سبيل غصوب: في وداع بيروت

2022-10-06

سعيد خطيبي

انتصاران حقّقهما سبيل غصوب في روايته الأخيرة، فقد شفي من ذاكرته المجروحة تجاه ماضيه ولملم تاريخ العائلة. في روايته «بيروت على نهر السّين» تظهر بيروت كمدينة مفتوحة على الاحتمالات كلّها، غارقة في فوضى دون أن تفقد أملاً في أن تقوم على قدميها من جديد، مدينة تحنّ إلى الفرح دون أن تفارقها أشباح الحرب الأهلية وروائح الموت، مدينة تتّسع للتناقضات، من غير رأفة بحالها ودون أن تغفل حقّها في العيش. إنّها رواية المدينة وأهلها لكن أيضاً حكاية من هجروها من غير أن يعرفوا سبيل العودة إليها. رواية حميمة عن الباقين وعن المغادرين، عن شاب ولد نهاية الثّمانينيات في باريس، من أبوين لبنانيين، وورث عنهما ذاكرتهما الملتبسة، دون أن يعلماه كيف ينجو منها، كما نجت منها شقيقته الكبرى يالا. في «بيروت على نهر السين» (التي صدرت عن دار ستوك بالفرنسية، 2022) نستعيد تاريخ الدّم والفجائع، وندرك أن العيش في بيروت لا يختلف عن العيش خارجها، فهي مثل القدر، تلاحق كلّ لبناني، تسكن مخيلته، بل يحملها في شرايينه، ولا حلّ من أجل التخفيف من وطأة الحنين إليها سوى الكتابة. كتابة ساخرة وصادمة ومثقلة بالذكريات عن أوجه تلك المدينة التي تغشاها تقرّحات، وتسري في دمها نشوة لا تريد أن تنضب.

مداواة المأساة بالسخرية منها

تنطلق الرواية من عام 2020، في عزّ الحجر الصحي بسبب كورونا، كما لو أنّها شريط وثائقي، حيث يجلس المؤلف قبالة أمّه حنان ووالده الشاعر قيصر غصوب، يشغّل آلة تسجيل ويطلب منهما الشروع في الحكي. كما لو أنهما قبالة محقّق شرطة أو قسّ في كنيسة يطلب منهما إفادته باعترافاتهما. إنّها رواية اللا متخيّل، كلّ شيء فيها حقيقي، أو هكذا يبدو، كلّ الأسماء التي ترد فيها هي شخصيات معروفة، من مثقفين وفنّانين لبنانيين، ومن شخصيات سياسية وأخرى عسكرية. كان في إمكان سبيل غصوب أن يتكّل على الأرشيف في سرد الحكاية، وفي استعادة التاريخ الحديث لمدينة بيروت، لكنه آثر طريقا آخر، أن يروي بيروت من وجهة نظر من ولد فيها وكبر فيها ثم هجرها، ولم يجد أفضل من يقوم بذلك الدور أكثر من والديه. فشرعا في الكلام، أو بالأحرى في التخاصم من يتكلم أكثر من آخر، فالمهمة لم تكن سهلة، بين والدين مزاجيين يتعاملان مع ماضيهما كفسحة للسخرية من آلامهما، وانطلقا في الكلام من أصل المأساة، منذ عام 1975 وصولا إلى اليوم.

فحين اندلعت الحرب الأهلية كانا لا يزالان في بيروت، شابان حالمان وقد تزوّجا لتوّهما، قبل أن يغادراها في خريف السّنة ذاتها، من أجل أن يواصل قيصر دراسته ولم يسع حنان سوى أن تتبعه. نويا أن يعودا إلى مسقط رأسهما في أقرب حين، لكن الحرب طالت. هكذا سوف يعيشان الوقائع من الخارج، يعرفان ما كان يحصل من مكالمتهما مع الأهل، من ألسنة مهاجرين جاؤوا من بعدهما، أو من أخبار الجرائد والتلفزيون. من خلال ما يسرده الوالدان كما لو أنهما بصدد البوح بمذكراتهما، بينما ابنهما يدوّن، تعود بيروت في صورها الدامية، تعود إلى ذاكرة مستنقعات الدّم وحرب الأخوة وبيئة الكره والحقد والتفرقة العقائدية. لقد جاءت هذه الرواية بشكل فصول قصيرة، أشبه برسائل من الحاضر إلى الماضي، لكنها مكثفة بالذاكرة وبالمشاهد (مرفقة في بعض المرات بصور من الأرشيف) كي تذكّرنا مرّة أخرى أن العاصمة اللبنانية تحيا في ماراثون طويل مع العبث، مع أوقات مستقطعة من الفرح العابر. وفي كلّ مرة يستعيد سبيل غصوب مشهداً من الماضي يحاول مقارنته بالحاضر، من انفجار الميناء إلى انهيار الاقتصاد، إنّه ليل بيروتي طويل، يُحكى في رواية تطوف بين قرابة النّصف قرن من تاريخ البلد، مع شذرات من التاريخ الثقافي، وإشارات إلى أمكنة، مكتبات أو غاليرهات، بالإضافة إلى العلاقة الصدامية بين النّاس وزعمائهم الدينيين أو العسكريين، في كلّ مرّة يرون في حاكم الخلاص، تخيب ظنونهم، في هذه الذاكرة المفتوحة لا يبحث المؤلف سوى عن شيء واحد: كيف يشفى من علاقته ببلد لم يعرفه، في صغره، سوى من هذيان والديه. إلى درجة أنه يكتب أن بيروت هي والداه. أن تلك المدينة صارت بشراً أمامه وليس مجرد انتماء غير ملموس.

طمس النوستالجيا

فضّل سبيل غضوب أن يشرع في حكايته العائلية من أيام الوباء الأخير، كي يتخلّص من وباء آخر: وباء النوستالجيا، ذلك السمّ الذي يسري في بدنه، ولم يجد له تفسيراً. بيروت تسكنه كلّما فكّر في الابتعاد عنها، كما سكنت وتسكن أهله الذين عاشوا ويعيشون في الشتات، من غانا إلى فرنسا إلى البرازيل. عائلة واحدة تفرّق أفرادها بين قارات أربع. كما لو أنه كتب روايته كي يثبت ما سبقه إليه الفنان شفيق عبّود (رفيق والده) الذي قال يوماً بأنه لا يعرف إن كان لبنانياً أو فرنسياً، لكنه يدرك تماماً أنّه أجنبي. أجنبي وكفى. ينتمي إلى اللا مكان. هكذا هي حالة المؤلف، فهو أجنبي في بيروت وأجنبي في باريس، لا هو في ضفّة الأصول ولا في ضفّة المنفى، بل بين بينين، يودّ أن يثبّت مكانة له في أرض الكتابة، لا شيء غير الكتابة، هكذا يقوم بتفتيت الحكايات في فصول، وكلّ فصل هو جرعة من أجل أن يقي نفسه من السقوط في اللاجدوى. لقد جاءت هذه الرواية كما لو أنّها بيان استقالة من الهوية الضيقة، فالانتماء لا يكون سوى للعالم الأرحب، إلى ما خلف الحدود، ما وراء جدران العقيدة والدّم والجنسية. لقد أسعف المؤلف قارئه في الإمساك بتناقضات الحال اللبنانية، في إدراك شيء من تاريخها الملغم، وأسعف نفسه في الأخير بأن كلّ عودة إلى الماضي إنّما هي عودة إلى الهاوية، إن الحلم بديل عن النوستالجيا، وإن التّحرّر من سطوة العائلة هو خطوة أولى نحو التّخلّص من تمزّقات الماضي الجمعي.

روائي جزائري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي