«الحكيم المتأله»: رواية تاريخية عرفانية للكويتي

2023-03-22

موسى إبراهيم أبو رياش

تمزج رواية «الحكيم المتأله» للروائي الكويتي محمد حميد رضا بين التاريخ والتصوف في خلطة سردية جميلة متوازنة، متأثرة بالرواية الكلاسيكية بلغتها الأنيقة، ووصفها الفاتن للشخوص والعواطف والمشاعر والأحوال والأمكنة، وتصاعد الأحداث بتسلسل عمودي، وقد صدرت في دمشق، عن دار نينوى، عام 2022، في 438 صفحة. وهي الرواية الثالثة لمحمد حميد بعد روايتيه «البحث عن المجهول» و«اللا هنا».

تناولت الرواية من خلال حكاية مراد «الحكيم المتأله» جانبا من تاريخ الموصل وبغداد وواسط وتبريز وما حولها في الفترة من 1356 إلى 1410 وما بعدها بسنوات، بما فيها من الصراع على السلطة بين السلطنة الجلائرية وقبيلة القرة قويونلو وتيمورلنك والمماليك، وسلطت الضوء على الحالة الاجتماعية، والأوضاع الاقتصادية، والتصوف والمكان وغيرها.

الصراع على السلطة

كان حكم العراق في الفترة التي تتناولها الرواية للسلطنة الجلائرية أو الإلخانية المغولية ابتداء من السلطان حسن ثم ابنه أويس ثم حسين ثم أحمد، وقد شهدت السلطنة صراعا شديدا على الحكم بعد وفاة السلطان القوي حسن، خاصة مع قبيلة القرة قويونلو (الخرفان السوداء) التركية، وتراوحت العلاقة بينهما بين التحالف والصراع، وبينما غلب على السلاطين المجون والتهتك واللهو والضعف، غلب على قبيلة القرة قويونلو البطش والتنكيل والتخريب. كما نشأ صراع داخلي بين أركان البيت السلطاني أنفسهم، وبينهم وبين قادتهم وولاتهم أيضا، واستعانوا بالمماليك، وكل ذلك أضعف السلطنة، وبث الرعب في البلاد، وأدى إلى شح المواد التموينية وغلاء أسعارها، ما مهد السبيل لتيمورلنك للاستيلاء على مدن السلطنة وإنهاء وجودها. المفارقة أن كل الأطراف المتصارعة وحلفائها مسلمون، ومعظم الصراعات كانت تبدأ من الداخل ثم تمتد، ولم يحاول السلاطين إصلاح الدولة وتعهد البلاد بما يرفع من شأنها وشأن أهلها، بل ولغوا في اللهو والشراب والمجون والفحش، فلم يتعظوا بمن سبقهم، كما لم يتعظ بهم من جاء بعدهم إلى يومنا هذا. فالحال لم يتغير إلا شكلًا!

التصوف

غلب على الرواية أدب التصوف ابتداءً من العنوان «الحكيم المتأله» والمقصود به الحكيم المتعبد المتنسك، وقد أطلقه الشيخ أحمد الحلي على بطل الرواية مراد؛ لما رأى وسمع من علائم حكمته وعمق عبارته وبعد بصيرته وانقطاعه للعبادة والكتابة. كما أن الرواية تكونت من خمسة فصول أطلق عليها الكاتب عناوين صوفية: الكشف الأول، الكشف الثاني، الكشف الثالث، الكشف الرابع، كشف الفناء والخلود. وتضمن كل فصل/كشف عددا من الفصول الفرعية المعنونة، وكل فصل/كشف كان مرحلة من مراحل معرفة الذات والخلاص التي انشغل بها مراد، ومن ثم التجلي والفناء والخلود. وقد بدأ مراد بالتأمل والتفكر والانعزال، ثم مجاورة ضريح الولي قضيب البان في الموصل كبديل له، وقام على خدمة الضريح وزواره حتى تكشفت له الحقائق، وأنيرت بصيرته وعرف نفسه، فعاد إلى بغداد ومن ثم واسط، حيث التف حوله المريدون، وما لبث أن تقصدته السلطة؛ لما له من أتباع ومريدين وقد يشكل خطرا عليها في يوم ما، وسلطت عليه العوام، فاجتمعوا عليه وقتلوه بعد تنكيل وطعن وسحل. وقد كتب تجربته وكشوفاته وفتوحاته في كتاب بلغة الجفر، دفنه وأوصى به إلى الشيخ أحمد الحلي.

والمفارقة أن سبب قتل مراد، هو سبب قتل الحلاج نفسه، فعندما زاره وفد السلطة في مدرسته في واسط، سأله رئيس الوفد: «هل حججت؟ فإنّي لم أرك من قبل في أيّ حملة حجّ، ولا حتَّى في مكَّة» فأجابه مراد غاضبا: «نعم، حججت، حجًّا روحيًّا إلى كعبة الأزل، متوجّها بروحي نحو فاطر السماوات والأرض، بروحي لا بجسدي» فكانت قاصمة الظهر، ومبرر تأليب مريديه والناس عليه، فانفضوا من حوله وتركوه وحيدا، ومن ثم قتلوه.

الحياة الاجتماعية والاقتصادية

سلطت الرواية الضوء على قصور الحكم وما فيها من لهو ومجون وخمور ورقص وفحش، وكثرة الجواري والغلمان، وتمدد ذلك إلى بيوت كبار القوم في المدن وأطرافها، وصاحب ذلك ضنك عيش الرعية وغلاء الأسعار وشح الغذاء وتسلط الولاة والقادة، خاصة من القرة قويونلو الذين استباحوا الموصل غير مرة وقتلوا وبطشوا بأهلها دون سبب إلا رغبة في إظهار وحشيتهم وفرض سطوتهم. والمستغرب أن إحدى الطرق الصوفية والتي تعرف بالقلندرية كانت لهم مذاهب شتى في الحياة، وكان قسم منهم لا يتورع عن السكر حتى الثمالة، وحب الغلمان المرد ووطئهم، والحكيم المتأله نفسه الذي لم يكن منهم، لم يتردد في مضاجعة حبيبته أيام الشباب سارة مرات ومرات بعد أن تم له الكشف وعرف نفسه ووصل إلى خلاصه ومراده.

وأشارت الرواية إلى غرق بغداد سنة 1374 بسبب غزارة الأمطار وشدتها وعدم قدرة نهري دجلة والفرات على استيعاب المياه ففاضت وأغرقت بغداد، ونكب الناس في بيوتهم وتجارتهم وأموالهم، ورفع عنهم السلطان أويس الخراج لخمسة أعوام، وندب جيشه وأهلها لإعمار الخراب، ومساعدة السكان لتعود الحياة إلى مجراها. وذكرت الرواية تكالب الناس على شراء المواد التموينية والحاجيات الضرورية، كلما ألمَّ خطب وارتفعت نذر الحرب التي ما أن تنتهي هنا حتى تبدأ هناك، فعاش الناس في خوف دائم وقلق مستمر، لا يدرون أي سلطان أو والٍ سيصبح عليهم، أو يمسي، فهم بين قتل وفرار وخروج وتمرد وعزل. وبسبب تردي الأوضاع، واضطراب الأحوال، وتفشي الجهل، وخوف الناس، لجأوا إلى الأضرحة والأولياء والعرافين، وآمنوا بالخرافات والخزعبلات، وقدموا القرابين والنذور، وفرشوا البسط، وجادت نفوسهم بالقليل الذي في أيديهم؛ توقًا للخلاص وطمأنينة النفس، وقضاء الحوائج، واستجابة الدعاء، وتحقيق المراد، وشفاء المريض، وأوبة الغائب، وإنجاب الولد، ورد كيد الأعداء وكف أذاهم.

وبعد؛ إن «الحكيم المتأله» رواية جميلة، تناولت فترة مجهولة للقارئ من تاريخ العراق وجوارها، وهذا من أهم أدوار الرواية التاريخية؛ تسليطها الضوء على ما لا يعرفه القارئ، فربما يجد فيها المعرفة التي ينشدها، وتوفر له مجالًا للمقارنات والتحليلات بين الماضي والحاضر، كما أنها تستحثه للبحث والاستزادة من تاريخ تلك الحقبة المضطربة التي اختلط فيها الحابل بالنابل، والتوسع في معرفة السلطنة الجلائرية ومناطق نفوذها وأعمالها، وكذلك قبيلة القرة قويونلو ودورهم في اضطراب المنطقة وتقلبهم حسب رياح المصالح، بالإضافة إلى نبشها العميق الجميل في مراحل التصوف وأحواله ومقاماته، ما يثري ثقافة القارئ، ويغريه بمعرفة المزيد عن التصوف وطرقه وأعلامه وما يدور حوله من تساؤلات وإشكالات. يؤخذ على الرواية المبالغة في الوصف، خاصة للمشاعر وحالات الوجد والهيام والعزلة والتأمل، الذي أدى – على الرغم من جماله وأناقته – إلى إثقال كاهل الرواية، وطالها الملل في بعض الأحيان، وكان يمكن أن تكون أرشق من ذلك، وبالتالي أكثر تشويقا وإمتاعا. كما أن الرواية خلت من فهرس للمحتويات الذي أراه ضروريا في روايات كهذه، خاصة أنها طويلة، وتتناول أحداثا تاريخية، فقد تكونت الرواية من خمسة فصول تشعبت إلى سبعة وستين عنوانا فرعيا وأربع عتبات في بداية الرواية. ومع ذلك؛ فالرواية جديرة بالقراءة، وتستحق الدراسة والتحليل والاهتمام النقدي والبحثي، وتعلن عن صوت روائي مبدع، يلزمه خلع رداء الكلاسيكية وتطوير تقنياته الروائية.

كاتب أردني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي