزاء كتبها آينشتاين بتاريخ 21 مارس (آذار) 1955 لعائلة أحد أصدقائه الحميمين، ميشيل باسو، الذي عمل معه في مكتب براءات الاختراع في بيرن، العاصمة السويسرية، قبل أن يصبح آينشتاين نجماً لامعاً. كتب آينشتاين في عبارته تلك:

«الآن، وقد غادر (ميشيل) هذا العالم الغريب قبلي بقليل، هذا لا يعني شيئاً بالنسبة لنا نحن الفيزيائيين المؤمنين. الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهمٍ عنيد».

صدق آينشتاين في نبوءته تلك؛ فقد لحق بزميله القديم بعد أقلّ من شهر عقب إرساله رسالة التعزية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي