على عكس العقيدة «الترامبية».. كيف يمكن للمهاجرين حل مشكلة التضخم في أمريكا؟

متابعات - الأمة برس
2023-01-18

المهاجرون يعبرون نهر ريو غراندي للاستسلام لوكلاء حرس الحدود الأمريكي في إل باسو ، تكساس قبل اتخاذ قرار بشأن سياسة الولايات المتحدة التي تم استخدامها لطرد الوافدين منذ استحضارها من قبل الرئيس السابق دونالد ترامب خلال جائحة كوفيد -19 (ا ف ب)

يعيش العالم أزمة تضخم يُخشى أن تنقلب إلى أزمة ركود، خاصة مع سياسات الفيدرالي الأمريكي المتشددة، بتقليصه المعروض النقدي ورفع أسعار الفائدة. وفي ظلِّ هذه الأزمة، تزداد قناعة بعض الشرائح الاجتماعية بأنَّ دخول المهاجرين واللاجئين يضر المصالح الاقتصادية.

ولكنَّ المسألة ليست بهذه البساطة، ويوجد اليوم داخل أمريكا من يطرح حلَّ مشكلة التضخم، عن طريق زيادة عدد المهاجرين القانونيين. وقبل الخوض في هذه المسألة، علينا أنّ نفهم طبيعة التضخم الحالية، خاصةً أنَّه ليس لعلاجه وصفة واحدة، ويختلف الاقتصاديون في توصيفه.

أزمة في جانب الطلب أم جانب العرض؟

يوجد نوعان متناقضان من التضخم؛ الأول المألوف أكثر والمعروف بـ«التضخم المسحوب بالطلب – Demand-Pull Inflation» وهو التضخم المرافق لنمو الاقتصاد، والذي يعني زيادة عدد العاملين وانخفاض البطالة، ويعني أيضًا ارتفاع القدرة الشرائية للمواطنين، وزيادة أجورهم، وارتفاع طلبهم بسبب ارتفاع قدرتهم على شراء المزيد، والطلب الزائد يعني توظيفًا أكبر لملاقاة الطلب الأكبر، ومن ثم قدرة شرائية أكبر وطلبًا أكبر.

ولكن هذا الأثر المتصاعد يصطدم عند حائط الإمكانات المحدودة على المدى القصير، ويسبب ذلك توقف قدرة العرض على النمو، ومن ثم نصل إلى حالة يتجاوز فيها الطلب العرض، وترتفع الأسعار في الاقتصاد لإعادة الطلب إلى حالة التوازن بين العرض والطلب.

في المقابل؛ هناك ظاهرة مختلفة في الاقتصاد تعرف باسم «التضخم المدفوع بالتكلفة – Cost-Push Inflation»، وهذا التضخم قد يترافق مع تراجع الاقتصاد وركوده، أو على الأقل دون نمو الاقتصاد، فارتفاع الأسعار في هذه الحالة ناتج عن ارتفاع مدخلات الإنتاج المختلفة بشكل مستقل عن الدورة الاقتصادية، وأكثر هذه الحالات شهرة هو ارتفاع سعر النفط الذي يعني ارتفاع سعر كل شيء يمكن إنتاجه تقريبًا.

ببساطة يعمل تقليل عرض النقود ورفع سعر الفائدة على تخفيض الحركة الزائدة في الاقتصاد، عن طريق جعل كلفة الاقتراض أكبر من أمور أخرى، وهذا يعني استهلاكًا واستثمارًا أقل، وهو ما يحاول الفيدرالي الأمريكي فعله، وهو مدفوع بشكل كبير بإسهامات النظرية النقدية التي ترى التضخم ظاهرةً نقدية بالأساس.

من الواضح أن الفيدرالي الأمريكي يرى ضرورة الاستمرار بسياسته في رفع سعر الفائدة بشكل كبير وضخم، فسعر الفائدة بداية العام الجاري كان يقارب الصفر، وهو اليوم مقارب لـ5%، وتحقق ذلك نتيجة لارتفاعات كبيرة وغير مسبوقة لعقود، وعلى الجهة الأخرى حاولت الولايات المتحدة التدخل في أسواق الطاقة بخطوات عدة منها ضخ جزء من احتياطاتها الإستراتيجية من النفط في الأسواق مثلًا.

ولكن الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيجليتز، حائز جائزة نوبل في الاقتصاد، انتقد إجراءات الفيدرالي منذ أكثر من ستة أشهر، واتهمها بقتل الاقتصاد، وقال إن الحكومة الأمريكية يجب عليها التركيز على التدخل في جانب العرض من الاقتصاد، بما في ذلك اقتراحه زيادة التركيز على تحسين أوضاع سوق العمل، ودعمه للإجراءات التي تخفف الضغوط على الأمهات لتعيد المزيد منهم إلى سوق العمل مثلًا.

كيف يمكن للمهاجرين أن يعالجوا الاقتصاد الأمريكي؟

فاز الاقتصادي ديفيد كارد من جامعة «كاليفورنيا-بيركلي» العام الماضي بجائزة نوبل في الاقتصاد، وذلك عن مساهماته في أكثر من مجال اقتصادي، وتقديمه لتصورات مختلفة عن السائد فيما يخص مسائل يدور حولها الجدال في بلدان عدة؛ مثل مسألة ضرر رفع الحد الأدنى للأجور على الاقتصاد، فالسائد أن ذلك يعني تخفيض الشركات للتوظيف.

وفي مسألة أخرى أكثر ارتباطًا بموضوع هذا التقرير؛ بحث كارد عام 1990 مسألة أثر تدفق المهاجرين في الاقتصادات، وهل صحيح أن هذه الهجرة تعني منافسة أهل البلد على الوظائف؟ ما يعني خسارة المواطنين وظائفهم؛ خصوصًا وأن المهاجرين عادة ما يكونون أكثر مرونة من المواطنين وأقل تطلبًا، ومن ثم يصبحون خيارًا أقل كلفة على الشركات، فيقدمونهم على المواطنين.

بحث كارد إحدى موجات الهجرة الكوبية إلى مدينة ميامي في أمريكا عام 1980، والتي سبقتها موجات أخرى من لجوء الكوبيين للمدينة، وفي هجرة الكوبيين الجدد للمدينة في هذه الموجة، وجد أنه ليس هناك علاقة بين تدفق هؤلاء لسوق العمل حينها، وبين أي تغير على أجور العاملين الموجودين أصلًا في ميامي، وعلى فرض وجود آثار فهي بسيطة جدًّا يمكن إهمالها، بل إن اقتصاد المدينة استطاع امتصاص المهاجرين الجدد، وإدخالهم في قوة عمله دون آثار سلبية، وارتفعت قوة العمل في ميامي بنسبة 7% في عام واحد.

يوجد ثلاثة عوامل أدت للوصول إلى هذه النتيجة في ميامي؛ أولًا الإمكانات الموجودة في اقتصاد المدينة، التي تمكنها من استقبال نسبة كبيرة من العمالة غير الماهرة في فترة قصيرة، وتطورت بعض القطاعات الاقتصادية في المدينة نتيجة قدوم هؤلاء المهاجرين (معظمهم من غير المتعلمين) بما يسمح باستغلال قوة عملهم وفائضه الإنتاجي. العامل الثاني سهولة اندماجهم في المدينة بسبب تركز الناطقين بالإسبانية فيها، وأخيرًا أن تكيف سكان المدينة وسكانها تدريجيًّا مع الموجة الأخيرة بخروج كثير منهم من المدينة، وبحثهم عن فرص أخرى خارجها.

تتفق نتائج كارد مع ما يمكن فهمه من نماذج النمو الاقتصادي المختلفة. فهذه النماذج تركز على دور عوامل ثلاثة في النمو هي رأس المال المتراكم في الاقتصاد ومدى استثماره فيها، بالإضافة إلى مستوى التكنولوجيا المستخدمة، وأيضًا كمية العمل المبذول من قبل المجتمع باستخدام رأس المال والتكنولوجيا، وعلى المدى البعيد لا يمكن استمرار النمو الاقتصادي دون نمو مستمر في العوامل الثلاثة جميعًا.

وحتى في المدى القصير؛ يظهر أحيانًا أن اقتصادًا ما غير مستغل لكامل قدراته الاقتصادية، وتحديدًا ليس فيه ما يكفي من العمالة لتشغيل جميع موارد رأس المال والتكنولوجيا الموجودة فيه، ويعني ذلك أن هذا الاقتصاد يحتاج المزيد من القوة البشرية لاستغلال موارده من رأس المال والتكنولوجيا، وإن لم يكن المجتمع قادرًا على إيجاد ما يحتاجه الاقتصاد فإن الممارسة الأمثل أن يحاول المجتمع استيراد هذه القوة من الخارج.

في الشهر الماضي وصل الاقتصاد الأمريكي إلى أدنى معدل بطالة له في تاريخه، وهو المعدل نفسه من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الذي سبقه، علمًا بأن عدد العاطلين في شهر أكتوبر وصل إلى قرابة 6 ملايين إنسان، لكن الاقتصاد الأمريكي نفسه أنتج 10 ملايين وظيفة جديدة في الشهر ذاته، ما يعني أن الاقتصاد الأمريكي يولد وظائف أكبر من عدد القوة العاملة في الولايات المتحدة.

تعاني الولايات المتحدة بالغالب من مزيج من نوعي التضخم المذكورين بداية التقرير؛ وخصوصًا أن فتح قطاعات الاقتصاد مع بدء التعافي مكن الناس من العودة لحياتهم الطبيعية وقدرتهم الشرائية، بينما تأخرت سلاسل التوريد عن التعافي بالسرعة نفسها، فزاد الطلب من جهة وظل العرض عند مستويات أقل من جهة أخرى.

ولكن جانب العرض فيه مشكلات أخرى أيضًا، فالواضح من البيانات التي ذكرناها سابقًا والمتعلقة بحجم الوظائف الجديدة مقارنة بعدد العاطلين، أنَّ قطاعات كثيرة في الاقتصاد تحاول توظيف الكثيرين ولا تجد من يرغب بهذه الوظائف، وربما نتج ذلك من مشكلات في توزيع الراغبين عن العمل والوظائف الجديدة، فبعض العاطلين عن العمل قد يوجدون في ولايات لا وظائف جديدة فيها، بينما تعاني ولايات أخرى من نقص العمالة مع وجود وظائف كثيرة، وهذا جانب العرض الذي يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تحله بشكل كبير، بخلاف مشكلة النفط مثلًا والتي تتعلق بخيارات منتجين قد لا تستطيع حكومة الولايات المتحدة اليوم على التأثير كثيرا في قراراتهم.

المشكلة أيضًا تتعلق بالتغيرات الكبيرة التي سببتها جائحة كورونا في سوق العمل الأمريكي، فبدائل العمل الوجاهي مثلًا شكلت حافزًا كبيرًا لقطاع كبير من العمال لعدم العودة لظروف العمل السابقة لجائحة كورونا، ومن ثم خرج بعض من حاولت شركاتهم إرجاعهم لنمط العمل القديم من سوق العمل، كما زادت الأعباء على قطاع من الأمهات فأخرجتهن أيضًا، كما أن البعض اضطر للتقاعد مبكرًا نتيجة مخاوف صحية، والمجتمع الأمريكي والمجتمعات المتقدمة عمومًا بدأ عمالها يتغيرون من حيث قبولهم لظروف العمل المختلفة.

تظهر بيانات البنك الدولي أن قوة العمل الأمريكية كانت تنمو بشكل مطرد منذ عام 1990 حتى 2008، ثم تباطأ نموها لعدة سنوات، قبل العودة للنمو الذي وصل قمته عام 2019 ليقارب 166 مليون عامل، لكن الرقم اليوم لا يتجاوز 164 مليون إلا بقليل، بمعنى أنه بدلًا من النمو وتجاوز الأرقام القديمة فإن الولايات المتحدة قد تحتاج لعام آخر حتى تصل مع نهاية 2023 إلى ما كانت عليه في عام 2019، وهذا يعني أن إمكانات الاقتصاد الأمريكية غير مستغلة بشكل كبير.

وإذا ما أرادت أمريكا حل المشكلة بالطرق الطبيعية فإن عليها الاعتماد على مجموعة عوامل مختلفة، كلها ليست في صالح سباق الزمن أمام التضخم والركود وغيرها من المشكلات المحدقة بالاقتصاد، فنسبة النمو السكاني الأمريكي ضعيفة، وكانت مقاربة للصفر عام 2021، كما أن الإجراءات التي تستهدف تحفيز المواطنين الأمريكيين على العمل قد لا تفلح كثيرًا، أو قد تأخذ وقتًا طويلًا، وكثير من الوظائف التي يحتاجها الاقتصاد اليوم تحتاج عمالة غير ماهرة، والاقتصاد الأمريكي المتقدم ليس من مصلحة كثير من مواطنيه العمل في مثل هذه القطاعات.

لماذا المهاجرون؟

عدا عن كونهم إضافة فورية لقوة العمل، وهو ما لا يستطيع الاقتصاد توفيره، فإن المهاجرين أكثر مرونة من العمالة المحلية، فمثلًا يمكن للمهاجرين حاضرًا ومستقبلًا حل مشكلة تفاوت حاجات الوظائف والعمالة لسدها جغرافيًّا.

قدمنا في المثال المأخوذ عن ديفيد كارد أن بعض عمال المدينة تكيفوا مع موجة الهجرة بالخروج من المدينة، كان أغلب هؤلاء كوبيين هاجروا للمدينة سابقًا، ولكنهم لا تربطهم بميامي روابط كبيرة جدًّا، ولأنهم وفدوا إلى ميامي قبل وقت قصير فيمكنهم الخروج لمدن أخرى فيها فرص أفضل، وهذا أفضل لميامي حتى لا يكون فيها فائض عمالة، وأفضل للمدينة الأخرى التي تحتاج المزيد من العمالة ولديها فائض فرص.

وفي العقد الماضي بدأت الولايات المتحدة تقليص عدد المهاجرين المسموح لهم قانونيًّا بالهجرة إليها مقارنة بالعقد الذي سبقه إلى النصف. ويحمِّل بعض المحافظين وغيرهم المهاجرين مسؤولية المشكلات الاقتصادية في البلاد؛ ما يساهم في تخفيض عدد المهاجرين، والذين كانوا طوال التاريخ الأمريكي مصدرًا للعمالة، وربما كان الاقتصاد اليوم يحتاجهم أكثر من أي وقت مضى.

لا يعني دخول المهاجرين استغلالًا للموارد غير المستغلة فقط، ولكن ذلك يعني زيادة القدرة الإنتاجية، وحل مشكلات جانب العرض التي ستساهم في حل مشكلة التضخم، ومعها سيزيد عدد القادرين على الشراء والطلب في الاقتصاد الأمريكي؛ ما يعني أنهم سيرفدون الطلب أيضًا، ولكن بشكل أقل من نظرائهم الأمريكيين نظرًا إلى كونهم أكثر مرونة في قبول وظائف برواتب أقل، وقدرتهم على توفير كلف معيشتهم بقيم أقل.

دروس للدول العربية

لنأخذ الدول العربية وحدة واحدة؛ سنجد حينها أن قوة العمل العربية إلى إجمالي السكان (ضمن فئة عمرية من 15 إلى 64) بالكاد تجاوزت 50% عام 2019، بينما النسبة في الولايات المتحدة الأمريكية تجاوزت 70% عام 2019.

فإذا كان الاقتصاد الأمريكي يستغل 20% أكثر من الاقتصادات العربية، ولكنه مع ذلك غير مستغل لكامل طاقاته، بل يحتاج لعمالة من الخارج، فمن باب أولى يمكننا أن نقول إن الحالة في الدول العربية من حيث استغلال الإمكانات أسوأ بكثير، وتتعدى كونها مشكلة لحظية أو عابرة، بل هي تمثل تناقضًا جوهريًّا في الاقتصادات العربية.

وحتى على مستوى بعض الدول، نجد أن لبنان والأردن كانت 50% و 44% على التوالي عام 2010، أي قبل بدء الربيع العربي وتدفق اللاجئين السوريين، ولم تكن الحالة الاقتصادية في تلك الأوقات أفضل بكثير مما هي عليه اليوم.

لو كانت الدول العربية قادرة على الاستثمار في مواردها وإمكانياتها، لكان من الممكن توظيف قوة عمل أضخم بكثير، وخصوصًا أن دولنا العربية ما زالت متخلفة كثيرًا في مجالات الاستثمار والبنى التحتية وغيرها، وكان يمكن النظر إلى الاجئين الذين دخلوا اقتصادي البلدين على أنهما أصول اقتصادية يمكن استثمارها والبناء عليها لا أعباء مادية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي