الشاعر والروائي والناقد عبدالناصر مجلي لـ«26سبتمبر اليمنية»: أسسنا جماعة الغد الأدبية في اليمن كله قبل الوحدة

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-09-22

عبدالناصر مجلي شاعر وقاص وروائي وناقد، عضو اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين، واتحاد الأدباء والكتاب العرب، أسس جماعة الغد الأدبية قبل قيام الوحدة اليمنية المباركة عام 1989م.
عمل في الحقل الصحفي ورأس تحرير عدة صحف كان آخرها صحيفة «الأمة» التي أسسها في الولايات المتحدة الامريكية.. صدر له عدة دواوين شعرية أهمها: عرق حنا، سيرة القبيلة، السيرة الرملية للفتى البحر، كما صدرت له عدة روايات ومجموعات قصصية كان آخرها رجال الثلج، وجغرافية الماء، تم اختيار بعض من مؤلفاته الشعرية والقصصية كمواد للتدريس في جامعة صنعاء، كما ترجمت بعض من أعماله الى عدة لغات: انجليزية، فرنسية، اسبانية، سويدية وغيرها.. «26سبتمبر» التقته وناقشت معه عدة محاور، وحلقت في سماء ابداعه والذي سنتابعه من خلال هذا الحوار:

حاوره: عبده درويش

> عادت جماعة «الغد» الأدبية بقوة الى المشهد الثقافي في بلادنا.. بصفتك رئيس هذه الجماعة وصاحب الفكرة لتأسيسها.. أخبرنا كيف كانت البداية؟
>> الأمر يعود الى بدايات عام 1989م، حيث تشاورت مع بعض الزملاء في ضرورة إنشاء كيان ثقافي يمثلنا، نظراً لأن أبواب اتحاد الأدباء كانت مقفلة في وجوهنا آنذاك ربما لحداثة تجربتنا أو صغر سننا، وقد قوبلت الفكرة بترحيبي بالغ من الزملاء الذين كانوا -وأنا معهم- يبدأون أولى خطواتهم في عالم الكتابة والإبداع والفن التشكيلي والموسيقي والشعر الغنائي، وأبرزهم الشاعر محمد عبدالوهاب الشيباني، الشاعر المرحوم أحمد شاجع رحمه الله، الشاعر عبدالوكيل السروري، الشاعر الغنائي محمد السقاف، الشاعر محيي الدين جرمة، الشاعر سلطان عزعزي والناقد كمال صلاح سالم البطاطي، القاص محمد سعيد سيف، الشاعر هائل الغابري، الشاعر المرحوم عادل البروي رحمه الله، القاص محمد عبدالوكيل جازم، الشاعر عبدالرحيم الاديمي، وقد تمت في صيف نفس العام عملية إشهار الجماعة بطريقة ديمقراطية، أي عبر الانتخابات في منزل الزميل الشاعر والناقد كمال البطاطي، وبذلك قمنا بتأسيس أول جماعة أدبية مستقلة في اليمن كله حتى أيام التشطير، ولم تكن هذه الجماعة ولازالت تابعة لجهة رسمية أو حزبية حتى يومنا هذا.

صرخة جيل

> ما هي الأنشطة التي قامت بها الجماعة بعد تأسيسها والاعلان عنها؟
>> قامت الجماعة فور الاعلان عن نفسها، بالاشتغال على عدة أمسيات شعرية، في جامعة صنعاء، وبرعاية كريمة من استاذنا شاعر اليمن الكبير الاستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح الذي فتح أمامنا قاعات الجامعة لإقامة أنشطة الجماعة فيها، وكذلك قمنا بعمل عدة أمسية في بعض أندية العاصمة.. والأهم من ذلك أن شاعر اليمن الكبير المرحوم الاستاذ عبدالله البردوني تحمس لجماعتنا وقبل دعوتنا لإقامة أمسية شعرية له في منزل الاخ كمال البطاطي، كذلك قامت الجماعة باستضافة الشاعر والناقد العراقي الكبير زاهر الجيزاني، وكذلك الشاعر العراقي سهيل نجم، والشاعر الفرنسي الشهير عالمياً «سيرج سترو» وغيرهم الكثير.. لكنني أريد إخبارك أن قيمة الجماعة لم تتوقف على نشاطها فهذا أمر مفروغ منه، لكن الحقيقة التي استطاعت الجماعة ترسيخها آنذاك واليوم وغداً وإلى ما شاء الله، هي قيمة انبعاثها من العدم والجفاف الثقافي والشلل الابداعي الذي وصم تلك الفترة، ولذلك فلا تستغرب لو أخبرتك أن جميع أعضاء جماعة الغد الادبية لم يكن لهم آباء بالمعنى الثقافي للكلمة، فقد خرجنا جميعاً من قفص الإنكار وعدم الاعتراف بنا كجيل بدأت يومئذٍ أجنحته بالتحليق في فضاء أكاد أٍقول معادي، يحكمه كهنة أيديولوجيين بغيضون أكل الوقت عليهم وشرب، ولذلك أطلقنا صرختنا الكبرى في وجه الجدب الذي كان يحيط ليس بالجماعة، بل وبالمشهد الثقافي والابداعي عموماً، تلك الصرخة التي لايزال صداها يتردد بنفس القوة والوتيرة حتى الآن، والتي مهدت وأسست عبر مداميك قوية وصلبة وراسخة لجيل التسعينيات المبهر والمتميز والمغاير على كافة الاصعدة الثقافية والابداعية ليبدأ بعدها الزحف الخلاق لهذا الجيل، بطريقة تكاد تكون غير مسبوقة، ولم يشهد الوسط الثقافي والابداعي لها مثيلاً من قبل، وهاهم جياد الضوء التسعيني يملأون فضاء وبصر اليمن والعالم العربي، والعالم الغربي عبر الترجمات التي تمت الى أشهر اللغات الحيَّة، الفرنسية، الانجليزية، الايطالية، الاسبانية، السويدية، الروسية، الألمانية...الخ.
لقد كانت مغامرة مبهرة لم تتوقف حتى يومنا هذا، ولعل ما يشعر المرء بالفخر به ونحن نتذكر في هذه المقابلة تلك البدايات، اننا كنا في جماعة الغد ومجايليها، أول من أسس مفهوم النأي بالابداع والثقافة عن مفهوم التبعية الايديولوجية أو السياسية، ذلك لاننا لم نكن في حاجة لأدبيات مصنعة تُملي علينا ما لا حاجة لنا به، فقد كنا ندرك ونعلم علم اليقين ما هي أهدافنا وطموحاتنا والى أين نريد أن نصل داعين في نفس الوقت الى ضرورة الالتفات الى تجذير مسألة الابداع والثقافة الوطنية الواحدة لليمن الواحد قولاً وفعلاً بعيداً عن الاطر الحزبية والايديولوجية التي كان اتحاد الأدباء واقعاً تحت تأثيراتها المدمرة لأي مفهوم إبداعي أو ثقافي، وليس من الضروري أن ألفت عنايتك الى أن هذه الدعوة كانت قبل قيام الوحدة المباركة.

تمرد في محله

> جماعة «الغد» مسمى أخترتموه لهذه المؤسسة الابداعية والثقافية الشاملة.. ماهي دلالة هذه التسمية والغد الذي ترمز له؟!
>> دلالتهما واضحة في مسماها، فقراءة سريعة وحصيفة ومحايدة للتاريخ الذي تم إشهارها فيه، تجعل المراقب يدرك أن بلادنا- وهنا أتحدث عن الثقافة والابداع- كانت تمر بمأزق حضاري رهيب ومعيب، فلا كتب تطبع الا في النادر البعيد وعلى نفقة المبدع نفسه، ولا مؤسسات رسمية أو أهلية تهتم بالمبدع والمثقف وهمومه، وغياب اتحاد أصيب بشلل عقيم عن أداء دوره التنويري، وتحول عوضاً عن ذلك الى مقيل دائم للقات، والى نفقات تصرف في غير أماكنها المفترضة، وباستثناء دور أ.د. عبدالعزيز المقالح -حفظه الله- والاستاذ عبدالله البردوني -رحمه الله- في التواصل مع الخارج والداخل كان المشهد الثقافي والابداعي في كلا الشطرين آنذاك ميتاً لا حياة فيه، لذلك أتت تسمية الجماعة ب«الغد» كصرخة رفض وإنكار لذلك اليوم الذي كنا نعيش فيه ولا يعيش فينا، بكل دربكاته المحبطة والمثيرة للأسى والحزن والأسف، لقد تمردنا على يومنا واستشرفنا الغد، وقد كان تمرداً بتوفيق من الله ثم بفضل إصرارنا، في محله زمانياً ومكانياً وتاريخياً وإبداعياً، وها هي النتيجة ماثلة أمامك في مشهد إبداعي هائل يمور بكل جديد ومختلف ومثير للإعجاب والفخر لقد نادينا بالغد، فأشرقت شمس الوحدة الخالدة، ونادينا بالغد فحدث الانفجار العظيم في كون الابداع والثقافة اليمنية، ونادينا بالغد ووصلنا بعون الله اليه، هذا الغد الذي يعمل بصيغة الفعل المضارع المستمر.
 

من تخاطبون؟
>> نخاطب اليمن كل اليمن من أقصى حدود صعدة الى نهايات سقطرة، ومن أبعد نقطة في تهامة الخير الى آخر ذرة رمل تطل على بحر العرب.. نخاطب اليمن الانسان والتاريخ والحضارة.. نخاطب كل قطرة دم أُريقت في سبيل إشراقة ضحى الثورة والجمهورية والاستقلال ودفاعاً عن الوحدة التي هي بالنسبة لنا قدر إلهي لا ينبغي التفريط به مهما كانت الظروف وقساوتها وعدوانيتها، فهي هبة ربانية عظمى يجب أن نحمد الله سبحانه وتعالى عليها.

تلبية النداء

> من خلال وتيرة تحرك الجماعة يبدو لي أن ثمة مشاريع قادمة ستقومون لها إن شاء الله.. ما هي.. وما العقبات التي تواجهكم أو قد تواجهكم لتنفيذها؟
>> المشاريع كثيرة ومتعددة ومتنوعة وهي مشاريع محكومة بظروفها وزمانها وإمكانية القيام بها، أي أنها مشاريع تنقسم الى قسمين: أولاً مشاريع تتحكم وتدفع بها وتدفع اليها ضرورات ملحة ومستعجلة باستعجال تنفيذها في أحسن صورة وأكمل اخراج، ونحن هنا نتمثل رؤية صانع الوحدة وحاميها بإذن الله، القائد الرمز والانسان فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية -حفظه الله- الذي ما أنفك ببصيرة المؤمن بقدرة أبناء شعبه على صنع المستحيل، وحكمة الرائي، الذي يرى بحكم مسؤوليته وموقعه وقراءته للمستقبل بعين الربان الحصيف الذي علمته التجارب متى يتدخل لإنقاذ السفينة من مخاطر الإبحار، بضرورة أن يبادر المبدع والمثقف لأخذ مكانه الذي يفترض أن يكون فيه وأن يملأه، للمشاركة الأساسية في المحافظة على مكتسبات الأمة والدفاع عن ثوابتها كلّ من موقعه، ذلك أن رؤية الرئيس صالح لمجمل المشهد اليماني عموماً والمشهد الثقافي والابداعي بشكل أدق، هي التي جعلتنا نقرأها جيداً ونفهمها كما ينبغي، وعليه فقد لبينا النداء كما هو مفترض كفنانين وكمبدعين وكمثقفين، ونحن اليوم نعد العُدة لندوة كبرى للاحتفاء بأحد أعلامنا ورموزنا الكبيرة، التي شكلت علامة فارقة في تاريخ الثقافة والإبداع والفن في بلادنا وأعني هنا الاستاذ والمناضل الكبير والفنان القدير محمد مرشد ناجي، حيث نتطرق في هذه الندوة إن شاء الله الى محاورٍ عدة في تجربته الابداعية الطويلة -أطال الله عمره- سواءً كمناضل أو كفنان أو كإنسان، وهنا لا أنسى أن أتمنى على فخامة الرئيس -حفظه الله- أن يولينا رعايته واهتمامه ودعمه حتى تخرج هذه الفعالية إن شاء الله بصورة تليق بقامة الاستاذ المرشدي، ومن خلال معرفتي الشخصية بالوالد الرئيس أظنه لن يتأخر في تلبية أمنيتنا هذه، خصوصاً وفخامته حريص كل الحرص على ضرورة الاهتمام بالمبدعين وإعطائهم حقهم الذي يستحقونه.
أما على مستوى المشاريع التي تعتمد على استراتيجية النَفَس الطويل فهي تلك المشاريع التي سنعتمد فيها إن شاء الله على فتح نوافذ متعددة على جهات وزوايا مختلفة داخلياً وخارجياً، وسيتم التحدث عنها في حينه بمشيئة الله.

إحتفاء بالمرشدي

> تتحدث هنا عن ندوة كبرى كما قلت عن الفنان الكبير الاستاذ محمد المرشدي.. ما هي محاور هذه الندوة ومن هم أبرز المشاركين فيها؟
>> في الحقيقة محاور متعددة تحاول الاقتراب من تخوم جغرافية المرشدي أطال الله عمره قدر الإمكان، ولعل أبرز هذه المحاور دون ترتيب: الثورة اليمنية «سبتمبر واكتوبر، الجمهورية، الاستقلال، الوحدة في فن المرشدي» المرشدي مناضلاً وإنساناً، المرشدي بعيون عربية، السياق التاريخي لأغنية الارض والانسان في تجربة المرشدي، البعد القومي في أغنية المرشدي، إضافات المرشدي للأغنية اليمنية والخليجية، المرشدي رائداً في التجديد الغنائي في اليمن والخليج...الخ هذه المحاور، لكن دعني أخبرك أن أبرز الشهادات التي نسعى للحصول عليها هي شهادة فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية -حفظه الله- والتي أعتقد بأن فخامة الرئيس لن يضن بها على فنان الشعب المرشدي، رغم كثرة مشاغله، وقد خططنا لتكون شهادة متلفزة ستكون في حال حصولنا عليها إن شاء الله درة الملتقى لأنها شهادة من مناضل جسور هو الرئيس نفسه، ناهيك عن معرض للصور، نعرض من خلاله مسيرة المرشدي الحافلة بكل ما هو متميز ورائع، بالإضافة الى كتاب سيجمع بين دفتيه كل الاوراق والشهادات المتعلقة بالندوة والذي يتحمل نفقة طباعتها مؤسسة «14 اكتوبر» بعد موافقة الاستاذ أحمد الحبيشي على طباعته، وهذه مبادرة نكبرها في الاستاذ الحبيشي الذي لم يتردد لحظة واحدة عندما طلبنا منه ذلك، فله كل الشكر والتقدير، وكذلك سيكون هناك فيلم وثائقي مدته خمس عشرة دقيقة نسلط من خلاله الضوء على حياة فناننا الكبير.

المشهد الثقافي

> أنت مبدع متنوع في الكتابة، فأنت تكتب الشعر والقصة والرواية، والنقد من خلال وجودك في قلب المشهد الثقافي، كيف تصوره لنا.. وما هي العقبات التي تعيق تقدمه.. وما الذي ينقصه؟
>> المشهد الثقافي في بلادنا بشقيه الثقافة والابداع، مشهد متين لجهة مخرجاته وأعني هنا المشهد الإبداعي على وجه الخصوص، فعلى الرغم من وجود مؤسسة كوزارة الثقافة أو غيرها لا تهتم بهذا الكيف الكبير في الإبداع الذي يُنتج كل يوم وكل ساعة إلاّ أن المبدع اليمني لايزال يواصل دوره في ظروف قاسية وظالمة وغير محايدة، ربما لقلة امكانيتها مما أنتج ثقافة الإنزواء والتقوقع في المشهد، وهذه إشارة خطيرة، فالإبداع موجود، لكن لا يتم الاهتمام به كما تفعل تلك الشعوب المتحضرة التي تحترم وتخدم مبدعيها وتقدرهم وتقوم على رعايتهم، ولا أعني هنا المؤسسات الرسمية في تلك الشعوب، بل المؤسسات المدنية والاهلية والخاصة ان المبدع اليمني يعاني مرارات كثيرة، رغم تميزه وتفوقه على الكثير في محيطنا العربي، فإذا لم تهتم الدولة بهذا الفارس المجهول، فإنما بقصد أو بغيره تقوم بالتخلي عن فارس هي في أمس حاجة اليه للمشاركة في الدفاع عن مقومات الشعب والجماهير، كون هذا المبدع هو خط الدفاع الأول عن هوية الأمة وثقافتها وترمومتر حساس لمدى جاهزية هذه الأمة أو هذا الشعب للانخراط الحضاري والمعرفي والابداعي والانساني، في ركب التحضر والرقي والسعي الجاد نحو أبواب المستقبل وطرقها بقوة وثبات وحداثة حقيقية، وحدها الحكومات الأمية معرفياً هي التي لا تهتم بمبدعي شعبها ووحدها الشعوب التي تعاني من تذبذب في الرؤية من تتجاهل أهم أسلحتها في هذا العصر، ألا وهو الانسان المبدع والخلاق.
أما أبرز العقبات وأهمها على الإطلاق التي تواجهها الثقافة اليمنية إجمالاً على كافة الاصعدة، عقبة عدم وجود استراتيجيات حقيقية وشجاعة وطموحة في سبيل خلق آفاق ورؤى إبداعية ذات مخرجات ثورية تحلق بآفاق هذا الشعب إلى ذرى التقدم والرقي.. إننا في اليمن بحاجة الى صناعة ثقافية كبرى تتقدم بالبلد الى الأمام بخطوات مدروسة وتعرف إلى أين تريد الوصول.. وما هي عدة وأدوات الطريق التي يجب علينا السير فيها، وفي رأيي اننا تأخرنا كثيراً في هذه المسألة مقارنة بجيراننا على الأقل، وقد يقول قائل: إن المال هو المشكلة، وأنا أقول إن المال لم يكن مشكلة، فأصحاب المشاريع العملاقة والرؤى الثاقبة لا يكون المال حتى وان كان قليلاً مشكلة، المشكلة تكمن في أننا لم نعد نملك العقلية المغايرة التي تتعامل مع الموجود وتصنع منه وبه ما لا يخطر على بال، ونحن لا نعاني أزمة سيولة نحن يا سيدي نعاني أزمة في ندرة العقول الخلاقة والمستبصرة والطموحة القادرة على التغيير ومخاطبة العصر باللغة التي يفهمها وليس بلغة الضحك على الذقون، وهنا أتحدث عن العقول التي أصيبت بالعته المعرفي، إما لأنها تعيش خارج العالم، وإما لأن العالم قد سبقها بمئات السنين الضوئية، وهنا أتساءل لمصلحة مَنْ تغييب العقل اليمني الذي عُرف عبر التاريخ بأنه عقل جميل ومبدع ومتميز وحكيم، والشيء الذي يصيب المرء بالقهر أن هناك من ينعق بأن كل شيء تمام وعال العال.والحقيقة أن كل شيء ليس تمام وليس عال العال، فعلى من نضحك سوى على أنفسنا، وأعني هنا الوسط الثقافي تحديداً.

دور المثقف

> في ضوء ما قلته هل قام المفكر والمثقف المبدع اليمني بدوره في التصدي لهذا الانهيار إن جازت التسمية؟
>> نعم وبالقدر الذي يستطيع.. فأنت بجواري تقوم بهذا الدور، وأنا بالإجابة على أسئلتك بصدق ودون عملقة كاذبة أقوم بهذا الدور، والصحيفة التي ستنشر هذا الحوار إن نشرته تقوم بدورها، وكذلك القارئ الذي يشعر أن هذه الأسئلة والإجابات تفيه ولو بمقدار شعرة، يقوم هو أيضاً بدوره، وهكذا في تصاعد متواتر الى أقصى نقطة يمكن أن يصل اليه بقدر تقبل آراء الناس وإنتقادهم وإختلافهم يكمن التنوع الذي نطمح اليه، وهو ذلك التنوع الجمعي الواعي بظرفه وزمنه وحاجته وموقعه، وليس ذلك التنوع العبثي الذي يولد ثقافة الإقصاء والإلغاء والكراهية والتربص بما لم ينزل الله به من سلطان.
المبدع والمثقف والمفكر اليمني كائن شجاع تسكنه روح التضحية والإيثار، لكنه في المقابل كائن مثخن بالجروح وبتحطم الآمال، ومع ذلك لايزال يقاوم في بسالة نادرة وشجاعة ليس لها مثيل.. انظر حولك، من المسؤول عن هذا التردي الاعلامي والثقافي في بلادنا الى درجة يكاد المرء أن يقول فيها أن الأمر مقصود، طيب لصالح مَنْ ولماذا وما هو الثمن الذي قبضه لنصل الى هذا الدرك العميق، من التكتل الفئوي والمذهبي والمناطقي والسياسي والايديولوجي والثقافي؟! الوقت لم يعد في صالحنا وشمعة الأمل توشك على الانطفاء في النفوس الخيرة والمحبة لهذه الارض العظيمة بناسها وتاريخها وموروثها الذي لا يوجد له نظير في مختلف بقاع الارض.
إني أقرع ناقوس الخطر، فالهوية التي تحدث عنها في سؤالك بدأت بالتآكل وإذا لم نتحرك قبل فوات الأوان، فالطوفان قادم.. هل هناك من يسمعنا حقاً؟!

رد الاعتبار للإنسان

> حسناً من وجهة نظرك كروائي وشاعر وناقد على تماس عميق مع المعطى الثقافي عبر تفاصيله المتعددة.. ما هو المشروع الحضاري ثقافياً الذي يجب أن يُطرح على المستوى اليمني والعربي للخروج من هذه الأزمات الفكرية مثل: الشتات، تجزيء المجزأ، الارهاب، الغلو، التطرف...الخ؟
>> هذا سؤال يا صديقي يحتاج الى الأمة بأكملها للإجابة عليه.. لكنني سأقول رأيي المتواضع كفرد من أفراد هذه الأمة وهو يجب رد الاعتبار الى الانسان العربي، والى العقل العربي،و الى الثقافة العربية، والابداع العربي، فقد ضُربت هذه المقومات الانسانية والحضارية ضربات موجعة وقاتلة عبر قرون طويلة من التخلف، مما أنتج هذه المسميات التي لم تكن موجودة حتى وقت قريب.فبدون الحرية كخيار، وبدون المغايرة المبنية على قيم الأمة الحقيقية والوسطية والمعتدلة، فعلينا أن نهيئ أنفسنا المزيد من النكبات والسقطات والأزمات الى ما لا نهاية.

النقد بحاجة إلى ثقافة

> ماذا عن النقد.. هل هو موجود أم مفقود؟
>> لا موجود ولا مفقود، لأنه في حال طُرح علينا سؤال كهذا الذي طرحته حضرتك يجب علينا أن نفكك كلمة «نقد»، كلغة، وكمعنى، وكقيمة، وللأسف ما فوق الشديد -ضاحكاً- إننا حتى هذه اللحظة لا نكاد نمتلك الأدوات المعرفية الحقيقية للاقتراب من حل سؤال كهذا، فما بالك بالتنظير له.
يا عزيزي إن أوروبا وأمريكا على سبيل المثال لم يصلا الى ما وصلا اليه الا عبر قرائح مفكريها، لسبب بسيط ان الانسان هناك مخلوق حر كامل الصلاحيات البشرية، من كرامة وحقوق وحرية، فالفكر والنقد على النقيض تماماً من معاول اللاحرية واللاكرامة، واللاحقوق، وما نشهده في وطننا العربي الكبير من اشتغال على »النقد» ما هو إلّا اشتغال على قشوره نظراً لأن الناقد العربي لايزال محاصراً بأعوان لا حدود لها من الممنوعات والمحظورات...الخ، لذلك فما يقوم به ما هو في الحقيقة الا نقد شفهي وليس نقداً استقرائياً، فالعملية الاستقرائية تحتاج الى خلق ثقافة استقرائية تخوض فيما وراء العادي والسهل والمكرر، والأهم من ذلك خلق ثقافة التجريب الذهني والمعرفي على مستوى الفرد والمجتمع في آن واحد، وهذه الإمكانات لا يمتلكها المفكر والناقد العربي.. فكيف نطالبه بخلق المستحيل وهو بالكاد لا يأمن على نفسه ورزقه ولقمته.

خطاب مبتز
 


> كيف تنظر الى الخطاب الموجه من قِبل النخبة المثقفة هذه الأيام في ظل ما نرى ونسمع من أصوات تنادي بالانفصال علناً؟
>> أولاً اسمح لي بالاعتراض على فقرة من سؤالك «النخبة المثقفة» فهذه أول مرة اسمع فيها وجود «نخبة مثقفة يمنية»، فإذا كان الشرط التاريخي عند أغلب المفكرين على اختلاف أيديولوجياتهم هو شرط التغيير عند أي نخبة كانت، فهنا يسقط شرط المعنى اللغوي والمعرفي في هذه ال«النخبة المثقفة» التي أتت في سياق سؤالك، فشرط التغيير على عدة مستويات: دينية، ثقافية، فكرية، سياسية.. الخ، هو شرط إجباري لجهة خلق وضع ثقافة المفكر في التغيير بصفته الموجبة وليست السالبة، وما يحدث في بلادنا يجعلني أشير بأصابع الاتهام العشر الى هذه ال«نخبة المثقفة» التي حشرت نفسها في دائرة التواطؤ الأعمى التي لا تدرك قيمة اللون كقيمة رمزية، مما أفقدها مزية التفريق بين الألوان، فصارت من وجهة نظرها لوناً واحداً لا تستطيع هي نفسها تفكيكه وسبر أغواره ومعانيه، وعندما فقدت معنى الاحساس باللون أولاً وقيمة الايمان برمزيته ثانياً صارت تسبح في سديم رخو وثقيل يعيق من حركتها وقدرتها على التمييز والتمايز، وبذلك فقدت القدرة على الايمان بأدنى الشروط المفترضة لفهم مايجري حولها، ولتصل تالياً وقد وصلت بجدارة شيطانية الى نقطة اللاقيمة لأي شيء، وبالتالي فالوطن مجرد كلمة والفتنة فرصة مجانية لفرجة وحشية كلية للمشاهدة والثابت متحول والمتحول ثابت، وهكذا إذاً لا توجد نخبة مثقفة كتلك التي كتبتها، بل توجد نخبة مستذئبة لا تؤمن بأي شيء ولن تصل الى شيء سوى التيه والسراب الذي تظنه بعماها ماءً لكن الحقيقة غير ذلك.

أما الانفصال الذي يجأر البعض من عصابة «النخبة المثقفة» وأعوانها وأحلافها ومريديها، ما هو الا شماعة مهترئة تحاول من خلاله الابتزاز السياسي وأصحاب المشاريع الوطنية والثقافية الجادة والمخلصة والخالية من الشوائب.. لكنها فشلت وستفشل.. أتدري لماذا؟ لأن كلمة الانفصال على جرأتها اللفظية ومحاولة تثبيتها على الواقع.. الحقيقة مؤكدة وهي ليست كذلك، ما هي في حقيقتها وتركيبها اللغوي، مجرد خطاب متشنج وعصابي لا جذر له حتى على أرض الواقع، ولا يوجد إلا في عقليات لفظتها معطيات تاريخية وزمانية ومكانية وثقافية لا تقبل القسمة على اثنين، ذلك ان جذرها التربيعي وأعني هنا المعطيات، جذر تربيعي صحيح غير قابل للقسمة أو للكسر أو الجمع والطرح، إذن الانفصال كمفردة من أعلى صعود لها تتمثل أمامنا كخطاب مشوش وغير مستقيم وغير منضبط، يحتاج الى خطاب مضاد يمتلك معطيات استباقية متزنة وواعية، تواجهه بهدوء وحذر ومهادنة ثم تقتحمه وتقوم بتفكيكه من الداخل وتفجيره تالياً.. المرعب الذي ألاحظه أن الخطاب المرجو الذي نعول عليه لمواجهة الخطاب المتشنج والأعمى الخطاب الانفصالي لايزال ضعيفاً وليس بالصورة المطلوبة والمرجوة لمواجهة خطاب تدميري كهذا الذي تجأر به في وجوهنا ال«النخبة المثقفة» ليل نهار، أرجو وقفة تأمل جادة ومسؤولة حول هذه المسألة، فالمثل اليمني الحكيم يقول: «مخرّب غلب ألف عمّار».

الولاء يبدأ من الأسرة

> كيف ننمي الولاء الوطني في نفوس وسلوك الأجيال القادمة؟
>> ننمي الولاء الوطني في نفوسنا جميعاً دون تحديد سن أو فئة معينة، وذلك عندما يشعر الجميع أن هذا الوطن بيت للجميع، وأن لهم حقوقاً وعليهم واجبات، وبغير ذلك سنفقد الوطن، وإذا فقدناه فسوف نفقد أنفسنا، لأن الوطن هو نحن ونحن الوطن، وهو السقف العالي الذي نحتمي به، وبدون استراتيجية ثقافية كبرى تبدأ من البيت وتنتهي في قمم الجبال مروراً بكل سكان هذا البيت دون تمييز أو تجاهل أو إنكار أو إقصاء أو إلغاء، وبدون ذلك فلا تستغرب أن يأتي جيل ينظر الى هذا الوطن «البيت» كمجرد فندق أو لوكندة شعبية لا تعنيه من قريب أو بعيد، ولا أخفيك انني استشعر هذا الخلل بشكل واضح وإن كان لايزال في بداياته، ولأن لكل بداية نهاية كما يقولون، فعلينا أن نبدأ بإسراع الخطى نحو الانتقال إلى مفهوم تنمية هذا الولاء المنشود من خلال الاهتمام بالانسان وبحقوقه وعيشه وكرامته وحريته التي بدأت تختل أو أن هناك من يحاول الإخلال بها، هل تدري ما الذي أوصل الصومال الى ما هو عليه الآن؟ الشعور المسموم الذي تغذيه المظالم القاهرة بأنه لم يعد في نظر بعض أبنائه سوى مأزق حاول الجميع التخلص منه فوقعوا في براثنه. 

  المصدر : صحيفة 26سبتمبر - عدد الخميس 10 سبتمبر 2009 العدد 1469








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي