صورة الآخر في مجموعة «قطاف: مختارات من القصة القصيرة في قطر»

2023-02-08

موسى إبراهيم أبو رياش

لا يوجد تعريف حصري متفق عليه لمفهوم «الآخر»، ولكن بشكل عام، يمكن تعريف «الآخر» بأنه المختلف دينيا أو ثقافيا أو عرقيا أو لغويا أو اجتماعيا أو طبقيا. وهذا المفهوم مرن ومتغير، ومختلف زمانيا ومكانيا، ولئن بدأ كمفهوم واضح في السرديات العربية مع الاستعمار الغربي، باعتبار «الغربي» هو «الآخر»، إلا أنه ما لبث أن أطلق على «الشرقي» أيضا، ثم أضيف إليه كل «أجنبي»، وقد توسع المفهوم حتى أطلق على كل من ليس مواطنا فهو «آخر»، وبسبب اضطراب القيم واختلالها، لا يجد البعض بأسا من أن يعتبر «الآخر» هو المختلف عشائريا أو إقليميا أو مكانيا، وقلبت تقنيات العصر، خاصة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كل شيء، فأصبح كل فرد جزيرة معزولة بذاته، وحتى عن محيطة الأسري الذي يتشارك وإياه البيت ومائدة الطعام نفسها، ولذا لا غرابة أن اعتبر البعض أن ما عدا «الأنا» فهو «الآخر»، وكل «آخر» مختلف بالضرورة، يثير التوجس والحذر، ويتطلب التواصل معه إلى كلف وجهد، وهذا يدفع البعض إلى التقوقع تجنبا لأي مسؤوليات أو متطلبات تترتب على ذلك، خاصة إذا أيقن أن لا مصلحة له في ذلك، ولا عوائد يمكن أن يجنيها، وتشجع نمطية الحياة المعاصرة على ذلك بوجود خيارات وبدائل كثيرة.

في دول الخليج العربي، فإن الشعور بوجود «الآخر» كبير جدا، حيث تتعايش عشرات الجنسيات واللغات والأديان والثقافات، بما فيها من اختلافات طبقية وإقليمية وعشائرية وعرقية، والتعامل مع «الآخر» حتمي لا غنى عنها بشكل يومي في الشوارع والأسواق وأماكن العمل وغيرها، وقد يكون «الآخر» جار سكن أو زميل عمل، ولكن كل ذلك لا وجود له في مجموعة «قطاف: مختارات من القصة القصيرة في قطر»، الصادرة عن إدارة البحوث والدراسات الثقافية في قطر، ضمن سلسلة «كتاب مجلة الدوحة»، العدد 120 أكتوبر/تشرين الأول 2017، في 172 صفحة. وهذا يبدو غريبا، ولكن قد يكون مبررا؛ كون المجموعة مختارات قصدية لعدد من القاصين القطريين، ولكن يمكن أن نلاحظ سمات «الآخر» من نمط مختلف في عدد من قصص المجموعة.

افتتحت المجموعة بمقدمة شاملة لرامي أبو شهاب ألقت الضوء على فن القصة القصيرة في قطر ومراحل تطورها، وأهم أعلامها. وتضمنت المختارات ثلاث عشرة قصة قصيرة لتسع قاصات وأربعة قاصين من قطر هي حسب ترتيبها: «الموت مرتين» لكلثم جبر، «أبدا لم تكن معي» لمحمد الكواري، «الحضن البارد» لحسن رشيد، «في مخدعي أخرى» لهدى النعيمي، «الصمت الأول» لطرفة النعيمي، «حدث ذات مرة» لبشرى ناصر، «في قريتنا ذئاب» للولوة خلف البنعلي، «يوم العيد» لجمال فايز، «الخيل وفضاءات البنفسج» لدلال خليفة، «سميتي.. المرقاب 1970» لنورة آل سعد، «مع أبي» لشمة الكواري، «بداية أخرى» لفاطمة الكواري، «حرام عليك» لمحسن الهاجري. وتتناول هذه المقالة بعض صور «الآخر» التي وردت في المجموعة:

الآخر المختلف اجتماعيا

التفاوت الطبقي والعشائري تترتب عليه أمور اجتماعية كثيرة في المجتمعات العربية، وأهمها صعوبة وربما استحالة المصاهرة؛ إذ تترفع القبائل الأرفع منزلة عن مصاهرة القبائل الأدنى، وهذه المكانة القبلية نتيجة عوامل اجتماعية قديمة، ربما لم تعد قائمة، ولكنها بقيت متوارثة، دون مبررات في ظل تغيرات جذرية طالت كل شيء، وتزداد الأمور تعقيدا مع المجنسين والوافدين، وترصد قصة «سميتي… المرقاب 1970» لنورة آل سعد، مفارقة عجيبة لرفض الآخر باعتباره دونا لا يليق، مع أنه الأفضل والأجمل والأكثر اجتهادا ونظافة والتزاما، تتحدث الطفلة فاطمة محمد من الطبقة الأعلى عن زميلتها وصديقتها فاطمة علي من الطبقة الأدنى، تقول: «كانت فاطمة مرتبة ونجيبة وخطها أجمل، وسندويتشها الذي تجلبه من بيتهم ألذ حتى من سندويتشات المقصف، وشعرها أنعم من شعري ومفروق بعناية ودقة. لم يكن شعري أملس مفرودا مثل شعرها، ولم أكن أبالي بترتيب محتوى حقيبتي كما تفعل، كما أن (مريول) المدرسة الذي أرتديه كان دائما مجعدا وليس مكويا كمريولها، وفي مريولي أيضا فتق على جانبه لم يبال أحد برتقه أو ربما لم يلاحظه أحد، ولم تكن أمي تدس في حقيبتي سندويتشا، لأننا كنا في بيتنا نتناول ما يتوفر (عندما يتوفر) من الخبز والجبن وبعض الزيت قبل أن نغادر البيت صباحا، وكانت فاطمة الأخرى أجمل مني… كانت سميتي فاطمة متفوقة، وتأتي في المركز الثاني في الصف، بينما أحوز أنا المركز السادس في أحسن الأحوال، وكان أهلها يحثونها أن تغدو الأولى ولا يقبلون بأقل من ذلك، بينما كان أهلي يخبرون زوارنا بأنني نجحت ولن أعيد السنة».

هذه الصورة الجميلة لفاطمة الأخرى ترسمها الراوية فاطمة قبل أن تتلوث بثقافة التمييز والترفع والـ«نحن» المقززة، وتعترف صراحة ببراءة وصدق: «كنت أحب فاطمة لأنها كانت أفضل ما فينا نحن الاثنتين». هي صورة مقارنة في صالح فاطمة الأخرى في كل شيء، واستمرت صداقة الفاطمتين، إلى أن جاء يوم وتبحث الأسرة عن زوجة لشقيق الراوية فاطمة، وبكل عفوية نطقت باسم فاطمة الأخرى، فكان الموقف الصادم، تقول: «وعندما صحت ناطقة باسم فاطمة: سميتي التي تقاسمت معها كل شيء تقريبا، قالت أمي بانتهار: أي فاطمة؟! ونظرت إليّ أخواتي بإشفاق، ودفعتني عمتي في صدري وانطلقت قذائف من لسانها، قالت كلاما كثيرا فيه: (هم) و(نحن) (لا يشبهوننا) (ليسوا من مواخذينا)، وأخرستني أمي وطردتني؛ ليس ثمة ما يمكن مناقشته، إنه أمر منته ومختوم». كان رد فعل الأسرة عنيفا وغير متوقع لفاطمة، ولم يستوعب عقلها هذه الحواجز والقواطع التي لم تشعر بها يوما مع صديقتها الأفضل منها في كل شيء، المتميزة عنها بدرجات في كل أحوالها، فارتمت مريضة في فراشها، وأخذها التفكير بعيدا: «ماذا لو أنني ولدت هناك في الطرف الآخر من الحي.. حلمت ليلتها بأنني كنت أبات في فراش فاطمة بينما.. باتت هي في فراشي مع أمي وأخواتي». فالآخر هنا لم يكن غريبا، بل بنت الحي نفسه، ولكن في طرفه الآخر لعوامل اجتماعية فقدت مبرراتها، ولكن الجدران العازلة ما زالت شاهقة لم تردمها بعد كل عوامل التطور والتعلم والتغيرات العاصفة؛ لأن التطور طال القشرة ولم يلمس اللب بعد.

الآخر المختلف أخلاقيا

الاختلاف الأخلاقي يصنع حاجزا بالضرورة، وإذا كان ممن كانت تربطنا بهم علاقة ورابطة قوية، يحدث هذا الاختلاف صدمة عنيفة، لا بد أن تترك آثارها السوداء على الروح، ومن الصعب تجاوزها إلا بشق الأنفس وبعد مدة قد تطول كثيرا.

في قصة «الخيل وفضاءات البنفسج» للقاصة دلال خليفة، ثمة نموذج سلبي لرجل كان مثاليا في بداية تعرفه ببطلة القصة بنفسج، ولما حقق المراد، كشف عن حقيقته، فقد أعمت وسامته بنفسج، وفضلته على راشد الأكثر انسجاما معها، والذي يشاركها اهتماماتها بالخيل وعوالمها. صدمت بنفسج بخيانات زوجها فهد وفساده وتهتكه، صبرت عامين، ثم لم تجد مفرا من طلب الطلاق، وكان فهد قد وضع شرطا جزائيا إن طلبت هي الطلاق، أن تتخلى عن مزرعتها للخيول التي ورثتها عن أبيها، وهي المزرعة التي تعتبرها جنتها، وخيولها أسرتها، ولكن في سبيل التخلص من فهد تخلت عن مزرعتها، على الرغم من محاولاتها القضائية الفاشلة، وهنا تدخل راشد وتحايل على فهد واشترى مزرعة الخيول وأعادها إلى بنفسج دون قيد أو شرط، لأنه يعرف أن روحها متعلقة بالمزرعة وخيولها. لم يكن فهد يحب الخيول، وليس بحاجة إليها، ولكنها رغبته في أن يكسر المرأة التي تزوجها ولم تتقبل خياناته وقذارته، لأنه يعرف كم تعشق هذه الخيول وتعلقها بها، وكانت نيته واضحة قبل الزواج، وتخطيطه مسبقا لأنه يعرف ماذا سيحدث، أما بنفسج فقد وقعت في شباك سحره ووسامته. كان فهد الذي فضلته بنفسج على النقيض من راشد الذي تركته، مع أنه حذرها مسبقا من فهد، ولكنها أصمت أذنيها، متهمة راشد بأنه حقير ومجرم، ولما كشف فهد عن خبثه ودناءته، وقف راشد إلى جانبها وأعاد لها حقها من أمواله الخاصة دون أن يشترط شيئا. تكشف هذه القصة أيضا أن من نظنه «الآخر» هو الأقرب إلينا، بينما من يضمنا وإياه بيت واحد هو «الآخر» بل العدو والشر المستطير، وهي دعوة للتأني في الاختيار وعدم الانسياق وراء العواطف دون تبصر، وأن وسامة الرجل ليست ميزة بالضرورة، وأن هناك معايير أهم منها بكثير؛ فالرجولة والشهامة والأخلاق الفاضلة تتقدم على ما عداها، فلا نفع للوسامة أو الثراء أو الجاه أو المنصب إن لم يسيج بالأخلاق ويعجن بالرجولة والشهامة والمروءة.

وقريبا من ذلك قصة «حرام عليك» للقاص محسن الهاجري، حيث الزوج المتهتك الصبياني اللعوب، الذي لا يقيم وزنا لمشاعر زوجته فيتغزل بالممثلات والمذيعات أمامها، ويأكل بنظراته النساء في السيارات والشوارع، ولم تجد منه أي تعامل حسن، بل الفظاظة واللامبالاة، ولم تستطع أن تقول له «حرام عليك» معترضة إلا مرة واحدة ثم صمتت، وذلك ليلة زفافها، فتذكر أنه عاملها بخشونة دون أن يأبه بمشاعرها، ولما حضر العشاء، جلس يأكل ولم يدعها، وبسبب الجوع تنازلت عن كبريائها وجلست تشاركه الطعام بعد انتظار وتردد، ولما همت بأول لقمة «صاح الزوج بكامل صوته، فرمت لقمتها فزعة مرعوبة، ونظرت إليه في وجل، فإذا بعينيه تشتعلان ويحمر لونهما، فأحست وكأن سياطا من النار تخرج منهما فتجلدها، وخرجت من فمه أولى كلماته لها: «اسمعي يا امرأة.. هذه أول مرة تأكلين فيها معي.. أنا أولا.. ثم تأتين من بعدي تأكلين.. أفهمت يا امرأة؟» صدمت لسماعها ذلك منه، وكاد أن يغمى عليها لولا أن تمالكت نفسها، وارتعشت وهي تقول له: «حرام عليك.. حرام عليك». لقد كانت أول مرة تقول فيها هذه الكلمات له، بل إنها أول مرة تعلن عما في داخلها له؛ لأنها بعد ذلك لم تستطع أن تفتح فمها بشيء.. طيلة حياتها». وإذا لم تجمع مائدة الطعام زوجين عروسين، فإن جحيم «الآخر» ينتظر طرفها الأضعف.

الآخر المختلف ثقافيا

ليس بالضرورة أن يكون كل «آخر» خصما أو عدوا أو محل ريبة، فالأم في قصة «مع أبي» للقاصة شمسة الكواري، لبنانية الأصل، تزوجت الأب القطري، وأقامت فترة في قطر، ولكنها لم تستطع التأقلم والتكيف، فطلبت الانفصال بالتفاهم والرضا بين الطرفين، وأن تكون حضانة الابنة للأب، واستمرت العلاقة الطيبة بين الأبوين، يستذكر الأب أيامه الجميلة معها، إلى أن تزوجت من آخر، فسلم ذكرياته معها إلى ابنته، فقد شعر بأنه ليس من حقه أن يحتفظ بصورها ومتعلقاتها بعد أن تزوجت. هذه القصة نموذجية في التعامل مع «الآخر»، فلم يكن الانفصال دافعا للعداوة والبغضاء كما هو مألوف، بل الذكر الحسن، والتواصل الجميل، والسؤال المستمر عن الأحوال، فبينهما ذكريات جميلة وفتاة قرة عينهما، وكانت الفتاة تزور أمها، والأم تزور ابنتها دون موانع أو عوائق. وهي قصة بقدر ما هي مريحة نفسيا، إلا أنها تشعرنا في المقابل بالبون الشاسع بين المختلفين ثقافيا على أرض الواقع، هذا الاختلاف الذي يتحول إلى خصومات وعداوات وبؤر صراع وتجاذبات لا تقيم وزنا للقيم الإنسانية ونقاط الالتقاء. وقد وردت في بعض قصص المجموعة إشارات خاطفة للخدم، لم تظهر أي موقف إلا في قصة «يوم العيد» للقاص جمال فايز، حيث الرجل الذي فقد أحبته، يفتقدهم يوم العيد، ويشعر بوحدته وغربته، ولما استأذنه الخادم ليستريح لأنه تعب، يطلب منه أن يجلس بمحاذاته ويشاركه المائدة التي وضع عليها كل ما يحبه من افتقدهم. قد لا يكون الخادم بديلا، لكنه على الأقل من بقي معه في البيت، وتربطهما معا ذكريات مع من غابوا.

وبعد؛ فإن «الآخر» قد يكون متغلغلا فينا، يعيش معنا، يعاشرنا، وأحيانا قد يجتمع «الأنا» و«الآخر» في الشخص الواحد، عندما تضطرب أموره، وتهاجمه الهواجس والوساوس والقلق والكوابيس، ويفقد بوصلته، وتظلم الدنيا من حوله، وهذا «الآخر» هو الأخطر والأكثر ضراوة وشراسة.

كاتب أردني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي