تحولات الذات الإنسانية في رواية «فندق» لليمني سمير عبد الفتاح

2022-11-16

أحمد الأغبري

تمثل رواية «فندق» للكاتب اليمني سمير عبد الفتاح، الصادرة عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة في القاهرة ووزارة الثقافة اليمنية عام 2018، امتداداً لتجربة الكاتب في الاشتغال على عوالم الذات الإنسانية، إذ توقفت الرواية أمام أحوال وتحولات وتمظهرات الذات في علاقتها بالمكان الموازي للسكن الدائم، ممثلًا في السكن المؤقت (الفندق) من خلال استعرض أحوال نزلاء فندق في مدينة ساحلية؛ لتشكل الرواية قراءة فلسفية ونفسية في واقع الحياة اليومية لعدد من الحالات الإنسانية من نزلاء الفندق؛ وكأن السارد أراد مكاشفة الحياة الموازية للبيت، التي يعيشها الإنسان في الفندق، واستجلاء طبيعة الانسان في علاقته بهذا المكان.. فهل يختزل الفندق حياة أخرى للإنسان وتحديدا في علاقة الإنسان بذاته ومحيطه وتحولات وأحوال تلك العلاقة؟ هذا ربما ما أراد أن يفلسفه سمير عبدالفتاح في هذه الرواية، وكانت النتيجة مرضية.. على الأقل لكاتب السطور.

كعادته في هندسة رواياته، إن جاز التعبير، لم تُغفِل الرواية، الصادرة في (204 صفحات) عرض تاريخ الفندق والمراحل التي مرت بها الفنادق في العالم، وصولاً إلى ما صارت إليه حاليا؛ كان ذلك خلال سياق سردي مدهش لا تشعر معه بتدفق تلك المعلومات التي يغذي بها الكاتب سرده ويرفع من قيمته المعرفية؛ وهو سرد تصدى لرحلة صحافي (بطل الرواية) دُعي للمشاركة في مهرجان في بلد ما، إلا أن المهرجان تم تأجيله، ولم يعرف الصحافي بخبر التأجيل إلا عند وصوله، وبالتالي اتجهت رحلته صوب مدينة ساحلية في البلد نفسه؛ فقرر حينها أن ينجز تحقيقاً مصوراً عن الفندق الذي نزل فيه، ومرّ التحقيق بعددٍ من المراحل، إذ استعرضت الرواية (في سياق خطة الصحافي لإنجاز التحقيق) مكونات الفندق وشخوص إدارته، والتعريج في السياق ذاته، نحو النزلاء، محلقا في فضاءات حالات وتحولات الذات الإنسانية في علاقتها بالمكان، وتحديدا الفندق كمكان يستحوذ على بعض من قصصنا كأفراد كامتداد لعلاقتنا بالمكان الأم (البيت).

على صعيد البناء تصاعد الحدث الدرامي وفق نسق واحد، وهو نسق تتبع من خلاله الكاتب قصة كل شخص في الفندق، وخلالها كان وصف الفندق والغرف وما تحويه في سياق التعريف بحكاية كل نزيل؛ وهو وصف برع فيه الكاتب في علاقته بالشخوص والمكان معا، والحياة عموما…بدءا من صاحبة الفندق، مروراً بحكاية المحاسب والموظف الإداري عاطف، وتوقفا عند حكاية عوض وغيره، وانتقالاً إلى حكايات النزلاء مثل: وفيق وعمار ومادلين ومدحت ونزيل الغرفة (103) إلخ، كل ذلك بصوت بطل الرواية.

وأجمل ما في البناء السردي تداخل القصص في سياق لا يشعر معه القارئ بملل، بل يظل يتتبع مسارات الأحداث واللقاءات التي كانت تدور بين الصحافي ونزلاء الفندق، وتميز السارد في وصف حالات الشخوص المختلفة، وتقديم صور جانبية لكل منهم في سياق ما يعرضه من حيواتهم في خيوط سردية امتازت بالتحليل النفسي المثير لشخوص الرواية، ومحاولة السارد تقديم قراءات وافية لكل شخصية في علاقتها بالحياة من حولها. وهي قراءات لم تكن تنسكب مرة واحدة في اشتغاله على كل شخصية، بل كان يذهب ويعود ويتكرر تناوله لذات الشخصية في أكثر من محطة ضمن بناء سردي محكم؛ إذ تروي الرواية حكايات الصحافي اليومية مع النزلاء وموظفي الفندق في سياق مهمة إنجاز التحقيق واكتشاف حيوات نزلاء الفندق.

على صعيد الخطاب السردي حرص السارد على أن يتناول أحوال وتحولات الإنسان اليومية في علاقته بالسفر والفندق والحياة عموما؛ وهو ما اشتغل عليه السارد بمهارة على مدى التدفق السردي للرواية.

تناولت الرواية علاقة الإنسان بالفندق في سياق علاقته بالحياة، وطبائع نزلاء الفنادق بأنواعهم المختلفة؛ كالنزيل الدائم والنزيل المؤقت، وما بينهما من نزلاء وما يسند حكايات هؤلاء من حيوات. اشتغلت الرواية على ما يميز الحياة في الفندق باعتبارها حياة موازية لما تشهده البيوت؛ فالحياة في الفندق تتميز في كونها تختلف كثيرا عن حياة المنازل، وبالتالي فنزلاء الفنادق عادة ما يكونون، إما عابرين ونزلاء مؤقتين وفي حالة سفر، أو نزلاء شبه دائمين؛ وهؤلاء يكونوا عادة منفصلين عائليا ويعانون مشاكل مختلفة… وهنا اقترب السارد من حياة كل نزيل محاولًا تفسير تعقيدات حياته الاجتماعية، واللافت أن النزلاء شبه الدائمين كانوا يعانون من مشاكل نفسية اقترب منها السارد وحاول تفسيرها مستفيداً من قدرته على تحليل الوقائع وما يقف خلفها من عوامل أدت إلى هذه الحال، وأحيانا كان يذهب في قراءة الحالة إلى أبعد مدى. كان السارد لا يتوقف عند كل حالة بشكل مستقل، بل كان يتناولها في سياق الأحداث واليوميات التي كان يشهدها الفندق حول الكاتب كمحور السرد؛ وبالتالي كان يقف أمام كل حالة، ومن ثم يعود لها مرة ومرات في سياق لقاءاته، وفي سياق حرصه على كشف حالة كل شخصية ومن خلالها التعريض بقضايا كثيرة يعاني منها المجتمع.

تميز السارد بتقديم سرد مقنع للقارئ يجعله مستمرا في القراءة، على الرغم من أن النفس السردي لم يكن بالقدر الذي كان عليه في بقية رواياته، بما فيها رواية «نبراس قمر» إلا أنه في هذه الرواية لم يتخفف من الحمولة الفلسفية، كما فعل في «نبراس قمر» بل ذهب بعيدا في قراءة النفس البشرية وعلاقتها بالحياة من حولها، من خلال اشتغاله على حكايات نزلاء الفندق وفق مسارات ثقافية ونفسية وفلسفية، حرص عليها السارد كعادته في التعامل مع ذوات شخوصه سعيا منه للوصول إلى تشريح مرض له تجاه واقع مجتمعه؛ وهو ما يميز سمير عبدالفتاح في هندسته لرواياته خطابيا؛ فهو يبني الخطاب بعناية عُرف بها كبصمة تخصه؛ وهو أسلوب امتد إلى البناء السردي متميزا في صوغ الحبكة وبناء وتطوير شخصياته ومنحها محمولات ثقافية لائقة بالبيئة التي يعيشون فيها ويعبرون عنها، ولهذا نجد حوارات رواياته متميزة بقدرته في تمكينها من التعبير عن مكنونات شخوصها، ومنحها ما تحتاج لتقول كل شيء؛ وهذه المهارة لا يجيدها إلا سارد حاذق؛ فنسج المحمول الثقافي للحوار ليس بالمهمة اليسيرة؛ لأنه مرتبط بثقافة الشخصية ومستوى تطورها، وبقدرة السارد على تمكينها من أن تقول كلمتها وتعبر عن نفسها بلغة تتعدد شكلا ومضمونا من شخصية إلى أخرى، وهذا يؤشر لمعرفة مدى وعي السارد بخصوصية كل شخصية من شخصيات روايته. كانت الحبكة التي اشتغل عليها السارد في الرواية بسيطة (دراما تصاعدية)؛ فالسارد/ الراوي كان هو الرابط بين الأحداث؛ إذ كانت الرواية هي رواية الصحافي /السارد، أي أن الرواية تتبعت يوميات الصحافي وتنقلاته ولقاءاته بين نزلاء وموظفي الفندق، في محاولة سبر أغوار حكاية كل نزيل ومحاولة الاقتراب من الحياة اليومية للنزلاء.

كانت الشخصية الرئيسية في الرواية متميزة، وهي شخصية الصحافي (بطل الرواية) ومن الطبيعي أن يوليها السارد اهتماما كبيرا، لكنه لم يكن مقنعا في اشتغاله على مهمته الصحافية فنيا، فالتحقيق الصحافي حول الفندق لم يكن يحتاج كل هذا الجهد الذي قام به بطل الرواية في اشتغاله على شخصيات النزلاء؛ إلا أن ضرورات السرد كافية لإقناع القارئ بذلك، وهي المهمة هنا. هناك شخصية مرجعية متمثلة في شخصية (عاطف) لكن هذه الشخصية أيضا كانت تعاني من عدة إشكالات في سياق إبراز طبيعة عمل أمثال هؤلاء في الفنادق، واطلاعهم على حالات كل نزلاء الفندق، واقترابهم من قصص تتجدد باستمرار، من خلال استمرار دخول وخروج النزلاء. شخصيات ثانوية تمثلت في نزلاء الفندق اشتغل عليها السارد باهتمام، وتجلى الاهتمام في قدرته على تشريح شخصياتهم وفلسفة حياتهم؛ وهو ما يتميز به الكاتب في رواياته؛ إذ يهتم كثيراً بالاستغراق في وصف الشخوص وتحولات الأحداث وما يسند تلك الأحداث من رؤى يتولى السارد إضاءتها بقراءة فلسفية فكرية، ويختزلها ويكثفها في جمل قصيرة محمولة على لغة سهلة الهضم، وهذا يحسب له ويؤشر في الوقت ذاته إلى ما يبذله السادر من جهد بحثي وقرائي قبل وخلال كتابة الرواية.

لقد تميزت الرواية باستخدام لغة سلسة ذاب فيها السرد وانساب فيها الوصف؛ وهي لغة اقتربت من الجو العام لنزلاء الفنادق، وتنوعت مستوياتها، بما يكفي لمنح كل شخصية حقها من الوصف والكشف.

صدر للكاتب سمير عبد الفتاح (1971) ست روايات وأربع مجاميع قصصية ونصوص مسرحية، ويُعد من أبرز كُتاب الرواية الشباب في اليمن. ويتميز برؤية سردية تضع كتاباته الروائية والقصصية والمسرحية في مستوى مختلف يميزه كثيرا عن أبناء جيله ككاتب له بصمته السردية الخاصة، التي تسجل تصاعدا وتطورا في كل عمل يقدمه.

صحافي وناقد يمني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي