مراسلات حسين وجلال أمين عن برد لندن وبرنارد شو و"جدار برلين"

2022-11-11

غلاف الكتاب

القاهرة-رشا أحمد: ينتمي الشقيقان أحمد أمين (1932 - 2014) وجلال أمين (1935 - 2018) إلى تيار فاعل في الثقافة يمكن القول بأنه يجسد إلى حد ما مفهوم «المثقف العضوي»، من حيث اشتباكه المباشر مع قضايا المجتمع. التحق الأول بالسلك الدبلوماسي وعمل في سفارات مصر بالعديد من الدول إلى أن تقلد منصب سفير البلاد لدى الجزائر، وعكست مؤلفاته ومنها «دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين» و«ألف حكاية وحكاية من الأدب العربي القديم» اهتماما خاصاً بالعلاقة بين الحاضر والتراث. أما الثاني فهو مفكر وعالم اقتصاد وأكاديمي حظيت مؤلفاته بشهرة واسعة مثل «ماذا حدث للمصريين» و«ماذا علمتني الحياة» وعصر الجماهير الغفيرة».

من هنا تأتي أهمية كتاب «أخي العزيز» الذي يضم الجزء الأول من مراسلاتهما في الفترة من 1950 حتى 1960، فهي تتجاوز الشأن الخاص العابر وتعكس أبرز القضايا التي شغلت المثقف العربي في تلك الفترة.

الكتاب صادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة وقام بجمع الرسائل وتحريرها كمال صلاح الدين، حفيد حسين أمين، الذي يقول إن مضمون الخطابات بين الشقيقين يلقي ضوءا على حياتهما وعلى مراحل تطورهما الفكري والثقافي من زوايا مختلفة كما أن موضوعاتها الثقافية والفلسفية والدينية تجعلها مفيدة للقارئ العام.

تبدأ المراسلات عام 1950 وتمتد حتى عام 1987، أي منذ كان عمرهما ثمانية عشر وخمسة عشر عاماً على التوالي إلى أن بلغا الخامسة والخمسين والثانية والخمسين من العمر، أقاما خلال تلك السنوات في لندن وكامبردج وموسكو وكندا ونيجيريا والكويت وألمانيا والبرازيل ولوس أنجليس والقاهرة، كما زارا عدداً من الدول الأخرى واطلعا على ثقافات وحضارات مختلفة وبدآ في نشر العديد من كتابتهما وإنتاجهما الثقافي.

تبدأ الخطابات المتبادلة بينهما بخطابين غير مؤرخين كتبهما حسين أثناء تواجده في لندن للمرة الأولى في رحلة صيفية استمرت ثلاثة أشهر وكان عمره آنذاك ثمانية عشر عاماً وكان والدهما، الكاتب والمؤرخ أحمد أمين، صاحب فكرة إرسالهما لقضاء العطلة الصيفية في لندن لاعتقاده بأهمية تعلم لغة أجنبية في سن مبكرة نظراً للصعوبات التي لاقاها في تعلم اللغة الإنجليزية في سن متقدمة فأرسل «حسين» عام 1950 إلى لندن ثم أرسل «جلال» في رحلة مماثلة عام 1951.

يروى حسين كيف جمع من الإنجليز أكبر معلومات ممكنة عن حياة الأديب «سمرست موم» وقرأ له 16 كتابا وينتوي أن يكتب عنه سلسلة من المقالات. بدأ أيضاً يعد بحثا عن «دي جي موباسان» وأسلوبه في القصة القصيرة واختلافها عن قصص معاصريه ثم تأثير «جوستاف فلوبير» عليه، والفرق بينه وبين «أنطوان تشيخوف». وقد خطر لي فكرة قصة طويلة وسيبدأ في تنقيحها وكتابتها وهو في الباخرة مبحرا إلى مصر. وحين سأل عن «سمرست موم» في «ماي فير» أخبروه أنه يقضي الصيف في الريفيرا الفرنسية وقد شعر بالأسف الشديد لأنه لم يقابله. أما «برنرد شو» فهو في المستشفى والآلاف من أكاليل الأزهار تصله كل يوم وفي الراديو يذيعون مسرحياته متمنين قبلها الشفاء له وفي السينما يعرضون صورته.

عمل «حسين» بعد تخرجه في كلية الحقوق عام 1953 مذيعا في الإذاعة المصرية ورغم أنه لم يبق في عمله هذا سوى أقل من عام فإنه وجد نفسه أكثر من مرة في موقف العداء المتبادل مع رئيسه في الإذاعة حتى نقله الأخير من قسم المذيعين إلى قسم التسجيلات فتقدم لاختبارات هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» للالتحاق كمذيع في القسم العربي ولما نجح ولم يتبق سوى الحصول على موافقة الإذاعة المصرية رفض وزير الإرشاد إعطاءه إياها، فما كان منه إلا أن سافر إلى لندن بدون إخطار الإذاعة بذلك.

تبدأ خطابات هذه المرحلة من ديسمبر (كانون الأول) 1954 حين تولى حسين مهامه كمذيع في القسم العربي من هيئة الإذاعة البريطانية فيكتب لوالدته وإخوته عن أخباره وحياته في لندن وما يحدث في كواليس الإذاعة وعن الفرق بين العمل في الإذاعتين المصرية والبريطانية وسياسات «إل بي بي سي» غير المعلنة وخاصةً بعد العدوان الثلاثي على مصر وكيف وجد نفسه مضطرا للاختيار بين وطنه وتطلعاته الأدبية من جانب وعمله لصالح إذاعة العدو من جانب آخر.

ويشكو حسين من سقوط المطر باستمرار في لندن وكيف أن «السماء كئيبة مظلمة نحتاج معها إلى إضاءة النور في المكتب حتى منتصف النهار... صحيح أن الجو لم يعد باردا كما كان وأن الشخص يستطيع الآن الدخول إلى الفراش في المساء دفعة واحدة لا سنتميتر فسنتميتر كما كنا ندخل البحر في الإسكندرية وكما كنت أفعل في الشتاء ولكن الجو كئيب للغاية».

على الجانب الآخر، عمل جلال أمين عقب تخرجه في كلية الحقوق لفترة قصيرة كمعيد في نفس الكلية بقسم الشريعة الإسلامية رغم عدم حصوله على شهادة أزهرية، إذ لم يكن ذلك شرطا من شروط التقدم للوظيفة آنذاك، لكن ما إن علم بوجود بعثة حكومية لدراسة الاقتصاد في الخارج حتى تقدم بأوراقه إلى إدارة البعثات وحصل على بعثة حكومية إلى «مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية» التي تعد واحدة من أشهر الكليات في العالم. ويروي جلال كيف أنه عند حصوله على البعثة حذره بعض أساتذته في مصر من أنه سائر بقدمه إلى عرين الأسد وحذروه من أن يعود «دكتورا» في الاقتصاد ولكن سيكون أميا في كل شيء آخر.

وفي يناير (كانون الثاني) 1958 كان جلال يودع عائلته في بورسعيد صاعدا إلى الباخرة المتوجهة إلى إنجلترا وهو في الثالثة والعشرين من عمره واستمرت إقامته في لندن ست سنوات تزوج خلالها من فتاة إنجليزية وحصل على شهادة الدكتوراه قبل أن يعود هو وزوجته إلى مصر عام 1964. ووصف جلال تلك السنوات الست كما وصف حسين سنوات إقامته في لندن من قبل بأنها أكثر سنوات حياته خصوبة.

يشترك الشقيقان أيضاً في المعاناة من صدمة الطقس البارد، إذ يكتب «جلال» إلى «حسين» من مسكنه الجديد وهو راقد على السرير وفوقه بطانيتان ولحاف وتحت قدميه قربتا ماء ساخن والمدفأة موقدة. ويلفت نظر شقيقه إلى مقال للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية التي أثارت ضجة كبرى حول قضية تعذيب محرر فرنسي على يد بعض من الجنود الفرنسيين في الجزائر لكي يتحصلوا منه على معلومات عن الثوار الجزائريين. لم يرضخ المحرر ونشر بعد الإفراج عنه كتابا بعنوان «الأسئلة» ذكر فيه الأساليب الفظيعة التي استخدموها في تعذيبه. ونشرت بعض الصحف الفرنسية مقتطفات من الكتاب فصادرتها الحكومة الفرنسية ثم كتب سارتر سلسلة مقالات عن القضية. ويعبر «جلال» عن اعتقاده بأهمية الاحتفاظ بهذه المقالات لإدانة السلوك الفرنسي ومساعدة القضية العربية لا سيما بعد نشرها في الصحف والمجلات المصرية.

ويحكي «جلال» في رسائله كيف أن أهم الأخبار السياسية في أوروبا عموما تدور حول الأسلحة الذرية قائلا: «الواقع أننا في مصر لم نكن نعطيها ولا نزال الأهمية التي تستحقها في حين الرأي العام الغربي وخاصةً المثقف مشغول انشغالا تاما بالتجارب الذرية والخطر الذي يهدد العالم لو استعملت الأسلحة نفسها وأنا أتساءل لماذا لا تتكون في مصر جمعية تعمل للدعاية ضد هذه الأسلحة نفسها وضد تجاربها بحيث تتعاون مع مثيلاتها في العالم كله، ألا تعتقد أن الموضوع يستحق الاهتمام؟ وعلى رأي مجلة «نيو استيتمان» فإنه إذا كان العالم أقل جبنا من الجاهل فإن هذه القاعدة لا تنطبق في حالة الأسلحة الذرية إننا كلما ازدادت معرفتنا بها كلما ازداد خوفنا».

ويروي جلال انطباعاته عن ألمانيا الشرقية التي زارها آنذاك وهي خاضعة للنفوذ السوفياتي في إطار الحرب الباردة مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة: «في شرق برلين دون غربها تجد صبية بين السادسة عشرة والعشرين يبدو عليهم إرهاق العمل، يرتدون ملابس رخيصة لا يعتنون بهندامهم ويشربون السجاير والبيرة بكثرة مما لا يتفق وعمرهم ولكنهم مؤدبون ومخلصون وتحس أنهم ناضجون قبل الأوان، هذا الوصف ينطبق على البنات كما ينطبق على الأولاد».

ويلاحظ أن المحلات شرق جدار برلين قريبة الشبه جدا بالمحلات الصغيرة التي تجدها في مكان كحي «الظاهر» الشعبي بمصر... كما أن جزءا كبيرا من الملابس الرخيصة المعروضة تشبه نظيرتها في الأحياء المصرية الشعبية مثل العتبة أو شارع عبد العزيز.

ومن باب الإنصاف، يذكر أن شارعا واحدا جميلا جدا وبذلت فيه كل عناية هو «طريق ستالين» وهو شارع يبلغ طوله حوالي «شارع فؤاد» بالقاهرة حيث صفت المباني الفخمة على جانبيه وكلها بناها الروس على طراز واحد جميل. والمحلات التجارية في هذا الشارع رائعة التنسيق وفي منتصف الشارع تمثال لستالين وبجواره مكتبة ضخمة اسمها مكتبة «كارل ماركس» تحوي بالطبع كل كتب ماركس وانجلز ولينين بالألمانية ولكنها لا تحتوي من الأدب الروسي غير كتب غوركي.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي