وفي قنديله يخفق المساء

2023-01-28

علي صلاح بلداوي

1

سوفَ يَنزِلُ من علياء ملاكٌ

وفي قنديلهِ يَخفِقُ المَساء

سوفَ يَنزِلُ...

والمُستحِمَّةُ توّاً، تصعد السُّلمَ

لتكتبَ بالماءِ المُقطَّر من شَعرِها على سطحِ البِيتِ

قصيدةً عن رائحةِ الطينِ قبلَ النوم.

سوفَ تصحو جِنيَّةٌ نائمةٌ في عذوقِ النخيلِ

لتُثيرَ شهوةَ الراعي،

ويتثاءبُ شيطانٌ على سورِ المحلَّةِ لَعَنَتْهُ خائفةٌ في الخَلاء

ويمرّ الغائِبُ تَتبعُ ظلَّه السُّعلاةُ

خارجةً من حكايةِ جدَّةٍ نامت سهواً على السَّطح

ولا يسمع شَحطةَ نعلهِ أحد.

سوف يَنتَصِفُ اللّيل

وحينَ أسمَعُ عُواءَ بناتِ آوى في البَساتينِ البَعيدةِ

أغفو... ومن غَفوَتي تتسرَّبُ الأساطير.

2

غجرٌ يَعبرونَ السُّورَ

وفي أُغنياتِهم تَلمعُ أضراسُ الذهب

غجرٌ يَضرِبونَ الدُّفوفَ فيرقص الجنديُّ الوحيدُ في عَتمةِ الدَّربِ

وينصِتُ في قَصيِّ الحزن محزونٌ للرَّبابةِ ويبكي.

إنَّهم يَركضونَ خلفَ الغَيبِ في الفَناجينِ ويَقْرَأونَه

يَهبونُ للحائراتِ قلائدَ الأدلّةِ

ويمنحونَ الحظَّ بالمكيال في خِرَزٍ يَعرِفُها اليائسونَ كاذبةً

لكنَّهم يَحمِلونَها في جيبوهم مؤمنين.

غجرٌ يوشكونَ على الصَّحراءِ راحلةً في متاعِهم

 ويغادرونَ السّور عابرينَ من غفوتي.

3

مع القارعينَ

لا زلتُ أقرعُ في أُذنِ التاريخِ طَبلَ جِراحٍ وجدّتُها في خارطةِ الأسلاف

جراح تَنضجُ كلَّما لمعَت السَّيوفُ في وجوهِ الفَوانيس

ورأى الرّائي خيول المَراثي تركضُ في حنجرةٍ صاهلة.

نائحٌ يتبعُ نائحاً في ليلِكَ يا زُقاقْ

وحِدادٌ في هَسْهَسةِ الطِّينِ كلَّما لاذت بهِ دُموعُكِ يا "بَلدْ"

أقرعُ في السَّواد مكسيَّة بهِ وجوهٌ شاردة

وأُصغي إلى الرِّماح

قادمةً في صراخِ مجهولين.

4

فيما أنا في ضَّريحِ الوليّ

نائماً في شَهقَةِ السَّهران

يمرّ العليلُ على فضَّة القَبرِ

ويشربُ الوردَ من ماءِ أقفالها.

يمرُّ النَّحيلُ وفي صمته سرٌّ يُبيحهُ واقفاً

والقناديلُ تشعُّ في سرِّه.

يمرُّ الذي يبحثُ عن قفلِ لزنزانةٍ تأكلُ نَفسها في صَدرهِ

والمساجين فيها كثيرون

يطوفونَ أجراماً حزينةً

ويَنقُشونَ على طينٍ هنا، صخرةً هناك، صراخهم.

فيما أنا في الضَّريحِ

أَصحو على الفَجرِ يَضرِبُني بِحصى فَجرهِ

طالعاً من صرخةِ الدّيكِ على المنارة

وحَشرجةِ النّاعي

في دعاء الصَّباح.

5

في الأمسِ نادى المُنادي يا جلجامش الفاني

خَذلتكَ البُوصلة

والتَفَّتْ على خُطاك البَلايا وسَكَرتْ في يَديكَ الخارطة،

كان يُمكِنُ أن تَلتَفِتَ صَوبَ المَحلَّةِ

في سوقٍ سَقائِفُهُ ظَلَّلتْ كلَّ من سَبقوكَ من أسلافِكَ الآلهةِ البَشر التّائهين

يمسحُ العطّارُ عن بَابهِ غبارَ العَدم

ويفتحها كلَّ يومٍ لزهرةٍ تنمو في خَزائنهِ

يُسمّيها الخُلود.

يا جلجامش العائد مخذولاً

لا أحد راغباً في البَقاءِ هنا

فلا تتردَّدَ بالمجيءِ

لكَ الخَزنةُ مَنزوعةُ الأفاعي

والعُشبَةُ مِلككَ فَخُذها.

6

سأتركُ لبلدٍ رسالةً في ضَفيرةِ الغروب

وأتركُ للبيتِ مفتاحاً في خصر الخُطى،

سأترُك للرِّفاقِ تلويحةً في شُعلة القنديل

وللأماسي ذاكرةً رَطِبة

ثم أعبرُ النَّهرَ مثل الرِّيحِ حافياً بلا صوتٍ ولا تَجرَحَني أسرارُه.

سأتركُ المدينةَ هارباً في أغاني الرّعاة ومُناجاةِ المُستيقظاتِ فَجراً

وأركبُ البِساطَ يطفو على الهَرب ويَسبَحُ في المُستَحيل

سأصلُ إلى حيثُ يَخلو الوحيدُ في مغارةٍ من مغاراتِه العاشقة

وأعتزلُ العالمَ في إغماضةِ الجبل.

سأترك الجبل - رُبما -

وأبتَكِرُ بلداً أُخرى في غُربة الوادي.

7

أمشي

وأعرِفُ أنَّ أثَرَ خطوَتي يُطبَعُ على أثرٍ لخِطوَةِ شهيدٍ مشى قبلي

وأنَّ حرساً من فَيلقِ الصاعدين إلى الجنَّةِ على متن الرصاص

يَتبعُ غفلتي

ويُفسِحُ لي مأمناً في زقاقِ القلق.

أمشي

وأصادفُ الغُزاةَ نازلينَ من ذاكرةٍ مَعطوبةٍ خائفين مني

ولصوصاً قاعدينَ على الرصيفَ تُرهبهم أعينُ الحرّاس.

أمشي

وكلَّما خرجَ من دهاليزِ الكُتب قتلةٌ حاملينَ راياتِهم السّود

صَرختْ بهم حَناجرٌ وأفنتْ وجودهم دماء.

كلُّ وردةٍ هنا ألقت بنفسِها على تابوتِ الشّهادةِ

وكلَّ الماشينَ مثلي أُصادِفَهم

شُهداء.

8

جئنا مع الغروبِ نحملُ رهبةَ المَوتِ

وثُقل الخُطى إليه

جرحى

تنامُ الحربُ أسيرةً في صُراخاتِنا

وخلفنا الجيادُ تصهلُ للأمِّ التي تُزغرِدُ والأب الذي يَهطل النَّصرُ من عينيهِ.

جئنا نحمل الشهداء الذين لامست أصابعهم تربةَ الطَّريق

وخطَّتْ عليها الإشارات كي لا يُضَيِّعَ الدَّمُ طَريقه

جئنا متعبين يا بلاد

مخمورين بالبارود

والموتُ مثل الحصى

محشوّاً في "البساطيل".

10

سَيعثُرونَ علينا في القصائدِ مكتوبةً على جُدرانِ المدرسةِ

في طَرقةِ البابِ يَفتَحُها الملهوفُ والطّارِقُ يُردِّدُ شعراً كتبْناه

سيرفعون الحجَر وتحتَ كلِّ حجرٍ نقشٌ لمراثِينا

وعند الخرائب شاهدةٌ علينا وشاهدون عليها.

سَيعثُرونَ علينا في الفَجرِ طالعاً من التفاتة التلِّ وذَهاب الماء

وفي الغُروب

عائداً إلى بيتهِ في وحشة الرّاعي

وفتيلةِ الفانوسِ مكسوراً وحده على الجَبَل.

بطاقة

شاعرٌ وتشكيليٌّ عراقيّ من مواليد عام 1996 في مدينة بلد. درس القانون ويعمل حالياً في التصميم الغرافيكي وفي الكتابة والصحافة. قدّم أعمالاً غرافيكية عديدة، وهو يعدّ الآن لمعرضه الشخصي الأول. ناشط بيئي ومعماري، يقدّم في شعره وكتاباته مناهَضة جمالية للتخريب الذي طاول الحياة العراقية، إنساناً وطبيعة وعمارة. يؤمن "أنَّ البقاء للشعوب الكريمة الطيِّبة، وأنَّ ما يخطّه الكريم من أثر؛ لا يُمحى".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي