فضيحة حداثية: باريس 2023 تمنع كتابا أدبيا
2023-08-03
أمين الزاوي
أمين الزاوي

هي مزحة أم حقيقة؟

يحدث هذا في فرنسا بلد فولتير وفيكتور هوغو وبودلير ولامارتين وزولا ولويس ألتوسير وميشيل فوكو.

حين تقرأ بأن باريس تمنع تداول كتاب أدبي، وهو عبارة عن قصة للفتيان، تقول بينك وبين نفسك: لم يكن على خطأ الجغرافي والرحالة المغاربي الأندلسي الشريف الإدريسي (1111 والمتوفى حوالى عام 1166 أو 1175)، صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، حين رسم أول خريطة للعالم فجعل بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط في الشمال والشمال في الجنوب، برؤية الإدريسي فموقع فرنسا هو الضفة الجنوبية!

هل عادت فرنسا وهي تمنع كتاباً أدبياً موجهاً للفتيان إلى موقعها الجغرافي والفكري والسياسي في الجنوب على نبوءة الشريف الإدريسي؟

ظلت باريس في مخيال المثقف الشمال أفريقي والشرق أوسطي صورة لحرية الفكر وحرية التعبير وساحة للأدب بكل تياراته الجمالية واللغوية والفلسفية، لكن شيئاً ما يتحرك بهذا البلد فيسحبه نحو الخلف.

نعم يحدث في باريس أن يمنع وزير الداخلية جيرالد دارمانان تداول كتاب أدبي بعنوان "حقاً صغير جداً" Bien trop petit للكاتب مانو كوس Manu Causse  منشورات "لاردور"، باريس 2023، والكتاب الممنوع هذا هو نص أدبي موجه للمراهقين الفتيان، يتحدث عن مجموعة مراهقين في حمام مشترك ومن بينهم فتى يملك عضواً جنسياً صغيراً ومشوهاً، وحول هذه القضية يبني الكاتب أجواء قصته.

يمنع وزير الداخلية الفرنسي هذا الكتاب الأدبي بحجة أنه يتناول موضوع الجنس، والكتاب موجه للفتيان المراهقين، ونحن نتساءل: هل الثقافة الجنسية بكل وسائطها المرئية أو المسموعة أو المكتوبة أو المرسومة غائبة عن المجتمع الفرنسي كبيره وصغيره؟

هو أمر يدعو إلى السخرية فعلاً ولكن للتأمل أكثر، وهل سينفع هذا المنع في الحد من انتشار الكتاب أم أنه سيزيد من ترويجه أكثر وتلميع اسم الكاتب؟

حين يمنع كتاب أدبي تخييلي في باريس 2023 فاعلم أن أمراً ما غريباً يحصل في بلد عرف منذ عصر الأنوار بأنه فضاء لحرية الإبداع وللأدب الحر والفنون المطلقة بكل طبوعها وفلسفاتها، هل يدرك وزير الداخلية بأن زمن محاكمة غوستاف فلوبير عن روايته "مدام بوفاري" ولى، وأن زمن المكارثية غرب، وأن عبارة زولا الشهيرة "إني أتهم" لا تزال ترن في أسماع المثقفين والمبدعين؟   

أليس المجتمع الأدبي الفرنسي في عصر التنوع والاختلاف وحرية الرأي من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين من ميشال ويلبك مروراً بأميلي نوتومب وغيوم ميسو ويان موا وكريستيان سينيول؟

هل نسيت فرنسا ووزير الداخلية بأن العالم في الشمال يعيش زمن نهاية خرافة المنع الأدبي، ربما هذا المنع لا يؤثر كثيراً في مسألة تداول الكتاب ولكنها سابقة خطرة تفتح الباب على كل احتمال مشين ثقافياً وعلى كل التوقعات السلبية على حرية التعبير.

بهذا التصرف المتمثل في منع كتاب أدبي، هل بدأت باريس تقترب سياسياً في سلوكها حيال الكتب وحرية الكتابة وحرية التفكير من سلوك بلدان العالم الثالث سياسياً التي لطالما هاجمتها الصحافة والسياسة كلما منع كتاب في الجنوب؟

إنه تصرف "عالم - ثالثي" في بلد ظل إلى وقت قريب يمارس مثقفوه وسياسيوه حق النقد الواضح لظاهرة القمع والمنع وتكميم أفواه مثقفي ومبدعي بلدان الجنوب، الذين من دون شك لا يزال كثيرون منهم يعاني ذلك.

حين أتأمل رمزية هذا المنع الذي طاول نصاً أدبياً، منع يجيء من وزارة الداخلية، أشعر بأن هذا مؤشر على انهيار القيم الكبرى التي تأسس عليها المجتمع الثقافي والأدبي المتنوع في فرنسا، بل هو مؤشر على انهيار قيم كانت تمنح فرنسا خصوصياتها الاجتماعية والجمالية والعمرانية والأخلاقية السلوكية في العالم الأوروبي.

لقد اقتربت فرنسا من العالم الثالث كثيراً تقلصت المسافة كثيراً، شأنها شأن إسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان، إذ أصبحت أقرب إلى الجنوب منها إلى الشمال.

منع كتاب أدبي في فرنسا ليست مسألة عابرة أو من أخبار المتفرقات الثقافية، إنه مؤشر تحول خطر في حرية التعبير وحرية الرأي الجمالي.

يوماً بعد آخر أشعر بأن الشمال ينزل نحو الجنوب، وأن الرحالة والجغرافي الشريف الإدريسي لم يكن مخطئاً في رسم خريطته ووضع البلدان بهذا الشكل أهل الشمال في الجنوب. ربما كان استشرافياً، لكن السؤال الجوهري للإدريسي: هل فعلاً سيصبح الجنوب شمالاً؟ ونعني بالشمال عصر الأنوار والتفتح ونظام العمران واحترام حرية التعبير واحترام حرية المعتقد؟

لا تزال أمام الجنوب معركة كبرى كي يصبح شمالاً، لكن بالنسبة إلى تحول الشمال جنوباً فهناك بوادر تشير إلى ذلك، فما رسمه الإدريسي سهواً أو خطأ بدأ يحصل في الثقافة وفي السياسة وفي الدين في بلدان الشمال التي أضحى بعضها من خلال بعض المظاهر أكثر جنوبية من أهل الجنوب.

ومن علامات ذلك أن أصبح الأوروبيون من أصول إسلامية مغاربية أو شرق أوسطية أو آسيوية أكثر تمظهراً وتشدداً في الدين من أبناء الجنوب الأصليين الذين شبعوا تديناً وشبعوا من خطابات الدعاة النجوم، فبدأوا في التحرر من المظاهر والعودة للإيمان الهادئ الصادق البعيد من التسييس والتطرف والقريب من الاعتدال ومن الله الجميل.

اليوم تركب طائرة قادمة من باريس متجهة نحو إحدى بلدان الجنوب فلا تجد فيها أي شيء يوحي بأنها قادمة من بلد موليير وستندال وبول فيرلين وموباسان وأندريه برتون وسان جون بيرس ومارغريت دوراس ورامبو وفيكتور هوغو وبلزاك ومارسيل بروست وصموئيل بيكيت وبراسانس والجبن والنبيذ والسينما والموضة والعطور أو جاك بريل أو نيتشه أو بيتهوفن، وتنظر من حولك في المسافرين والمسافرات فتشعر وكأن الرحلة قادمة من بلد شرقي أو أفريقي إلى بلد شرقي أو أفريقي.

منع كتاب أدبي في باريس ليس حدثاً عابراً، كان كلما منع كتاب لكاتب في بلد من بلدان الجنوب تتسابق دور نشر فرنسية على ترجمته ونشره وهذا جيد، نتذكر ما حدث لرواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري، إذ نشرت بالفرنسية وظلت ممنوعة في لغتها الأصلية العربية طويلاً.

كلما منع كتاب أو حوصر الكاتب إلا وتسابقت وسائل الإعلام الفرنسية على الترويج له بندوات وحوارات وتحقيقات وهذا جيد أيضاً، وهو ما حدث مع رواية "التطليق" لرشيد بوجدرة التي ظل ينظر إليها بكثير من الريبة والنفور.

لكن حين تصبح باريس هي من يمنع الكتاب الأدبي، هل ستتجرأ دور نشر في بلداننا على نشر ممنوعها هذا؟ هل ستحتل بلدان الجنوب موقعها كما رسمها الإدريسي؟

هل نحن قادرون فعلاً على تنظيم حوارات وندوات عن هذا الكتاب الممنوع دفاعاً عن حرية التعبير وحرية الجمال؟

مع ذلك ولأن منع كتاب أدبي في باريس بلد فولتير وسارتر وسيمون دي بوفوار وجاك دريدا وجورج باطاي، البلد الذي احتضن بيكاسو وجورج سمبرون وكونديرا وغيرهم من المنفيين والملاحقين في بلدانهم، فهناك مقاومة شرسة ضد هذا القرار من نقابة الناشرين ونقابة الكتاب وجمعية المكتبيين والجامعيين، تجمع على إدانة هذا المنع الذي سيرفع من منسوب حضور قوى الظلام ويوسع من دائرة "الحلال والحرام" بمفهومها السياسي والديني والأدبي.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • صواريخ الأنتلجنسيا الشمال-أفريقية بعيدة المدى
  • النخب الجزائرية والكتب الملعونة
  • أن تكون كاتبا حرا في العالم العربي!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي