فصحى بابلية في ميلانو

2023-03-20

صبحي حديدي

الباحث والأكاديمي المصري وائل فاروق يقدّم، منذ سنوات، خدمات نوعية بالغة الأهمية والحيوية للفصحى والثقافة العربية في عموم إيطاليا، ولكن في مدينة ميلانو والجامعة الكاثوليكية بصفة خاصة؛ وذلك عبر الدورات المتعاقبة لـ»المهرجان الدولي للغة والثقافة العربي»، الذي انعقدت دورته السادسة خلال الأيام 16-18 آذار (مارس) الجاري، تحت عنوان «جسور بابل: دور الترجمة في بناء الحضارة». قائمة المداخلات تجاوزت الـ25، وانتمى المشاركون إلى فلسطين ومصر وسوريا ولبنان والمغرب والجزائر والسعودية وفرنسا وإنكلترا، فضلاً عن إيطاليا.

وقد أسعدني أن أشارك بورقة عنوانها «ترجمة الشعر: الفضائل والمخاطر»؛ أوضحت في فقراتها الأولى أنّ ترجمة هذا الجنس التعبيري الأدبي تظلّ الأكثر تعقيداً بالمقارنة مع الرواية أو المسرح أو القصة القصيرة أو المقالة النقدية. سبب أبرز، وفي مقام جوهري، يعود إلى طبيعة الشعر ذاته، ومكوّناته الفنية العديدة، والعلاقات العضوية بين المحتوى والشكل في القصيدة؛ فضلاً عن سمات أخرى قد تنفرد بها اللغة الشعرية، لجهة المجاز والإيقاع والانزياحات الدلالية والسمات الإيحائية العالية للمفردة الواحدة داخل الجملة، ثمّ للجملة ذاتها ضمن معطى تركيبي وأسلوبي أوسع.

واستئناساً بتجربة شخصية في الترجمة أسفرت عن ثمانية أعمال، بين فلسفة ورواية وتاريخ ونظرية أدبية، فضلاً عن مئات القصائد لعشرات الشعراء، ودراسات كثيرة منفردة في ميادين معرفية متنوعة؛ فقد توقفتُ عند خمس فضائل، بين عشرات ربما، يصحّ رصدها عند ترجمة الشعر:

1 ـ التطلّع إلى تلك الغاية الأرقى التي يمكن لمترجم الشعر أن يطمح إليها، أي خلق هوية متجانسة بين النصّ الأصلي والترجمة، لا ليكون الثاني بديلاً عن الأوّل، بل لكي يشغل وظيفته ما أمكن. وفي هذا تأكيد على أنّ المترجم «بريد الروح الإنسانية»، كما عبّر شاعر روسيا الكبير بوشكين؛ أو فرضية إزرا باوند بأنّ «أيّ عصر عظيم في الأدب هو دائماً عصر عظيم في الترجمة، أو يعقبه».

2 ـ ترجمة قصائد منفردة ذات خصوصيات جمالية عالية ومواقع ثقافية متميزة، هي دائماً أشبه بميدان تنافس وتسابق وانفراد، والمثال الأبرز هنا قد يكون قصيدة ت. س. إليوت «الأرض الخراب»، التي تعاقب على ترجمتها إلى العربية لويس عوض وماهر شفيق فريد وتوفيق صايغ ويوسف سامي اليوسف وعبد الواحد لؤلؤة ويوسف الخال/ أدونيس وفاضل السلطاني مؤخراً.

3 ـ ترجمة كتلة شعرية ذات خصوصيات محلية، إلى جانب الخصوصيات الفنية، هي ميدان تثقيف لقارئ الشعر العربي، الحديث والمعاصر بصفة خاصة؛ كما في مثال كتلة الشعر الهندو – سنسكريتي، أو الشعر اليوناني، أو الشعر الإرلندي، أو الشعر الصيني. ومن المنطقي أنّ هذا القارئ لا يتعلّم الكثير من الجديد عن التجارب الشعرية لدى الثقافات الأخرى، فحسب؛ بل يطوّر أيضاً مهارات نقدية مقارنة، تجاه النتاج الشعري العربي الذي يقرأه.

4 ـ النماذج المتعددة لترجمة قصيدة إليوت «الأرض الخراب» قد تمكّن القارئ من إقامة طراز طريف في المقارنة اقترحه ذات يوم الشاعر البولندي آدم شيرنيوفسكي؛ بين صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود تُوضع إلى جانب تنويعات منها بالألوان، أو الرسم بالفحم، أو الحفر، أو ألعاب الفوتوشوب المتعددة في عصرنا. هذه رياضة حيوية تجعل ترجمة الشعر ممارسة تعددية على مستوى الشكل والمحتوى، يصعب أن تُسقف تحت أيّ معطى مسبق من داخل الخيار الواحد ذاته.

5 ـ الطراز ذاته من المقارنة يمكن أن يعين في تنويع المعمار الصوتي للقصيدة تبعاً للسلّم الموسيقي الواحد إياه، ولكن مع تنويع الآلات الموسيقية التي تعزف الجُمَل ذاتها باستخدام البيانو أو الكمنجة أو العود أو المزمار، إلى ما لا نهاية من حيث المبدأ.

وليست مفارقة أن تكون كلّ واحدة من هذه الفضائل الخمس حمّالة مخاطر أيضاً على ترجمة القصيدة، من ضمن ثلاثة محاور مركزية كبرى:

ـ المحور الأوّل صرفيّ واشتقاقي ومجازي بين اللغة الأمّ واللغة المنقول إليها، ليس لجهة تعذّر البدائل القريبة على مستوى الدلالة المعجمية، بل كذلك من حيث الدلالات الثقافية أو الجمالية أو حتى السوسيولوجية التي تتصل بتواريخ استخدام هذه المفردة أو تلك.

ـ المحور الثاني صوتيّ وموسيقيّ يخصّ التشكيل الإيقاعي للنصّ الشعري وتشعباته لجهة المعنى والدلالة؛ كما في هذا الاستهلال من قصيدة محمود درويش «فانتازيا الناي»: «النايُ أصواتٌ وراء الباب، أصواتٌ تخافُ من القمرْ/ قمرِ القرى. يا هل تُرى وصلَ الخبرْ/ خبرُ انكساري قربَ داري قبل أن يصل المطرْ/ مطرُ البعيد، ولا أريد من السنةْ/ سنةِ الوفاة سوى التفاتي نحو وجهي في حجرْ».

ـ المحور الثالث يخصّ عروض الشعر وفنونه ذات الصلة بالشكل الظاهر، كأن تنتمي القصيدة إلى العمود الكلاسيكي أو التفعيلة أو قصيدة النثر؛ ومن الثابت أنّ مهارات الشعراء على هذه المستويات سوف تكون جهة الخسارة الأبرز عند النقل إلى لغة أجنبية، خاصة حين يكون الشاعر عالي التمرّس في تطويع العروض والأوزان والقوافي لتحقيق مقادير أعلى من اجتذاب الذائقة.

وفي اختتام هذه الدورة أشار البروفيسور وائل فاروق إلى خلاصة ذات مغزى عميق، مفادها أنّ الأوراق قصدت العثور على إجابات للأسئلة، فانتهت إلى استيلاد المزيد من الأسئلة بدل تضييق نطاقاتها؛ وهذا أمر محمود، بالطبع، ولعله بين أرفع محاسن هذه الملتقيات.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي