"بلدٌ" منثورةٌ في التضاريس

2023-01-19

علي صلاح بلداوي

1

حين أنشَدكِ الرُّعاة على لسانِ الشَّجر الخَجلان والنَّخل الجريء

كنتِ تمسحين بالعريشةِ سَيَلان الينابيع على جبهتكِ

وتقولين: يا للحرج!

على جيدك النّارنج قلادتك الأبديّة

والماء معضدكِ المُهدَى من آلهةِ الماء

يا "بلدُ" التي حين أنشدتُكِ

شهقتُ بالغبار يقود طلائعه في فمي

واختنقتُ بكِ حجارةً في حنجرةٍ ميِّتة

وتعثَّرتُ بأشلائكِ منثورةً في التضاريس.

2

بماذا أمسحُ شحوبكَ يا مطمورةً في الشّحوب؟

بشجَركِ منحورًا ويُساقُ إلى المِحرقة

بالأكاسيا خَجِلةً من ماءٍ لا يمسّها ومنشارٍ يُخطئها في كلّ مرّة

بأنقاضٍ تتكدَّسُ مثل الرَّمد وتكبر حجارةً ضريرةً في عينِي وعينِك!

كيف ألوِّنه،

والخلائقُ كلّها تعود في ألوانها إليك؟

فرشاتي ريشة من جناحِ ملاكٍ ضلَّ طريق عودته

وليس من أصباغٍ سوى سخام الدهور.

3

يطلعُ فجرُكِ من ضحكةِ صنمٍ محطَّمٍ ومنسيّ

لا روحَ فيه سوى أنَّه يطلع منكِ وأنتِ روحه

ويجيءُ مساؤكِ هزيلًا تُبعثرهُ المزاميرُ وتُوقّعه ندوب الطريق

وأنا أمضي فيكِ راضيًا

تقودني الزفرةُ ويعينني أنينٌ عليكِ.

لا أرفضُكِ تنازعينَ موتكِ ويواريكِ موت

ولا أرضى بكِ زنزانةً تضيق جدرانها على خطوتي

إنَّني فيكِ السَّجين يرقب حريَّةً مستحيلةً

والسَّجان طيَّب القلب

لكنَّه يتعذَّر بمفاتيحه

ضائعة.

4

مضت أحلامي على كتفِ النَّهر

تُشيِّعها إلى مثواها الأخير نجومُ المساء نازلةً فيه

وتنعاها شِباكُ صيّادينَ فرّوا هاربينَ من جِيَفٍ تطفوا عليه.

أودِّعها فاقدًا يُمسكُ بالوهم كأنَّه معجزة

وأستودعها الغروب حزينًا يهوي في مكانٍ ما.

يا نهرَ قريتنا الصغيرة

أنت نعشُ أمنياتي ويأسي المِطرقة

أنتَ كفن شرودي وهزيمتي المسامير

يا نهرُ يا جوّابُ بلا حدودٍ ولا تذكرة

إلى نهايةِ الدنيا حيثُ تمضي واهمًا إلى البيت

انتزعني من موتٍ هنا

وخذني معك.

5

كأنّي بكِ تُرفعينَ إلى ربٍّ هشيمٍ يتشهّى مدنًا هشيمةً

وكنتِ رغبته الوحيدة

وكأنّي بكِ يُذرى فوقَ رأسكِ رمادُ ملائكةٍ عُصاة

ويهطلُ عليكِ حزنًا من غيومٍ ظلَّلت أنبياء تائهين

وكأنّي بكِ موذَّرةً بسيوفِ برابرةٍ ورصاص عبيد

تنهشكِ الفيافي

وتفوحُ منكِ الخديعة

وكأنّي أشهدُكِ تنازعين موتًا يسحبكِ إليه

وبعضَ روحٍ في نبتةٍ وساقيةٍ تسحبُكِ إليها.

كأنَّكِ بين يديَّ رِمالُ الثّرى

ومكتوبٌ عليَّ أن أكون ناعيكِ

يا شدَّة الورد.

6

ماذا تركَ الغُزاةُ منكِ يا منهوبةً يتناوب عليكِ الغزاة

ملامحكِ النَّهر والحقلُ والدَّربُ المؤدّي

إلى مساءٍ مُضاءٍ بالقناديل،

سرقوها

صوتكِ السنونو عائدًا إلى بيته الطينيِّ في غفلةٍ

قتلوه وخطَّطوا بدمهِ الإشاراتِ

ماكثين فيكِ طويلًا

ظلُّكِ ممحيًّا من فهارس الظلِّ

واسمكِ الوحيد ما أملكه

أحمله صليبًا على ظهري.

7

يا أرضُ، يا كتابًا يتكدَّسُ في خيالات النّار والرَّماد

"بلدٌ" تستلقي على صفحةٍ منكِ

وردةً منسيَّةً وذابلة.

8

مكتوبةً بالماء يا قصيدة الماء

ومحفوظةً في اللَّوح تحمله في خرجها السوسنة

مرَّ عليكِ إلهٌ عاشقٌ فتوسَّد ساقيةً منكِ ونام

مرَّ عليك نبيٌّ فآنس وحشتهُ بالعريشةِ وتمنّى لو تكوني رسالته

مرّ عليكِ وليٌّ وقبضَ على تربةٍ منك وقال:

هنا موعدٌ، موتٌ، حياة

ومرَّ عليكِ زمانٌ

سحقكِ بفجيعتهِ وغمرَكِ بدمهِ.

مكتوبةً بالرَّمل يا قصيدة الرَّمل

أجهشُ به مارًّا لا يُعزِّيني عليكِ أحد

ولكنَّني رغم ذلك لا أقرأك سوى

قصيدة الماء.

9

كما هو مكتوبٌ خلودكِ بحبَّةِ القمحِ في دفتر الخلود

مكتوبٌ عليَّ حُطامُكِ

أشهدهُ طافيًا على بركةٍ من دمي

وأتنفَّسه مالئًا بهِ رئة الكون.

كما هو منزَّلٌ عليكِ كتاب الشَّهادة

أراكِ فيه

شهيدةً تحملين جسد الشَّهيد

مثكولةً

والدُّخانُ الصاعد من حريقٍ ما

ثيابك.

10

محروسةً بالمطرِ من مشعلٍ يلاحقكِ في كوابيسكِ يا جنَّةً يابسة

بالنَّخلِ يسهرُ قائمًا في نزاعٍ مع الهباء كي لا يشتهيك

بالقنطرةِ يعبر من عليها الإمام وفي يديه الآس تعويذتكِ المباركة

يا غصنَ زيتونٍ تحاصره الحجارة

وتطويه في عمائها الكُثبان.

شاعر وتشكيلي من مواليد مدينة "بلد" العراقية عام 1996







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي