سرد الذات في رواية «نقوش على جسد ناعم»

2023-02-03

عايدي علي جمعة

تقع رواية «نقوش على جسد ناعم « للكاتبة المصرية ميرفت البربري في مئة وست وتسعين صفحة، وتتكون من ثمانية فصول، وكل فصل له عنوان دال على طبيعة الكتلة السردية فيه، فمثلا بعد عناوين مختلفة تدل على وقوع الشخصية المحورية في حالة من التخبط التام، يأتي عنوان الفصل الأخير «وجدتني» متوائما مع ما وصلت إليه هذه الشخصية المحورية، ومع اهتدائها في النهاية إلى ذاتها.

كما نجد في كل فصل استشهادا بأبيات شعرية مترجمة إلى العربية من إبداع مولانا جلال الدين الرومي، وهذه الأبيات الشعرية مكتوبة ببنط مزخرف يختلف عن البنط الذي كتبت به فصول الرواية. وهذه الأبيات كلها من شعر الحب، وهي أبيات تتفاعل مع طبيعة الكتل السردية في كل فصل، لأن قراءتها توجه فهم القارئ لاتجاه معين، وهذا الاتجاه يبدو كأنه النبوءة التي يأتي تفسيرها من خلال قراءة الفصل الذي يليها.

ومن هنا فإن استدعاء صوت جلال الدين الرومي يمنح الرواية عمقا واضحا، لأنه صوت من الماضي البعيد، وصاحبه له حضور فذ في وجدان الجماعات الإنسانية المختلفة، كما أن منتجه يصب دائما في جانب النظر إلى الحياة بمنظور مختلف عن السائد حيث تنحاز رؤيته إلى الأبقى والأجمل، لأنه يكاد يتجرد من شوائب الدنيا ويندمج في حالة حب صوفي لا شبيه لها ويرتل للروح السارية في هذا العالم.

وفي هذه الفصول ذهبت شخصية سهر بمعظم الكتل السردية فيها، وسهر متزوجة من سامي ومنجبة لطفلة وطفل منه، لكنها تعاني من اكتئاب حاد نتيجة قلق في علاقتها الزوجية تذهب بسببه في غيبوبة قد تصل إلى شهر كامل، فيتزوج زوجها من نهاد زميلته السابقة زواجا عرفيا، وتتلقى سهر جلسات نفسية منتظمة، ونكتشف أمر إهمال زوجها لها ومعاناتها الشديدة بسبب ذلك الإهمال، وهنا تطل قصة حبها لوليد زميلها في الجامعة، وتقع سهر في عقدة ذنب حادة، لأنها تعيش مع زوجها بجسدها ومع حبيبها وليد بروحها، ووليد تركها بسبب ضغط والده عليه كي يتزوج ابنة عمه، وعلى الرغم من غياب وليد التام عن الأحداث، فقد كان حاضرا بقوة، لأن حركة السرد في الجانب الأكبر منها تتحرك من خلاله، لكن تظهر شخصية أخرى هي شخصية وليد الطبيب الذي يعالج سهر تنشأ بينهما قصة حب لاهبة، لكن الرواية في النهاية انحازت إلى جانب التضحية، فعلى الرغم من إعلان سهر الشخصية المحورية عن قرارها في الانفصال عن زوجها الذي لا تجد نفسها معه فإنها في الوقت نفسه أعلنت لوليد حبيبها الذي ساعدها في اكتشاف ذاتها وأنقذها من براثن الضعف والاكتئاب بأنها لن تتزوجه، وإنما ستكرس حياتها لابنيها وفنها، وكانت الرواية أقرب في نهايتها إلى النهاية الحاسمة منها إلى النهاية المفتوحة التي تطلق العنان لخيال القارئ كي يشارك بنفسه في صنعها.

تتخذ هذه الرواية من تقنية السارد الخفي نسقا معتمدا، وهو سارد عليم، يغوص داخل ذهن الشخصيات وينقل ما يدور فيها. وقد ساهمت هذه التقنية في التوقف كثيرا جدا داخل ذهن الشخصية المحورية، وهي هنا سهر، ما جعلنا نتعرف على خريطتها النفسية وكشف بالتالي عن معاناتها الرهيبة. وكانت منطقة المابين مهيمنة بوضوح على هذه الرواية، فسهر تعيش في منطقة المابين، فهي مخلصة بجسدها لزوجها، ومخلصة بروحها لحبيبها وليد، الذي كان زميلها في الجامعة، ثم لحبيبها الثاني وليد الطبيب الذي يعالجها، والذي خلعت عليه صورة حبيبها أولا، ثم بعد فترة تبينت ملامحه الخاصة، ما يشير بطريقة ما إلى جانب نفسي معروف وهو تعلق المريضة بطبيبها أو تعلق الطبيب بمريضته. وظهرت منطقة المابين في علاقة سامي الزوج بزوجته سهر، فهو مخلص لها روحيا، لكن هذا لم يمنعه من إقامة علاقة زواج عرفي مع زميلته نهاد، التي أشبعت متطلباته الجسدية الضاغطة.

وليلى صاحبة سهر تعيش في المنطقة القلقة مابين الاستمرار مع زوجها، وتركها له بسبب خياناته المتكررة، حتى وصل الأمر إلى اكتشافها لخيانته لها مع أختها. كما ظهر في كثير من الكتل السردية في الرواية تيار الوعي، حيث كان السارد الخفي يتخلى عن سلطة السرد، ويمنحه لسهر، فنرى تدفق تيار الوعي داخل ذهنها. وهنا تظهر رحلة السرد داخل الشخصية بوضوح شديد. وقد أدى هذا إلى هيمنة المونولوج على كثير من الكتل السردية في الرواية، حيث تستدعي سهر جوانب كثيرة من الماضي، خصوصا في علاقتها بوليد الأول، وعلاقتها بأبيها، وتعرفها على سامي وموافقة والدها عليه عندما تقدم لها. وكثيرا ما يظهر الديالوج من خلال استدعاء المونولوج له، فسهر مثلا تستدعي حواراتها مع وليد زميلها في الجامعة، مثلما دار بينهما وهما في كافيتريا الجامعة، وقد تم نقل حوارهما من داخل ذهن سهر وهي تتذكر كيفية تعامل وليد معها واهتمامه بالورد وهو يمنحه لها. وكانت سهر تعيش مع حبيبها وليد أثناء غيبوبتها التي استمرت ثلاثين يوما متصلة، كان حضور وليد وذكرياتها معه كبيرا جدا.

وكان لهذه الارتدادات الكثيرة دور في تكسير البنية الزمنية وعدم سيرها في اتجاه واحد، أو اتجاه خطي مما تواءم مع طبيعة السرد بالضمير الثالث، الذي يجعل وجهته الأساسية إلى داخل الشخصية وما يمور في ذهنها من أفكار ضاغطة وذكريات طاحنة. كما تظهر عملية التداعي فحينما تسمع سهر اسم وليد وهي تفيق من غيبوبتها وتبصر وجهه يقع في روعها على الفور أن هذا هو وليد حبيبها السابق وزميلها في الجامعة، لكنها تتعجب جدا كيف وصل إليها وكيف أصبح طبيبا، وبعد فترة تتميز ملامحه عن ملامح حبيبها الأول وتقع في حبه هو، وبدوره يقع في حبها. تنظر سهر في ملامح وليد وتكتشف أن ملامحه ليست قريبة الشبه بحبيبها الأول الذي كان اسمه وليد. تلقي الرواية الضوء بقوة على معاناة بني الإنسان في هذه الحياة، فالشخصيتان المحوريتان: سهر وسامي لا نعرف بالضبط من منهما الظالم ومن منهما المظلوم.

يلعب المكان دورا كبيرا في رسم ملامح الشخصية في هذه الرواية نقوش على جسد ناعم للكاتبة المصرية ميرفت البربري، فالمكان المحوري الذي أخذ الكثير من الكتل السردية هو سرير المرض لسهر، حيث كشف هذا المكان عن شخصية هشة نفسيا وجسديا تكاد تتسرب منها الحياة بسبب زوجها الذي عجز عن فهم طبيعتها النفسية، فظلت في غيبوبة على مدار ثلاثين يوما متصلة. كما ظهرت أماكن أخرى عبر الكتل السردية في الرواية مثل بيت الزوجية لسامي وعيادة الطبيب وبيت ليلى صديقة سهر الذي كشف عن خيانات زوجها المتعددة ولعب الارتداد دورا في الكشف عن أماكن مختلفة مثل الجامعة التي جمعت بين سهر ووليد ومكان عمل سهر الذي تعرفت فيه على سامي زوجها، حيث عادت سهر بالذاكرة إلى الوراء، لتتذكر لقاءها الأول بزوجها، والمعرض الذي كان بمثابة العلاج التام لسهر من أوجاعها، وهنا تجعل الرواية من الفن علاجا للمشاكل النفسية، حيث جعلت من موهبة الرسم التي تتميز بها سهر بابا للشفاء، فحينما ساعد وليد الطبيب سهر وجعلها تقيم معرضا لعرض لوحاتها عادت القوة لسهر ووجدت نفسها. ومن الملاحظ على هذه الأماكن أنها صناعة بشرية، وأنها أماكن تنتمي للمدينة، مما يتواءم مع طبيعة العلاقات في المدن، وما ينشأ عن هذه العلاقات من مشاكل، وكان المكان في هذه الرواية في الغالب شاهدا على معاناة الشخصية المحورية، وتسبب لها في عذابات لا شبيه لها، فكان نصيبها مرض النفس والجسم، وإذا كانت معظم الأماكن قد تسببت بطريقة ما في معاناة الشخصية المحورية، فإن هناك مكانا ظهر في النهاية وكان في وجوده العلاج الحقيقي لأسقام هذه الشخصية، وهو المعرض الذي أعاد لها قوتها وثقتها في نفسها.

وقد ظهرت الأحلام بكثرة في هذه الرواية، لأنها رواية رصدت الكثير من الكتل السردية للغوص داخل الشخصية المحورية، والكشف عن عقدها النفسية، ومن المعروف أن الأحلام لها أهمية خاصة في هذا السياق. كما تكتسب فلتات اللسان أهمية خاصة في هذه الرواية، حينما قال وليد طبيب سهر نسيتِ موعدي، وندم على هذه الفلتة اللسانية التي كشفت عن حبه لها. وهنا يظهر الإحساس بعقدة الذنب الذي يسيطر على معظم أفراد مجتمعنا، نتيجة لتربيتهم وما أسهمت به هذه التربية من وجهة نظر خاصة للعالم. وما يلفت النظر بقوة في هذه الرواية لغتها، حيث نجد فيها مستويات لغوية مختلفة: المستوى اللغوي الأول الذي نطالعه في بداية كل فصل هو المستوى الشعري، من خلال صوت جلال الدين الرومي، وهو شعر مترجم عن الفارسية يحمل سمات روحية خصبة جدا، وله تأثيره في مستوى العالم، وهو يمثل الصدى الكوني لأحداث الرواية، كما ظهر مستوى اللغة الشعرية أيضا عبر فصول الرواية على نحو ما نجد في قصيدة كتبها وليد طبيب سهر وحبيبها، الذي وقع هو أيضا في حبها وقد وقعت هذه القصيدة في يد سامي وواجه زوجته سهر بها، كما نجد حضورا لشعر طاغور.

المستوى اللغوي الثاني هو مستوى اللغة السردية، وهو سرد بالفصحى، لكنها فصحى بسيطة وغير متقعرة يستطيع القارئ العادي التواصل معها بسهولة، في هذا المستوى يتم اعتماد تقنية المجاز بكثرة على نحو يتماس مع طبيعة اللغة الشعرية، فعلى سبيل المثال نجد تصويرا للذكرى بأنها طيور/ طيور الذكرى.

أما المستوى الثالث من مستويات اللغة، فهو مستوى اللغة الحوارية، وقد ظهرت حوارات كثيرة عبر فصول الرواية، لكن هذه الحوارات في الغالب لم يتم نقلها مباشرة، وإنما تم نقلها عن طريق تذكر الشخصية لها واستدعائها، وكانت لغة الحوار كاشفة عن طبيعة كل شخصية، وعن الاختلاف في وجهات النظر، ما نهض بتبرير سير الأحداث إلى الوجهة التي سارت إليها. من ذلك الحوار الكاشف عن وجهة النظر بين سهر وسامي. وكان هناك تكرار لبعض الجمل، وقد نهض هذا التكرار بالكشف عن طبيعة الشخصية على نحو ما نجد من تكرار سهرلجملة « كما تحب» لزوجها.

وظهر الربط بين الطائر من ناحية والحب من ناحية أخرى على نحو ما نجد من حضور العصفور في الحكي، حيث أهدى وليد لسهر عصفور البادجي. ويبدو التفاعل الكبير مع السياق الاجتماعي في هذه الرواية، فقد ألقت الضوء على جانب متكرر في مجتمعنا، وهو جانب الوقوع الذي لا يرحم تحت سطوة علاقة الزواج القاهرة، حيث تكون هذه العلاقة في كثير من تجلياتها عبئا كبيرا على الكثيرين، فالغالبية الساحقة ليست في حالة رضا عن هذه العلاقة، ما يجعل الشخصية تعيش بجسدها مع شخص، وتعيش بروحها في الوقت نفسه مع شخص آخر. وهنا يكشف السرد عن خصوصية التعامل مع المرأة، ويكشف عن ضرورة حسن التأتي في معاملتها وأهمية اللباقة حتى يستطيع الزوج انتشالها من عالم تعيش فيه بالخيال. ويكشف في الوقت نفسه عن مأساة الرجل الذي لا يستطيع أن يفهم الأنثى ولا تستطيع الأنثى أن تفهمه فتكون النتيجة حالة من حالات الضياع الذي يترك بصمته على المجتمع بالقدر نفسه الذي يترك بصمته على الفرد. وهنا تظهر أهمية التوقف المجتمعي أمام هذه الظاهرة من أجل معالجتها والبحث عن أفضل الحلول التي تناسب بيئتنا.

تكشف الرواية في النهاية عن رسالة واضحة يتحدد مضمونها من خلال ضرورة أن تكتسب المرأة قوة في مواجهتها لواقع لا ترضاه، وعن ضرورة أن تتمسك المرأة بحقها في تحقيق ذاتها وتحرير نفسها من القيود الضاغطة عليها، فهي إنسان لا يقل إنسانيته عن الرجل.

كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي