عَمّان البحر الميت التاريخ يتحدّث

2023-03-23

خليل النعيمي

أبدأ خطواتي الأولى في «عَمّان». الشمس حارقة. الطرقات سوداء كالقير. النوء قاحل لكأننا في صحراء. نهبط «شارع الأمير محمد» سائرين بتوجّس، نحو مركز المدينة. «المدرج الروماني» قصْدنا، لكن الوصول إليه بدا لي سريعاً معجزة. فأصير أنظر حولي متهيّباً، باحثاً عن شيء لا معنى له، لكأنني أريد أن أعود القهقرى، ولا أقوى على فعل ذلك.

أتابع السير متحذّراً وقَلِقاً. من أين يجيء القلق في يوم «عمّان» المفعم بالتريّث والريبة؟ حولي تسير أزوال مبهمة، تَتَكتّم وكأنها تسرق الوقت، والزمن يسيل في عمّان بلا حساب. أمشي متردداً، والصمت يملأ قلبي، وأنا أتساءل: «ماذا يقول التاريخ في عمّان»؟ أشياء كثيرة تخطر لي سائراً، ومنذ أن أقف في منتصف الطريق، لم يعد يخطر لي شيء. كنتُ مأخوذاً بصرامة الوجود الذي لم أكن أتوقعها في «عمّان». وهذه الطرقات المليئة بالرمايا والغبار، عمّا تُنْبئ؟ وماذا يمكن أن يعثر الماشي فوقها، غير الضوء والسكون؟

أدع الطريق وأنتقل إلى وجوه العابرين، رؤوس قلقة، وعيون حائرة، وسمات لا توحي بأي كلام. لكأنني في مدينة خرساء. الناس يسيرون فقط. يسيرون، كما أرى، من دون تصميم. لكأنهم يمشون نحو ما لا يريدون الوصول إليه. ولكن: «مَنْ أنتَ حتى تحكم على العابرين»؟ و«منْ جاء بهم إلى طريقي»؟ وفجأة، أقف في منتصف الطريق، وقد فقدت الرغبة في متابعة السير. لكأن تفاعلاتي الداخلية استبدتْ بي. فلأذهب إلى مكان آخر. عالم هذا الشارع الملفّع بالسواد يذهلني.

أغيّر النحْو والمسير. أتحرّى بعيداً «جبل القلعة»، وأبدأ الصعود. في قمة الجبل التاريخي أقف مدهوشاً: من أعلى الجبل تبدو عمّان كتلة رمادية من الحجر، بلا حدود، بل كُتَلا حجرية مغروسة في أعماق القاع، وموزّعة على هضاب لا حصْر لها! أي مدينة مشتتة ومجتمعة معاً هي عمّان؟ الأفق يبدو قصيّاً. والسكون يخيّم بقسوة على الكون. البيوت البعيدة تبدو متلاصقة مثل غيران عملاقة محفورة في الهضاب. لا زَوْل، ولا حركة، ولا ضوضاء. صمت. صمت قاس وعميق مثل صمت أحجار أسطورية حطَّتْ في مكانها منذ دُهور. أتركُ المدينة وشأنها، وأعود إلى الآثار التي تحيط بي فوق جبل القلعة. أمشي رويداً، وكأن الزمن لم يعد يسيل، أو كأنني أريد أن أمتصّ التاريخ الذي بدأ يسحرني بمآله المأساويّ. أسوار القلعة مهدمة في كثير من نواحيها. وبعض الأعمدة الرومانية ما زالت تقاوم اضطهاد الزمن لها. تقاومه واقفة بعناد مثل فارس لا يريد أن يموت مَرْمياً على القاع. سريعاً، ألجأ إلى الظل، وأنا أتابع النظَر إلى الفضاء مذهولاً. لكأن قلعة الجبل الراكبة فوق عمّان، لم تعد تريدني أن أفارقها! قلعة الجبل التي تطلّ مباشرة على المدرج الروماني في الأسفل، في أعماق الوادي الذي يحتضن قلب عمّان. والمدرج يبدو خالياً، متوجّهاً بكليته إلى القلعة الراسية فوقه مباشرة، متوسّلاً إليها: تعالي!

فوق جبل القلعة أنسى الحاضر، وأدع التاريخ يتحدّث. ولكن ماذا يمكن أن يقول لنا التاريخ سوى أننا بلا تاريخ لا وجود لنا.

من جبل القلعة نهبط نحو المدرج الروماني القديم على درج من حجر أملس نظيف. درج يوصل أعلى الجبل بالقاع. الحارات التي نمرّ بها شديدة الجمال لكأنها جزء من تاريخ لا يفارقنا. حارات صامتة، لا نرى في أزقتها أحداً غير القطط والعصافير. لا بد أن سكانها مَلّوا من رؤية العابرين المندهشين كل يوم، فاختفوا عن الأنظار. مع الزمن يغدو المرور المستمر، مثل إقامة دائمة، قدراً ملعوناً بالنسبة للقاطنين. هم أيضاً يحبون أن يتجولوا سائحين في أرض الله الواسعة التي لا يعرفون عنها شيئاً كثيراً، كما أظن، وليس بعض الظن إثماً. ومنذ أن نطأ القاع، مقابل المدرج الروماني، نلجأ إلى مقهى «لحظة» المكيّف والمؤثث بشكل أنيق، لنستريح من «عناء التاريخ» الذي لا ينسى.

مساء، على الطريق، نجلس. نجلس في الطابق الثاني، في مقهى «جَفْرا»، في وسط عمّان. الوقت مساء. القمر قد طَلَع للتوّ من وراء الهضاب المثقلة بالزمن والتواريخ. قمر حَبيس، أفكّر صامتاً، قمر عمّان الحزين. العالم في الأسفل مكفهرّ الوجه، لكأنه يُعاني من مصير يستحيل التخلّص منه. الناس يمشون بهدوء. أصواتهم خافتة، وخطواتهم صامتة، لكأنهم مدفوعون بقوة قاهرة إلى حيث لا يريدون. ما هذه العَمّان الرمادية؟ أتساءل في أول ليلها البادئ والثقيل، وأنا أتحرّى الأنحاء من حولي. عمّان مدينة تكره الألوان، والابتسامة لا وجود لها فيها! عمّان مدينة متذمّرة، غير راضية عن نفسها، تبدو حائرة بين البداوة والحضارة. لكأنها خرجت للتوّ من كهف الزمن السحيق. لكن القمر عندما يعلو، وها هو ذا يفعل، يغيّر كل شيء. يغيّر النوء والوجود والمشاعر والاحتمالات. يملأ وادي عمّان بضوئه الباهر مثل فضة سائلة، فيبتسم وجه المدينة، وكأن الرب تذكّرها، أخيراً، فملأ واديها نوراً. اليوم نبدأ الطريق نحو «البحر الميت». سائقنا «شبْسو» الأشقر القصير المتحفّز مثل قط أريب، يشرح لنا التاريخ العريق للمنطقة، من دون أن نطلب منه شرحاً. لكأنه يتمتّع بالكلام عن الأشياء، حتى عن تلك التي لم يعد لها وجود. يشرح ببساطة ومن دون انفعال وكأنه يقرأ الماضي في كتاب. وأنا لا أحب الشرح عندما تكون لديّ رغبة في الكتابة. فصبرت، قبل أن أنفجر.

الشمس ساطعة. السيارات تتسابق بجنون. الفضاء شجر وتراب: هضاب تليها هضاب. في البعيد يبدو الضوء أصفر رائقاً، والأفق بلا تيه. لكن الأرض تبدو، مع ذلك، عصية على الإدراك. لكأنها لا تريد أن تفشي أسرارها. هضابها المتعاقبة بلا انقطاع تخبّئ مرائي الكون القصية، وتجعلنا محدودي البصر، وكأننا ننظر تحت أقدامنا. ويبدو لي أن: «عَظَمة الكون لا تُدرَك إلا بالسفر». الانتقال من مكان إلى آخر هو الذي يفتح أبصارنا على العالَم. هو الذي يجعلنا نعيد النظر بما نحن عليه من بلادة وسكون. السفر هو ميزة الكائن الحي. وهي ميزة لا بديل له عنها إذا أراد أن يكون جديراً بالوجود.وهذه الهضاب التي لا تكف عن المرور بنا لا توحي بغير ذلك. لكم أحب أن أمشيها على قدمَيّ! ولكن كيف؟ ويخطر لي، على الفور، أن الأساطير الإنسانية الأولى ما هي إلاّ أساطير المشّائين الأوائل، أولئك الذين أكلوا الأرض وما تحويه مَشْياً.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي