إلى صديقة دمشقية: أمل دنقل يبكي سوريا شعراً

2022-09-24

مروة صلاح متولي

في ديوان أمل دنقل يطالع القارئ قصيدة بعنوان «إلى صديقة دمشقية» ألّفها الشاعر سنة 1966، ربما من وحي حادثة من الحوادث التي وقعت في سوريا آنذاك. لكنها كشعر خالص يستوفي جميع شروطه الفنية والجمالية، لا مجرد تعليق موزون على الأحداث، لا تزال صالحة للحياة إلى اليوم، ويجد فيها المرء ملامسة لجزء من الوجع السوري الهائل، والمأساة التاريخية الكبرى التي لحقت بالشعب السوري، على مرأى ومسمع من الجميع، الذين يعاصرون هذه الحقبة البائسة والمظلمة من حياة الشعوب العربية. في هذه القصيدة يعبّر أمل دنقل عن وشائج الحب، وأواصر القرب التي تربطه بالشام، فهو كشاعر مصري تشغله دمشق كما تشغله القاهرة، وكل شعب عربي يعاني تحت وطأة القتل والظلم والقهر، وانعدام الحرية والحياة. وكما يشغله أيضاً الإنسان بشكل عام، فوق أي أرض، وتحت أي سماء.

لكن لسوريا دائماً شأن آخر في القلب المصري، فما بال هذا القلب إذا سكن أضلع شاعر، يُعد من أبرع شعراء مصر في العصر الحديث، يستطيع أن يُقلّص المسافة بين الشعور والكلمة، وأن يخط بقلمه كل ما يعتمل داخل عقله ونفسه، من أفكار وأحاسيس، وهواجس وأحلام، وكوابيس أيضاً. لم يكن أمل دنقل عرّافاً يتنبأ بالغيب ويستشرف المستقبل، وإن كتب قصائد نتذكرها اليوم بأسى بالغ وخوف شديد، كقصيدة «أيدوم النهر؟». فهو ببساطة كان شاعراً حقيقياً وحسب، وكشاعر حقيقي دقيق الحس، كانت لديه الرؤية العميقة للأمور، والمخاوف التي تهاجم رهافته وحساسيته الشاعرية، وامتزج كل هذا بشعره الذي نظمه خلال سنوات قليلة من عمره القصير، حيث فارق الحياة عام 1983 في سن الثالثة والأربعين. لكنه بث في كلماته حياةً لا نهائية، يكتشفها المرء كلما قرأها من جديد، وعاد إليها ليلتمس فيها شيئاً من النور والحكمة والجمال، أو ليبحث لدى هذا الشاعر المصري الذي عانى في زمنه، عن بعض من مواساة قد تخفف من آلام الحاضر.

في قصيدة «إلى صديقة دمشقية» تتعدد عناصر الجمال، وتتسع اللغة الواضحة النقية للكثير من المعاني والصور، والمشاعر والأخيلة والقصص، ذلك أن أمل دنقل يأخذ القارئ أخذاً جميلاً بصوته الشعري، الذي كان جديداً في زمنه، ولا يزال ينبض بالحيوية والحركة والنشاط، ويغلفه ذلك النبل الذي لم يمسه أو يحطمه أي شيء على مرّ السنين. إلى الصديقة الدمشقية يوجه أمل دنقل كلماته، وعنها صاغ أبياته الشعرية، ومعها أقام حواراً، وعلى لسانها وضع بعض الجمل والأسئلة. ودمشق هي الصديقة وهي الحبيبة أيضاً، وبطلة الدراما في القصيدة، التي يرسم بعض ملامحها الشخصية بشعره. تتكون القصيدة من ستة مقاطع، لكل مقطع وحدته الفكرية والفنية وصوره الشعرية الخاصة، وكذلك وظيفته التقنية، التي تنتقل بالقارئ بين ثنايا الحكاية، وتخبره بما كان، وما هو كائن، وما يُرجى أن يكون. يبدأ الشاعر قصيدته قائلاً:

إذا سباكِ قائد التتار

وصرتِ محظية..

فشد منك شعراً في سُعار

وافتض عذرية..

واغرورقت عيونك الزرق السماوية

بدمعة كالصيف ماسيّة

وغبتِ في الأسوار

فمن ترى يفتح عين الليل بابتسامة النهار؟

هذا الافتتاح يذهب بالقارئ على الفور إلى مأساة سوريا، والشعب السوري الذي كشفت له الدنيا عن أقبح وجوهها، ورأى أكثر صنوف البشر توحشاً. يتذكر القارئ ما لاقاه هذا الشعب، وما زال يلاقيه من خطوب وأهوال، وضروب البلاء والشقاء، وهو يواجه الديكتاتورية في أبشع صورها، خلال معركته من أجل الحرية. يخاطب أمل دنقل الصديقة الدمشقية في افتتاحية قصيدته، بكلمات مخيفة بالغة القسوة، ويرسم صوراً مروعة مفزعة عن مصير كئيب، ودرجة رهيبة من درجات الجحيم. وفي الوقت نفسه، يمنح القارئ لمحة عن جمال تلك الصديقة الدمشقية، وينهي ذلك المقطع الافتتاحي بسؤال يظل مطروحاً، ليست له إجابة داخل القصيدة. ينتقل الشاعر من القسوة إلى الرقة، ويقابل بينهما ليوضح هول ما تتعرض له تلك الجميلة الرقيقة، ويلاحظ القارئ اختياره لمفردات مؤلمة، كمحظية والسبي والسعار، وما إلى هنالك من كلمات تترك أثراً موجعاً في نفس القارئ، وتدخله منذ اللحظة الأولى إلى العالم الداخلي للقصيدة. في المقطع الثاني يزيد الشاعر من وصفه للصديقة الدمشقية، ويمنح القارئ المزيد من اللمحات عن جمالها حين يقول:

ما زلتُ رغم الصمت والحصار

أذكر عينيك المضيئتين من خلف الخمار

وبسمة الثغر الطفولية..

أذكر أمسياتنا القصار

ورحلة السفح الصباحية

حين التقينا نضرب الأشجار

ونقذف الأحجار

في ماء فسقية!

يبدو هنا تعلق الشاعر بعيني تلك الجميلة، حيث يصفهما من جديد بالمزيد من الصفات الحسنة، ويصف ابتسامة كانت في الماضي. يغلب على هذا المقطع الثاني جمال الذكرى، وتقلُ القسوة التي لا تتمثل سوى في كلمتين هما، الصمت والحصار، كواقع يشير أمل دنقل إلى استمراريته. لكنه يقاومه أو يهرب منه أحياناً، باللجوء إلى الذكرى والاعتصام بها، والتشبث بضوء يشع ُمن عيني الصديقة الدمشقية. يشعر القارئ بالانسيابية في هذا المقطع، وسلاسة حكي الذكريات، ويلاحظ كذلك قدرة الشاعر على خلق صور ومشاهد، تحتوي على الكثير من الجمال والحركة بعبارات قصيرة. واستكمالاً لذلك الحكي يقول أمل دنقل في المقطع الثالث من القصيدة:

قُلتِ.. ونحن نُسدل الأستار

في شرفة البيت الأمامية

لا تبتعد عني

انظر إلى عيني

هل تستحق دمعةً من أدمع الحزن؟

ولم أجبك.. فالمباخر الشامية

والحب والتذكار طغت على لحني

لم تُبق مني وهمَ أغنية!

وقلتُ.. والصمت العميق تَدقُه الأمطار

على الشوارع الجليدية

عدتُ إليكِ بعد طول التيه في البحار

أدفن حزني في عبير الخصلات الكستنائية

أسير في جناتك الخضر الربيعية

أبلُ ريق الشوق من غدرانها..

أغسل عن وجهي الغبار!

نافحتُ عنك قائد التتار

رشقتُ في جواده.. مُدية

لكنني خشيت أن تَمَسَّكِ الأخطار

حين استحالت في الدجى الرؤية

لذا استطاع في سحابة من الغبار

أن يخطف العذراء.. تاركاً على يدي الإزار

كالوهم.. كالفرية!

هذا المقطع هو أطول مقاطع القصيدة، ومن أجمل مقاطعها أيضاً. تُمثل هذه الأبيات المتلاحقة بإيقاع سريع بعض الشيء ذروة الحكي الدرامية، وهي أبيات غنية بالتراكيب الجمالية، والصور والأحداث والألوان والأصوات، بل النسيم أيضاً الذي يكاد القارئ يشعر بلطفه، وهو يطالع بعض الكلمات. هنا في هذا المقطع يتحول الشاعر إلى بطل مهزوم، جاهد من أجل الدفاع عن حبيبته وإنقاذها، لكنها ضاعت منه في النهاية، وأي جرح أعمق من هذا يمكن أن يؤلم رجلاً لم يستطع أن يحمي حبيبته.

كان أمل دنقل بارعاً في طرح الأسئلة، وتحتوي قصيدة «إلى صديقة دمشقية» على سؤالين فقط، جاء السؤال الأول في الافتتاحية على لسان الشاعر، أو بطل القصيدة، وهو «فمن ترى يفتح عين الليل بابتسامة النهار؟». وفي هذا المقطع الثالث يجد القارئ السؤال الثاني، الذي يعد من أجمل وأرق أبيات القصيدة على الإطلاق، وأكثرها تأثيراً عاطفياً في النفس، وضع الشاعر هذا السؤال على لسان الحبيبة، أو الصديقة الدمشقية، وربما دمشق نفسها، يقول هذا البيت: «انظر إلى عيني.. هل تستحق دمعة من أدمع الحزن؟». بعد هذا المقطع الطويل، يجيء المقطع الرابع من القصيدة قصيراً للغاية، حيث يتكون من بيتين فقط، تقول كلماتهما:

ما بالنا نستذكر الماضي دعي الأظفار..

لا تنبش الموتى.. تُعري حُرم الأسرار

فيظهر هذا المقطع القصير كما لو كان استراحة، بعد أبيات طويلة أرهقت قائلها، أو وقفة من أجل الانتقال إلى الجزء الآخر من القصيدة. وعلى الرغم من قصر هذا المقطع الرابع، إلا أنه يعد مثالاً جيداً على أسلوب أمل دنقل القوي الواضح، الذي يستهدف الوصول إلى الناس مباشرة. فهو لم يكن ذلك الشاعر الذي يذهب عامداً متعمداً إلى الألفاظ الغريبة، والتعبيرات الميتة التي لا حياة فيها. فالشعر عنده كان مرادفاً للحياة، وكان طوق النجاة من الانتحار كما كان يردد دائماً، لذلك لم يكن من الشعراء الذين ينتشون وهم يرون الحيرة على وجوه قرائهم، ويفرحون بأن لا أحد يفهم أشعارهم، ولم يكن يهوى تعذيب القارئ باللبس والغموض.

كان أمل دنقل يريد أن تصل كل كلمة من كلماته إلى الناس، وأن تستقر في أذهانهم بعد أن تُلامس قلوبهم، ولم يذهب من أجل ذلك إلى اللهجة العامية، بل كان يؤثر الألفاظ الفصيحة واضحة المعنى، ويثبت أن اللغة العربية الفصحى يمكن أن تصل إلى الجميع. بكلمات تُنشط القارئ بما فيها من حيوية ووضوح، ومتانة وسلاسة في الوقت نفسه، وقوة المفردة المنتقاة ودقة مدلولها، وجلاء المعنى وسلامة منطقه أيضاً. وكان يذهب في أكثر شعره نحو قصائد يسهل حفظها، أو تَذَكُر بعضها على الأقل. وكما كان يبتعد عن افتعال اللغة وتوليد الألفاظ الغريبة، كان يبتعد أيضاً عن اللغة الجافة التي يصد عنها القلب، ولا يمارس أي نوع من أنواع السلطة الأدبية أو الشعرية أو الفكرية على القراء. كان يسكب روحه فوق الأوراق التي يدون عليها كلماته، فتمتزج بشعره، وفي صوته يجد القارئ الرفق والحنان، على الرغم من حدته وواقعية رؤيته إلى درجة بعيدة. ومن أجمل مميزات أمل دنقل أيضاً، قدرته على صياغة المعاني القوية بلا صخب، ودون استعراض خطابي مُمل. في المقطع الخامس من القصيدة، يعود الشاعر إلى خلق المزيد من الصور المَروية شعراً، حيث يقول:

يا كم تمنت زمرة الأشرار

لو مزقوا تنورة في الخصر.. بُنية

لو علموك العزف في القيثار

لتطربيهم كل أمسية

حتى إذا انفضت أغانيك الدمشقية

تناهبوك.. القادة الأقزام.. والأنصار

ثم رموك للجنود الإنكشارية

يقضون من شبابك الأوطار!

تثير هذه الأبيات كوامن الأسى والحسرة في النفس، وتُذكّر بعض كلماتها مثل «القادة الأقزام» بكوابيس الواقع الحالي، الجاثمة فوق صدور بعض الشعوب العربية. بعد هذه المشاهد المُروعة، يختتم الشاعر قصيدته بصورة حالمة جميلة، آمنة ودافئة، تَعدُ بالحرية، أو بتحقق اختيار الحرية في يوم من الأيام، مهما كان هذا اليوم بعيداً، حيث يقول في المقطع السادس والأخير:

الآن.. مهما يقرع الإعصار

نوافذ البيت الزجاجية

لن ينطفي في الموقد المكدود رقص النار

تستدفئ الأيدي على وهج العناق الحار

كي تولد الشمس التي نختار

في وحشة الليل الشتائية!

كاتبة مصرية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي