"جنوب" دُنى غالي: تجميع الحكاية العراقية

2023-02-08

سومر شحادة

بدءاً من العنوان يمكن قراءة رواية "جنوب" للروائية العراقية دُنى غالي (1963): فالجنوب هُوَ العراق. لكنّ الجنوبيين الذين تتحدث عنهم مرّوا في الشَمال أو عاشوا فيهِ، في الدنمارك والسويد. إنَّهم جنوبيون في الشمال. والجنوب بهذه المباشرة صارَ جنوباً بنسبتهِ إلى الشمال، بما للجهتين من رمزية وأزمات تُفاضل بينهما؛ فالجنوب عالمٌ عنيف مشغول بالقتل المباشر. فيما الجنوبيون، الذين وصلوا الشَمال ــ والرواية الصادرة عن دار "المدى" حديثاً تتحدّث عنهم ــ منفيّون إلى عالمٍ قصيّ، هاربون من ذاكرة العنف، ويبحثون عن نجاةٍ من أصداء القتل الذي عانوا منه في العراق.

البلدان في الرواية إقاماتٌ وليست انتماءات؛ إذ يخرج حسام وفاضل ووائل من العراق، لاجئين إلى السويد والدنمارك. ثمّ يعود فاضل إلى الكويت، وحسام إلى الإمارات حيث يستقرّ ويتزوّج بعد محاولته الانتحار في السويد. وفي العودة عزوفٌ عن نمط العيش في أوروبا، وارتداد إلى الشرق/ الجنوب لحلّ أزماتٍ سبّبَها الغرب/ الشمال. أو هذا ما تلمّح إليهِ الراوية، وما تريده، أو ما تقوله صراحةً. ثمّ بعد زمنٍ، يعود فاضل وحسام إلى أوروبا سائحين لا لاجئين، كي يلتقيا مع وائل. يتحضّرون للقاءٍ في المنفى، ليستذكروا وطناً أفقدتهم إياه الحرب. لكنْ يغيب فاضل عن الوعي ما إنْ ينزل من الطائرة. وفي الغيبوبة يقرأ له حسام من مفكّرة والد صديقهم وائل. فاضل هو مَن اقترح اللقاء، واللقاء حدث بالفعل. لكنْ بلا فاضل الذي يموت في الغيبوبة، ويعود بهِ حسام إلى البصرة جثّةً، ومن ثَمَّ يلحق بهما وائل.

في الكتاب روايتان، الأولى هي "خطوات"، وجزؤها الأوّل في جوهرهِ لقاءٌ جمع صديقين مع جثّة صديقهما التي تعود إلى "الوطن" وتعيدهما معها. وعلى ضِفاف هذا الجوهر نقرأ حالَ عراقيين خرجوا هرَباً من الموت، واجتمعوا في المنفى بوفادةِ الموت، وأخيراً عادوا إلى العراق، إلى انتمائهم الوحيد، بمعونةِ الموت.

نلتقي أيضاً في "خطوات" مع مفكَّرة، تمثّل محتوياتها الجزء الثاني من هذه الرواية. وهي سيرة بذاتها، لأنّها ما تبقى من سيرة صاحبها. وتروي يوميات والد وائل في عام 2008، إذ يجد القارئ يوميات المرض وانقطاع الكهرباء والغلاء والشعور بالوحدة؛ أي، يوميات التقتير. تقتير كُلّ شيء نهايةً بموت الأشياء وفنائها، والموتُ هنا إعدامٌ للحياة بعد تقتيرها تدريجيّاً.

كما في المفكَّرة سرُّ العاشق، سرٌّ غلّفه تحفّظ العائلات العراقيّة طوال خمسين عاماً. وأساساً ما ميّز فاضل عن صديقيهِ وما ألهمهما هو حبّه لبثينة، الحبّ الذي منحهُ المعنى. والرواية، بهذا، بحثُ الجنوبيين عن معنى فقدوه في الشَمال. هكذا، يلتئم مصير الشخصيات التي قهرها العنف على محاولة الحبّ، وهو سلوكٌ يحضرُ خجولاً، مقتّراً ومغموراً تحت طبقاتٍ من السرد. فالشخصيات تبحث عن الحبّ كي يغمرها ويضيء عليها عتمتها.

في الشكل يأتي الكتاب بهيئة روايتين؛ الأولى في جزأين، والثانية في مقاطع سردية. في الشكل أيضاً، الكتاب مجموعةٌ من الروايات المنفصلة التي تجمعها سِيرة اللجوء والفرار ولعنة الأوطان المفقودة. ولا توجد شخصيات يمكن للقارئ أن يعرف سيرتها من البداية إلى النهاية، وإنّما لمحاتٌ عن شخصيات مضطرّبة، ولحظات فارقة في حياتهم. وقد أحكمت على الزمن في الرواية سِمة شتات المكان، وهو مقسوم إلى زمنين؛ زمن الحرب الذي هو زمن للانتظار، انتظار وجبة الطعام وانتظار المرتّب، ويمكن أن يكون أيضاً انتظار الخروج. وزمن اللجوء الذي هو، في جوهره، انتظارٌ للعودة.

تحمل الرواية الثانية اسم "مانفيستو الحُجرة". وتحضر فيها شخصيات متعجّلة؛ جنودٌ ينتظرون إجازاتهم؛ وفتياتٌ في المراهقة يتُقْن لمعرفة أجسادهنّ. أيضاً نقرأ مخاوف انتهاك الجسد، وانكسارات العاطفة عبر موضوعاتٍ كالإجهاض وتأجير الأرحام، في ما يُعرف بالأمهات الوسيطات.

وليس بعيداً أن تكون حكاية الأمّ الوسيطة، التي لا ترى وليدها بعد الولادة كي لا تتعلّق به، قد تسلّلت إلى الحكاية من فضاء اللجوء، ومن فضاء مغادرة أوطانٍ لم يعد لديها ما تُطعم بهِ أبناءها. لا سيّما مع وصف الراوية للعراق، بلدها، بأنّه بلدٌ محكوم عليهِ بغياب الآباء من جرّاء الحروب الطويلة التي شهدها. وسردُ دُنى غالي يبحث عن دلالة لا في الحكاية عينها، وإنّما في تجميعها. وهنا تجتمع: أمٌ برحمٍ وسيط، وبلدٌ بأبٍ ضائع، ومنفيون يهيمون بروحِ الجنوب في عالم الشَمال.

روائي من سورية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي