«ماكرون» الفائز وتحديات الولاية الثانية
2022-04-27
 حسن أبو طالب
حسن أبو طالب

«اللعبة لم تنتهِ بعد، فهناك معركة كبرى نستعد لها»، هذه العبارة منسوبة إلى المرشحة الرئاسية جان لوبان التى هُزمت فى جولة الإعادة أمام الرئيس ماكرون، الفائز بفارق 17 نقطة، والمعركة الكبرى المقصودة هى الانتخابات التشريعية المقررة فى يوليو المقبل، التى بناء على نتائجها يتم اختيار رئيس الوزراء من الحزب الفائز بأكبر عدد من المقاعد شرط أن يتجاوز 50 فى المائة.

وفى حال لم يتحقق فوز حزب الرئيس ماكرون «الجمهورية إلى الأمام» بالأغلبية فى البرلمان الجديد، فقد تتشكل حكومة ائتلافية من بين الأحزاب الأكبر عدداً فى المقاعد، وعندها تدخل فرنسا ما يعرف بالتعايش الاضطرارى بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، حيث التباعد بين الرئاستين فى كيفية إدارة شئون الدولة الداخلية، فى حين يبقى للرئيس حقه الدستورى فى الشأن الخارجى وسياسات الدفاع عن البلاد

أياً كانت الصيغة التى ستفرزها الانتخابات التشريعية المقبلة، فقد أوضحت نتائج الانتخابات مجموعة من المشكلات الهيكلية التى تعانى منها فرنسا؛ أولها وأبرزها صعود المد اليمينى. فقد أبرزت نتائج الانتخابات حصول «لوبان» على قرابة 42 فى المائة من عدد الأصوات، مقابل 58 فى المائة للمرشح ماكرون.

وترجمة ذلك أن حوالى 15 مليون ناخب أيدوا لوبان، إما اقتناعاً بأفكارها ووعودها، وإما تأييداً لها لمواجهة الرئيس ماكرون باعتباره ممثلاً للوسط الإصلاحى، الذى لم يحقق الكثير للفئات الفقيرة والمهمشة، بل أضر أوضاعها الاقتصادية بشكل عام، سواء كانت أصولها فرنسية بحتة، أو مهاجرين حاصلين على الجنسية الفرنسية.

المغزى هنا أن الأفكار اليمينية التى عبرت عنها «لوبان» بعد تهذيب العبارات والمصطلحات التى اعتادت عليها واتسمت فى السابق بالعنف اللفظى، بات لها أساس مجتمعى كبير، ما يشكل تحدياً كبيراً لحزب «الجمهورية إلى الأمام»، والولاية الثانية للرئيس الفائز.

وفى هذا التحدى تبرز مقومات ما يوصف بالهوية الفرنسية ذات الطابع العلمانى والمساحة الواسعة من الحريات، التى تصاحبها أفكار ليبرالية اقتصادية لا تهتم كثيراً بأوضاع الطبقات الفقيرة والمهمشة، وهى التى تشكل المحور الرئيس الذى ركزت عليه «لوبان» فى حملتها الانتخابية وجعلتها تحصل على أصوات الشمال الشرقى لفرنسا، وهو الأقل دخلاً مقارنة بالجنوب والوسط.

وتمازج هذين البعدين يجعل فرنسا منقسمة جغرافياً واقتصادياً وأيديولوجياً، وهو ما ألمح إليه الرئيس الفائز فى كلمته بعد إعلان النتائج بأنه سيعمل من أجل كل الفرنسيين، وسيراعى الكتل التى لم تصوِّت من أجله، والمقصود بها من صوتوا لصالح لوبان، ومن امتنعوا عن التصويت لأسباب كشفت عنها استطلاعات الرأى، ودارت حول عدم توقعهم حدوث إصلاحات حقيقية تساعدهم على تحسين حياتهم، ولأن السنوات الخمس الماضية شهدت اضطرابات وتراجعاً فى مستوى المعيشة، وفى الآن نفسه فهم يرفضون كثيراً من المقولات التى عبرت عنها لوبان بخصوص المهاجرين والجالية المسلمة والخروج من الاتحاد الأوروبى.

وأياً كانت العوامل التى منعت 28 فى المائة من الناخبين من المشاركة فى التصويت، فالحقيقة الظاهرة أن فرنسا بحاجة إلى نقلة فكرية وحزبية كبرى، سواء من الوسط أو اليسار أو اليمين، وهى نقلة لا تتعلق فقط بالأفكار أو الوعود بسياسات جديدة، وإنما بإعادة تركيب الحالة السياسية للتكيف مع التحولات الموجودة فى المجتمع. ولذا يعتقد مراقبون فرنسيون أن الأحزاب الموجودة ليست هى الأحزاب القادرة على إحداث تلك النقلة السياسية الكبرى، كما أن الرموز السياسية التى ظهرت فى الحملة الانتخابية الرئاسية ليست ملائمة تماماً للمتغيرات المجتمعية والدولية الضاغطة على البلاد وعلى محيطها الأوروبى معاً.

ومن هنا تبدو الحاجة أمام الرئيس ماكرون فى ولايته الثانية أن يقوم بعمل تطوير شامل فى سياساته المنتظرة، وبما يعيد فرنسا إلى حالة تماسك مجتمعى أكثر مما هى عليه، وأن تنطوى الإصلاحات المطلوبة على مراعاة تمدد اليمين واليسار على النحو الذى أبرزته نتائج الانتخابات. ووفقاً لكثير من هؤلاء المعلقين فمن المحتم أن تبزر أحزاب جديدة تفرز بدورها شخصيات سياسية أكثر إدراكاً للتحديات الضخمة التى على فرنسا مواجهتها.

لقد تنفس زعماء دول الاتحاد الأوروبى الصعداء بعد فوز الرئيس ماكرون، ما يؤمن استمرارية الدور الفرنسى الوازن فى الاتحاد الأوروبى وفى حلف الناتو معاً. لكن يبقى أن تمدد اليمين فى فرنسا يوازيه أيضاً تمدد لليمين فى العديد من الدول الأوروبية، وإن بدرجات مختلفة، كإيطاليا وألمانيا وهولندا والمجر وغيرها، الأمر الذى يفرض على الاتحاد الأوروبى تحديداً مراعاة كل الانتقادات التى يوجهها اليمين الفرنسى والأوروبى لأداء الاتحاد؛ من قبيل فرض سياسات جماعية قد لا تناسب مجتمعات أوروبية معينة، ومعالجة التناقض الموجود بين ترسيخ هوية أوروبية جماعية على حساب الهويات القومية لكل دولة على حدة، ومراعاة الفوارق الاجتماعية الكبرى بين الطبقات الأوروبية وبعضها البعض فى كل بلد على حدة.

ولعل الإصلاحات التى تحدث عنها الرئيس ماكرون للاتحاد الأوروبى سواء فى انتخابات عام 2017 والانتخابات الأخيرة تكون أكثر مراعاة لتلك القضايا الإشكالية، مع بحثها بعمق مع كل الدول الأعضاء.

وإن تمت تلك الإصلاحات فى منظومة الاتحاد الأوروبى ككل، فقد يتراجع الصعود اليمينى والعكس أيضاً صحيح. وفى كل الأحوال هناك عبء وتحدٍ بارز يصعب التملص منه.

إصلاحات الاتحاد الأوروبى ليست نهاية المطاف، فهناك تحدى إعادة بلورة سياسة فرنسية تناصر السلام والمساواة والأمن المتوازن للجميع فى النظام الدولى، ومراعاة مصالح القوى الدولية الصاعدة بالتوازى مع مصالح الدول الغربية تحت المظلة الأمريكية.

صحيح أن الرئيس ماكرون حاول أن يقوم بأدوار وساطة بين الرئيس بوتين والرئيس الأوكرانى زيلينسكى من أجل وقف إطلاق النار والمساعدة فى بدء مفاوضات لإنهاء الحرب، لكنه فعل ذلك وهو يفرض عقوبات على روسيا تتصاعد بين يوم آخر، وهو جعل الجهود السياسية الفرنسية محدودة التأثير، وينتفى عنها صفة الحياد المطلوبة فى أى لاعب دولى يتجه إلى وساطة فعالة فى خضم صراع محتدم.

ونظراً للدور الفرنسى الرئيسى فى التكتل الغربى المناهض لروسيا، فمن الصعوبة بمكان أن تتحول دفة المواقف الفرنسية عما هى عليه الآن، اللهم إلا إذا تكثفت الضغوط الاقتصادية على الفرنسيين والنابعة من فرض العقوبات على روسيا، وبما يجعل هدف إنهاء الحرب وتسوية سلمية متوازنة أمراً لا مفر منه، وهو ما يتصادم مع التوجه القوى الذى تدعمه واشنطن ولندن الداعى إلى استمرار الحرب وعزل كامل لروسيا. وهنا يبرز تحدٍ آخر يتعلق بالموازنة بين مطالب الفرنسيين الأساسية، وبين ضغوط استمرارية الحرب.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – الوطن-



مقالات أخرى للكاتب

  • النيجر وتحدي الطامعين في أفريقيا
  • الغرب بين هزيمة روسيا والقبول الاضطرارى بها
  • الحوار الوطني في مصر... أسئلة تبحث عن إجابات





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي