حافِلة

2022-09-23

أنس أبو سمحان

الأصوات عَديدة في داخلي. أحاول السيطرةَ عليها قدر المُستطاع، ولكنّها دائمًا تهرب مني. أشعر بالصفاء التام في لحظات مُعيّنة، ولكنّ لحظات الضجيج تسود في الغالب. هربتُ من غرفتي الصغيرة، وقرّرت لأوّل مرّة أن أركب الحافلة في اتّجاهٍ لا أعرفه بعد. المَدينة كبيرة، ولم أستكشف منها إلّا القليل. يُفتح الباب عند الموقف. أصعد. أجلسُ في المنتصف، ولم أجلس بجانب النافذة، مخالفًا بذلك الرغبة الطفولية في داخلي. لم أعد أنظر إلى الخطوط على الكراسي كما كنتُ أفعل قبلًا. قبل تلك المرحلة الأولى. أي مرحلة؟ لا أعرف. ما أعرفه هو أني فقدتُ شيئًا، وما زلتُ أبحث عنه. أرفع رأسي قليلًا، وأشعر بثقلٍ قويّ. أجول بناظريّ.

في زاوية الحافلة، يجلس كائنٌ يبدو من الخارج هادئًا جدًّا. ملامحه مرتاحة ومريحة. مُ ر ي ح ة. لا يوجد أي حرفٍ انفجاريّ أو صوت قويّ في أحرف الكلمة. كان الشخص هو دلالة المعنى للكلمة. أنف انسيابي. فم مرسوم. حواجب دقيقة. شعرٌ ينسدلُ على كتفيهِ بتماثُلٍ تام. يرتدي قميصًا مُقلَّمًا، وبنطال لايكرا يرسم تفاصيل جذعهِ. البنطال ليس فضفاضًا بتجعيدات خفيّة، وليس ضيقًا ليُخرب الهيبة. بالطول والاتساع المناسبين تمامًا. يجلسُ بزاوية قائمة، دون أن يسند يديهِ أو رأسهِ في اتجاه. يضع سمّاعات الأذنين. بين كلّ ثانية والأخرى، يهزّ رأسه لأعلى ولأسفل.

أنظرُ إلى قدميهِ الآن. كل واحدة مُنهما تنقر الأرض نقرًا متتاليًا. أحاول من بعيد أن أضبط هذه الحركة. أضع جلّ تركيزيّ على هذه الأطراف الثلاثة. أخرج من نفسي... فيهِ. حركة إيقاعية منضبطة. شيئًا فشيئًا، يحتلّ الصمت واقعي ومخيّلتي، حتى لا أكاد أسمع أي صوت. عقلي يُحيّد كل أمرٍ آخر، فلا أرى إلّا أطرافه تتحرّك لأعلى ولأسفل، أو يمنى ويسرى، رأسه وقدميه. بعد لحظات، أتمكّن من اللحاق بهِ. تدريجيًا، دخلتُ إلى عالمهِ. حركة القدم اليسرى تسبق حركة الرأس بنصف ثانية تقريبًا، ثم تتبعها حركة القدم اليمنى، ثم الرأس مرة أخرى. أبدأ بمحاكاة الإيقاع عندي.

قدمٌ يسرى. رأس. يمنى. رأس. لم يعد الكائن في زاوية الحافلة هادئًا وساكنًا بالنسبةِ لي. أُغلقُ عينيّ، وأستمرّ في إنتاج الإيقاع بقدميّ ورأسي. أشدُّ على جفنيّ أكثر. هناك حفلة تدور في رأس ذلك الغريب، وقد دخلتُها عنوةً دون إذنٍ. يمكنني أن أرى الموسيقى. نعم أراها. أتذوقها. أسمعها. أرقص عليها. مزيج من الكمنجات والبيانو وضربات درامز منتظمة. الموسيقى التي أراها من صنع قدمين ورأسيْن. أنتبه الآن أن الحافلة قد توقفَت.

لقد توقفت الحافلة، ولكني لم أكن في كرسيّي. كنتُ واقفًا في منتصف الممرّ. الناس من حولي ينظرون، مُستنكرين فعلتي. وجّهت نظري ناحية الزاوية. كان الكائن المُريح قد نزل. تمشي الحافلة مرّة أخرى. أعود إلى مقعدي بعد رقصي، دون أن أدري، أمام الجميع.

أغمضُ عينيّ. أحاول التركيز لأعيد جوقة المُوسيقى في مخيّلتي، ولكني أفشل. محكوم بالمحاولة والفشل. محكوم بالمحاولة. أحاول تحريك رأسي وقدميّ، ولكن لم يكن هناك من ضابطٍ للحركة. آثرت في النهاية الاستسلام. لم أكن إلّا زائرًا ثقيلًا في مخيّلة ذلك المايسترو. تتوقّف الحافلة مرة أخرى. أنزل منها، وبعد خطوي في الشارع، أنظر مِن حولي. كان خليطًا هائلًا من الضوضاء المُبعثرة. ليس غريبًا. أسأل نفسي: هل أنا نوتة نشازٍ في هذه المعزوفة الكبرى؟ أم أنني سأكون معزوفة مُتكاملة الأركان في مخيّلة شخصٍ آخر؟

كاتب من فلسطين







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي