إنتاج التطرف في الهند
2022-03-12
عدلي صادق
عدلي صادق

في سبتمبر 2009 حملت وأسرتي حقائبنا وتوجهنا إلى الهند. وفي الطائرة، اضطرم في عقلي خليط من الأفكار عن البلد الشاسع المسكون بكل شيء جميل وقبيح في هذه الدنيا. بعض الصور القلمية التي قرأتها ـ كأنني أشاهدها ـ مرت في ذهني.

من قديم، كان العرب والمسلمون أعرف الأمم بالهند، وأغناها تجربة في ذلك البلد، نعيماً وعذاباً. وليس أشمل ولا أطرف مما كتب أبوالريحان البيروني عندما صنّف الكتاب الأول باللغة العربية عن الهند حصراً، في القرن الخامس الهجري. فالرجل فيلسوف ومؤرخ ورحالة وجُغرافي وشاعر وفلكي وعالم رياضيات، ولغوي يجيد بخلاف لغته الخوارزمية المحلية، اللغات الفارسية والعربية والسنسكريتية (وهذه الأخيرة جعلته يكتب عن الهند من داخلها، وبطاقة الدخول إلى العقل الهندي).

مرت في الخاطر بعض لقطات أبي الريحان في كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”.

وفي الحقيقة، لم يكن البيروني قد وصل إلى الهند سائحًا أو مسافرًا، وإنما مرافقاً للسلطان محمود الغزنوي، في غزوته التي سُميت “فتح الهند الأعظم” عندما حطّم الغزنوي صنم “سونمات” وتولى أبوالريحان توثيق الحدث كشاهد عيان. بالتالي فإن الكتاب يختلف عن كل ما كتب الرحالة، مثل ابن بطوطة وابن جبير وآخرين استقروا في الهند لبعض الفترات. وبالطبع كانت هناك كتابات أسبق بقرون شملت الهند مع غيرها، وتطرقت إلى كل ما هو عجيب وغريب.

كانت أنباء احتقان العلاقة بين أصوليي الأديان في الهند هي هاجسي الأول قبل الوصول إلى دلهي. فالتاريخ السياسي للهند المستقلة، يطرح بقوة مسألة التطرف، من خلال تجارب القادة الهنود، الذين قتلوا غيلة. فالهند على الرغم من كل إنجازات التحديث، كانت وما تزال مختبراً ومهملاً كبيراً لإنتاج الأصوليات المتطرفة التي تُحيي آلام نزاعات دينية ومذهبية، مرت عليها قرون. ففي ذلك البلد، تطور التطرف القومي ـ الديني، وأصبحت له بوصلته ومنهجيته وهيئاته وأذرعه السياسية. فلضمان استمرار عمل الأصولية الهندوسية، تفرع النشاط ليشمل المدارس والصحافة والنقابات والجمعيات الخيرية.

ومن المفارقات، أن الأصولية الإسلامية في الهند، تختلف تماماً عن شقيقاتها في البلدان العربية. فإن قلنا إن الدولة علمانية بطبيعتها، سرعان ما يقفز الأصولي العربي المسلم بأن العلمانية كُفر، بينما إن كررت القول نفسه، على مسمع الأصولي المسلم في الهند، سرعان ما يهتف “واعلمانيتاه” لأن الدولة التي يقرر دستورها المساواة في المواطنة، هي ضمانة النجاة.

وفي الهند هناك دستور علماني وآليات نظام ديمقراطي، لكن الأصولية الهندوسية المتطرفة، التي قتلت واضعي الدستور، ما تزال تخالف روح الدولة العلمانية، وهنا موضع الذعر الأقلوي لدى المسلمين!

للأسف الشديد، باتت الهند في قبضة التشكيل السياسي المنبثق عن تنظيم “شيفا سينا” الهندوسي المسلح، الذي جدد نفسه بصيغة حزبية أكثر تهذيباً من حيث الشكل، تستلهم روح الشخصية المتطرفة والأكثر شعبية “الإله راما”، بطل الأسطورة الهندوسية الأقدم “رامايانا” التي يرونها رمز الفضائل وحامية التقاليد الهندوسية الوثنية!

القائمون على الوطنيات الضامنة للمواطنة المتساوية هم الذين ساعدوا بفسادهم على تفشي الأصوليات المجنونة. فحزب “المؤتمر” في الهند، أثناء حكمه عاند طويلاً في رفض لائحة برلمانية لإنفاذ القانون وتطبيقه على الكبار من بارونات الفساد.

وتولى الأصوليون الهندوس مهمة المطالبة بالإصلاح، متمثلين روح الطهرانية الكاذبة. وسقط الحزب حامي العلمانية، لكي يصعد الأصوليون الذين إن لم يجدوا في أيّ بلد، عدواً يهجمون عليه، تراهم يهجمون على بعضهم بعضاً.


*كاتب وسياسي فلسطيني



مقالات أخرى للكاتب

  • أوميكرون وريث كوفيد
  • الممسكون بالرقاب
  • لبنان في خضم أوجاعه





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي