الهامش والمهمشين في رواية « من أجل حب إلينا» لياسمينة خضرا

2022-09-27

محمد تحريشي

تندرج كتابات ياسمينة خضرا (محمد مولسهول) الروائية ضمن ما أسميه الكتابة الصراع والكتابة عن الصراع؛ فأغلب نصوصه تناولت الصراع من زوايا مختلفة اجتماعية وثقافية وسياسية وأيديولوجية وجيوسياسية؛ من ذلك روايات «الصدمة» ورواية «خرفان المولى» و»سونونوات كابول» و»ليلة الرئيس الأخيرة» من جهة، ومن جهة أخرى نجد روايتي «الرب لا يسكن هافانا» ورواية «من أجل حب إلينا» حيث توجه الكاتب توجهاً آخر في الكتابة عن الصراع من زاوية رؤية فنية خاصة. ولعل السؤال المطروح لمّا يكتب هذا الروائي عن أمريكا اللاتينية يغيّر من زاوية النظر؟ قد لا نجد مبررا لذلك إلا اتساع الرؤية وشمولية الموقف وحبية المكان وأهله، فياسمينا منفتح في كتاباته على العالم في صراعه حول الخير والشر وحول العدالة والظلم وحول الفساد والاستغلال. كتابة تجرد الذات من كل شيء حتى تبدو عارية أمام القارئ، فترتسم حالتها النفسية وبعدها الاجتماعي ومداها الثقافي ونزوعها الأنثروبولوجي وتوجهها الأيديولوجي وأساسها الفكري والسياسي.

يكتب هذا الروائي عن عوالم متنوعة ومتعددة في بلدان العالم، ولا يتقيد ببلد واحد أو بموضوع. ذلك أنه يكتب عن الإنسان بغض النظر عن جنسيته أو موطنه أو جغرافيته، إنه يكتب إلى حد الهوس عن هموم الإنسان وعن معاناة هذا الإنسان. رواية «من أجل حب إلينا»(Pour l’amour d’Elena) عمل سردي باللغة الفرنسية يقع في حوالي 330 صفحة من القطع المتوسط وهي صادرة في الجزائر عن دار القصبة سنة 2021، ترصد واقع مجموعة بشرية تعيش في الريف المكسيكي بكل هدوء ضمن نمط اجتماعي، تعرف الحب والمودة والألفة، تبدأ الأحداث بسيطة وعادية، إلى أن تتعرض «إلينا» إلى عملية اغتصاب من طرف مجهول، أما صديقها الذي يقف عاجزا عن الدفاع عنها، ولمّا يعودان إلى القرية، تقرر «إلينا» الفرار بوساطة أحد القرويين، والذي استوطن المدينة. ويكلّف حبيبها وصديق له بالبحث عنها في المدينة ومحاولة إرجاعها إلى القرية. وهكذا تنتقل الأحداث إلى المدينة لتغوص في عالم الجريمة والمخدرات وتجارة البشر، وكل الموبقات بعيدا عن المركز وهمومه. تتداخل الأحداث وتتقاطع الشخصيات وتنمو ويتسع المكان ويضيق وينفتح الزمان وينغلق على مشاهد من أزمة الإنسان لما تنعدم الرحمة، وتقع المجابهة والتدافع وحتى الاقتتال، «الآن بعد أن فكرت في الأمر، بعد سنوات، أعتقد أنني قررت المشاركة في الهجوم على المزرعة ليس لإزعاج ابن عمي، لكن لمعرفة المزيد عن تدريبات الموت»(الرواية). ناس ترفل في النعيم وناس في وحل القتل والموت تتمرغ.. هكذا يتدرب الذي يعيش في الهامش، أو مع المهمشين على القتل لاستعادة كرامة أهدرت يوم اغتصبت «إلينا».

تنمو شخصية دييغو مع تقدم الأحداث وتتحول وتتغير نحو الانتقام والثأر والتوجه نحو الشر في إطار الهامش الذي يعيش فيه، وضمن النظام الذي يسوس هذا الهامش من المجتمع، الذي تغيب عنه الدولة بمشاريعها التنموية الاجتماعية والاقتصادية، ولا تتدخل إلا من باب الردع والقمع والسجن، دون الاهتمام بتفكيك بنية الشر والظلم والفساد وعقلية العصابة التي تتاجر في كل شيء ممنوع من مخدرات وأسلحة وتجارة البشر، «المهاجرون الأفارقة. لقد حوصروا في ريو برافو من قبل رجالنا متنكرين في هيئة مهربين، جردناهم من ممتلكاتهم والآن سنقوم ببيعهم على الشبكة.

ـ كيف تبيعهم عبر الإنترنت؟

ـ ومع ذلك فمن الواضح. هؤلاء المهاجرون هم سجناؤنا. سوف أضع علاقات البنوة الخاصة بهم على موقع أنشأته وأطلقت عليه اسم جمعية خيرية مسيحية. سوف نجعل المترددين على الشبكات الاجتماعية، يعتقدون أن هؤلاء الأشخاص الذين نجوا من الغرق في البحار مرضى ويعانون من صعوبات، وأنهم بحاجة إلى مساعدة عاجلة. حتماً، سيتقدم أقاربهم. سيتم توجيههم إلى موقع آخر وسيُطلب منهم فدية إذا كانوا يريدون رؤية أقاربهم على قيد الحياة « (الرواية).

هكذا يجد دييغو نفسه وسط رجال عصابات يتاجرون في كل شيء بعيدا عن السلطة، دييغو هذا القروي المسالم في بلده، يتحول رفقة مرافقه إلى شرير لما ينتقل إلى المدينة فيعيش في هامشها؛ حيث يتساوى الحياة والموت والبقاء في هذا الهامش للأكثر دموية وفسادا، ولا أسف على من يفقد الحياة فيه، «شخصيا، لا أود أن أندم عندما يأتي دوري. أنا لا أستحق أن يفوتني أحد. لأنني طفيلي. أنا مدرك للضرر الذي أتسبب به، ومع ذلك أفعل ذلك. كم عدد الأطفال المسمومين، كم عدد العائلات الثكلى، كم عدد المسارات المهنية التي دمرت بسببي، بسببك، بسبب رانجو، بسبب هذه العصابات التي تمنع الأشخاص الطيبين من عبور الطريق دون أن تصيبهم رصاصة طائشة؟» هكذا يصبح الهامش مركزا للشرور والآفات وتنعدم فيه الحياة.

تقدم الرواية مشاهد عن الهامش تستدعي بالضرورة مشاهد عن المركز، إما من باب أن الأشياء تعرف بأضدادها، وإما من باب التقابلية بين الهامش والمركز؛ من ذلك ما جاء في الرواية، حيث تتم المقارنة بين حياة المهمشين وأفراد العصابات، وسكان المركز في المدينة الذين يعيشون حياة عادية هادئة ويستمتعون بها.. «ومع ذلك، فقد برز وسط المدينة تماما – فقد كان على النقيض من سانتا روزا، وباريو ألتو، وفي الهواء الطلق حيث كانت الأيام أكثر قتامة من الليالي. الناس الذين يتجولون في الساحات لم تكن لديهم وجوه الملعونين الذين طاردوا الأضواء الحمراء (focos rojos) ولا نظرة الناس الضائعين في الأحياء الخطرة (barrios peligrosos). كانوا يعيشون على كوكب آخر. هل كان هذا هو العالم الأفضل الذي رفع فيه راميريز نفسه؟». هل إن العيش في الهامش ومع المهمشين اختيار أم أنه قدر؟ وهل إن العيش في المركز ضربة حظ أو لعبة حساب؟ وما المانع في أن تزول الحدود بين المركز والهامش، من حيث الحقوق والواجبات والتساوي أمام القوانين؟ ومن سينصف هؤلاء ويرد إليهم حقوقهم؟ وهل أن المواطنة شعور وانتماء، أم أنها ممارسة للحق والواجب في دولة الحق والقانون؟ كيف يصبح المواطن صالحا وإيجابيا وهو يمارس حقه في الوجود؟ «كان في إمكاني الانضمام إلى هؤلاء الأشخاص الذين تقاسموا مدينتي، دون المعاناة من الآثار الجانبية، الذين حافظوا على حدائقهم بالقرب من مقابر جماعية.. إن كانت الصدفة قد تجعلنا نعود إلى الوراء في ذلك اليوم لسبب أو لآخر». أعتقد أن الصدفة والمصادفة قد تتحكم في مصير ما، لكن أرى أن المسألة تتعدى ذلك إلى درجة الوعي عند هذه الشخصية أو تلك، وأن المصائر مرتبطة وليست معزولة، وأن الوضع معقد جدا ومركب، ولا بد من النظر إليه في شموليته لا في خصوصيته، ولهذا يبدو وعي دييغو قاصرا عن إدراك حقيقة وجوده داخل الجماعة والهامش والمدينة.

إن إمكانية التحول من الخير إلى الشر متحققة متى تحققت الظروف المساعدة على ذلك، والإنسان ليس بمنأى عن ذلك. «انظر إلى نفسك يا دييغو. انظر إلى الوحش الذي ولدته في العملية القيصرية. إذا قيل لك، قبل عام، إن قاتلا ينام في داخلك، ما كنت لتصدق ذلك لثانية واحدة. ومع ذلك، ها أنت، في الواقع، قاتل ووحشي وشريك ووغد مثالي، أنت، الطبيعة الصغيرة للأمس، قارئ الكتاب الهادئ الذي يشل مشهد البندقية في لحظة الحقيقة، أو أي فتى يستحق هذا الاسم كان يخاطر بنفسه ليحظى بالحب والاحترام». ولهذا لم تفارق دييغو المقارنة بين واقعه وواقع سكان مركز المدينة، بل إنه كان يغبطهم مع بعض الغيرة، وهو يرى على وجوههم بعض السرور والهناء وراحة البال، في حين يعيش هو المعاناة والحرمان في كل تجلياته، بل قد يشعر بأنه منقاد إلى ذلك انقيادا، ولا يملك حرية التحرك والمناورة للخروج من هذا الوضع، «ربما كان هذا هو العالم الأفضل: عالم الناس العاديين. شعرت بالغيرة من كل ضحكة تنفجر في الأماكن، من كل مخمور يتجول في الهواء الطلق، سعيد بإبعاد هموم اليوم بينما كنت أعاني على الجانب الآخر من المرآة، شبح في رأسي وسحابة من الدخان كمنظور». المسألة إذن مسألة عقليات وذهنيات ووضعيات متقابلة أو متنافرة، أو حتى متطاحنة، وقد لا تقبل بتبدل المواقع، أو استبدالها، وكأنّ الأمر قد فُصل فيه منذ زمان بعيد. وقد تتعلق المسألة بقناعات ترسخت وأصبحت ثباتا قد يكون من الصعب تجاوزها أو القفز من حولها..

كاتب من الجزائر







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي