"نقشوا على الحجر" لسعيد الغانمي: قراءةٌ مفتاحُها ابن وحشية النبطي

2022-09-27

أنس الأسعد

حضر كتاب "الفِلاحة النبطية"، الذي ترجمه وأضاف عليه اللغوي والكيميائي ابن وحشية النبطي (توفي عام 318 للهجرة، 930 ميلادي)، في الكتابات الحديثة التي عالجت المدوّنة التراثية، واتّخذت منها متناً لـ"نقد العقل العربي"، كما عند محمد عابد الجابري (1935 – 2010)، وبطبيعة الحال عند ناقده جورج طرابيشي (1939 – 2016). ونُظِر إلى هذا العمل - الإشكالي حقاً من حيث نسبته لابن وحشية - بعيداً عن تهويلات الأهمّية التي جعلت البعض يتساءل إن كان شامبليون قد استعان بصاحب "شوق المُستهام في معرفة الرموز والأقلام" (كتاب آخر لابن وحشية) ليقرأ هيروغليفية حجر الرشيد مطلع القرن التاسع عشر.

فـ"الفِلاحة" (حقّقه: توفيق فهد، وصدر في جزئين عن "المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية" بدمشق، 1993 و1995) وُضِع في سياق نقد العقل المُستقيل عند الجابري بوصفه تمثيلاً على المأزق الإبستيمولوجي أو النكوص من رتبة البيان إلى رتبة اللاعقلانية العرفانية (الغُنوصيّة)، كونه لا يدرس النباتات في ذاتها بل لوظائفها السحرية و"الطبّية"، أو بوصفه تعبيراً عن "الفِلاحة التنجيمية"، كما يَنقل عن الأب الدومينكاني الفرنسي أندريه جان فستوجيير (1898 ــ 1982).

بِغضِّ النظر عن موقع الكتاب في خطّتَي كلّ من الجابري وناقده المختلفَتين، وربّما أيضاً عن غرضه الأوّل ككتاب يجمع بين الزراعة والسحر والميثولوجيا، فإن العمل يعدُّ أثراً أوّلياً ما زال يمكن اعتمادُه كمدخل لاشتغالات أُخرى مثل الكتابة عن الكتابة، لا بمعناها النفسي ولا الأثيري، إنّما بالتفتيش على أصولها الأُولى وفق مقاربة أركيولوجية، وهذا ما يبحث فيه كتاب الباحث العراقي سعيد الغانمي: "نقشوا على الحجر: قراءات في ثقافة مفقودة"، الصادر حديثاً عن "دار الرافدين".

الغاية التي يتحرّك في فضائها الغانمي ليست التحليل النقدي، إنّما ترميم الصورة المهشَّمة ومطابقة نقوش العصر الهلنستي مع ما أورده ابن وحشية في كتابه الذي ترجمه عن قوثامي الكسداني (والكسدانيون هم بقايا البابليّين الذين يتكلّمون الآرامية، ويُطلق عليهم العرب اسم الأنباط). والعصر الهلنستي أو المساحة الزمنية التي يشتغل عليها الغانمي تمتدّ بين عصرَين سياسيَّين: الفِرثي (247 ق.م – 224 ب.م) والساساني (226 – 651 م)، وروح هذا العصر "الدافعة والمحرِّضة على مزيد من الانفتاح والتعدُّد والأخلاق الإنسانية الفاضلة" - حسب الغانمي - هي "الغنوصية".

ينطلق صاحب "حراثة المفاهيم" (منشورات "الجمل"، 2010) في كتابه من أثَرٍ إسلامي، ويختارُه توطئةً للدخول في عالم يعجّ بالنقوش والكِسَر والجُذاذات، فيعرض بدايةً لرأيٍ أبي الريحان البيروني (ت: 440 هـ، 1048 م)، الذي يلزّم الغانمي ولعَه بالحِكمة الغنوصية بتأثُّرٍ من كتابات يحيى بن زكريا الرازي (توفي: 311 هـ، 923 م)، الطبيب المشهور. وهذا المدخل ليس بعيداً بشكل كبير، بالنظر إلى أنّ الغنوصية في طبعتها الإسلامية (العرفانية) شهدت انتعاشاً وتأويلات لم تقتصر على مَن تحمّسَوا لها كالمتصوّفة والسينويين (نسبة لابن سينا)، بل تعدّت ذلك إلى مَن جاء مِن خلفية الكلام الأشعري مثل الإمام المُفسِّر فخر الدين الرازي (ت: 606 هـ، 1210 م)، الذي يُثبت الغانمي تأليفه لكتاب "السرّ المكتوم" في آخر سِني حياته، ويصفه بأنّه "قد قطع طريق العودة على نفسه".

تبدو فصول الكتاب موجزةً، ينشَدُّ كلٌّ منها إلى موضوعة معيّنة، وإن كانت مؤدّياتُها تنتهي بإطراء تلك الروح التي تتصادى فيها كتابات أبوليوس (ت: 170 م) في الغرب الهلنستي (الجزائر أو صبراتا الليبية بالتحديد) مع لوقيانوس السيمساطي (ت: 175 م) في الشرق، أو سوريّة تحديداً، من حيث تناولهما للربّة إيزيس وأسمائها المختلفة باختلاف الأقاليم والبلدان. وهذا شاهدٌ على التعدّدية، بحسب الغانمي، وهي تعدُّدية تصبُّ في النهاية في مجمع الوحدة الثقافية التي تجعل الرومان يستلفون من الشعوب التي غلبوها آلهتها وتقاليدها، وهذا ما فعلوه مع الفِرثيّين والأنباط وغيرهم.

عن مثل ذلك الإطار العام، يغيب نصُّ "الفِلاحة" بمعناه المُباشر وينزاح قليلاً من موقعه كتوطئة تقنية، وهذا يفسح المجال أمام الكتاب لخلق مقارنات بين النقوش واللُّقى تذهب بالقارئ صوب مُتون معرفية جديدة، وطريقة تركيب تستحضر الكتابات والخطوط القديمة بطريقة سلِسة، على عكس التعقيدات التي تواجهنا عادةً عند قراءة مثل هذه الكُتب. ثم يعاود النص المُترجَم إلى العربية الظهور عند الحديث عن إشكالية التفريق بين الكنعانيين والكسدانيين التي أثارها قوثامي في كتابه، وعن نسَبِه إلى الأخيرِين، وما يُساير تلك المرويّة التاريخية الطويلة من نقوش وإشارات، انسحبت حتّى على كتابات مؤرّخي العصور الإسلامية الأولى، الذين وصلت إليهم تلك المرويّات على هيئة أساطير وعقائد مختلفة. 

كذلك يأتي العمل على تاريخ مملكة الحضر في القرن الثاني الميلادي، ويفصّل ثقافياً في مفهوم "عروبة الحضَر" التي تثبت نقوشها أن ملوكها تَسمّوا بالعرب: سنطروق ملك العرب، ولجش ملك العرب، أو إقليم عربايا (110 كم جنوب غرب الموصل)، في حين تثبت نقوش الآخرين عنها أنّهم كسدانيّون، قبل أن ينتقل الغانمي إلى ما يسميّه بـ"لمساتٍ ميثرائية" (نسبة إلى الإله ميثرا) حيث يتحدّث فيه عن أصول "وحدة الوجود"، المفهوم الأثير لدى العرفانيين، إنّما هذه الوحدة شمسية التوصيف، وعنها يصدرُ تفكير قوثامي وموقفُه.

أمّا ميثرا فإلهٌ هندو - إيراني، تماهى عند الفرس بالشمس، ولم تنحطّ منزلته إلّا مع صعود نجم الزرادشتية في العصر الأخميني، والتقاطع المثرائي الغنوصي في نصّ قوثامي هو تصوّره أنّ العالم السفلي ليس سوى مكان مظلمٍ شديد البرودة، يُعاقَب فيه "أتباع الزمهرير من أهل العقوبات". وحارس هذا العالم هو نرجول، الحارس أو الكلب الذي تقف وراءه، حسب النقوش الحضرية، الإلهة أترعتا، كما كانت تقف عشتار وراء نرجال أو تمّوز البابلي. ويؤتى في نصّ "الفلاحة" على ذِكر الكلب في طقس حفر الآبار، حيثُ يوصي قوثامي بالتخلّص من روائح الآبار السامّة بالتضحية بكلب بطريقة يطول شرحها، تبدو فيها علامات التنجيم والسحر بشكل واضح. ومثل هذا الكلب يحضر الغول والقنطور والميدوزا التي تلتفّ الأفاعي بشعرها وتتطلّع من قرار جحيم هاديس.

يمكنُ للقارئ أن يلمس اشتغالاً على التأثيل في جانب من كتاب الغانمي، وهذه أيضاً من البوارق السلسة في تمثيلات ولغة الغانمي واستحضاره اللهجات الحالية كأمثلة، حيثُ يُخصّص الفصل الأخير ليتأمّل تاريخ كلمة "صِلْمَتا" التي تحوّلت عبر التاريخ إلى أن صارت في زمننا "الزلمة" المستخدمة بكثرة في اللهجة السورية اليوم. وإذ ينطلق الفنّان الحضري (نسبة إلى مملكة الحضر) في نحته للتماثيل من تصوّر ديني، فهو يُسمّي التمثال أو الصنم بـ"صَلمَت" قبل أن تؤنّث الكلمة بأداة تعريف آرامية لتصير "صَلْمَتا". ومع الوقت اتّسعت دلالة الكلمة اجتماعياً فلم تعد حصراً على الآلهة إنّما استوعبت الإنسان النبيل أيضاً، ورافقت هذا التوسّع الاجتماعي تبدُّلات صوتية، حيثُ قُلبت الصاد زاياً، ومع أنّ الكلمة فقدت معناها الحرفي بالدلالة على الصنم إلّا أنها احتفظت بقيمتها المجازية، واللاحقة التي أنّثتها آرامياً لم تمنع من احتكار الرجال فقط لها، في حين كانت تُطلق على تماثيل الرجال والنساء معاً.

ليست هذه المرّة الأولى التي يعود فيها الغانمي إلى نصّ "الفلاحة النبطية". وإن كان العمل هو الأخير، إلّا أنّ المسوّدات الأوّلية له تعود إلى عام 2010 كما أشار المؤلِّف. وإذ يشكّل البحث في اللغة وأدواتها شفاهةً وكتابةً محوراً لاشتغالات الغانمي منذ "اللغة عِلماً" (1986)، وصولاً إلى عمله الأرأس "ينابيع اللغة الأولى" (2009)، فإنّ الكتاب الجديد يستكمل الاهتمام نفسه، إنما بمستواه العام، كما يُشكّل تكملة خاصّة لما تقدّم به من قراءات في "حراثة المفاهيم: الثقافة الزراعية والشيتية والفلسفة في كتاب الفلاحة النبطية" (2010)، وبهذا يظلّ ابن وحشية ــ ومن خلفه قوثامي، وقبّة الغنوصية الممتدّة بينهما ــ قادرِين على الحضور في زماننا دون أن يستحيلوا إلى ثقافة مفقودة.

"للغُنوصيّة إغراءاتُها"؛ بهذه العبارة يفتتح سعيد الغانمي كتابه، إذ يرى فيهاً بحثاً عن حلول ذاتية لفكّ مغاليق العالم الخارجي. ولا شكّ في أن الغنوصية أثّرت في مفكّرين وأدباء عديدين خلال القرون المسيحية الأولى، وخلقت وحدة ثقافية سرعان ما تلقّفها متكلّمو ومتصوّفة العالم الإسلامي، فاستحالت معهم نصوصاً شعرية وإشراقات نثرية، لكن لم يُلتفَت إلى نقدها عربياً إلّا قبل عقود.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي