نوافذ سينمائية.. الفردية وعزلة الذات في تجارب المخرجين

2021-10-02

 البحث عن الخلاص وسط العزلة

طاهر علوان*

من منطلق كون فن الفيلم نوعا من الفن الجماعي الذي يحشد ممثلين من أعمار ونزعات وتوجهات وأهداف مختلفة، فقد صار ذلك عنوانا لمتعة خالصة لجمهور عريض اعتاد على نظام النجوم الذي يقدم في كل مرة طائفة من الممثلين البارعين والمختلفين.

لكننا خلال ذلك لا نكاد نتوقف كثيرا عن القصدية التي يلجأ إليها مخرجون آخرون وهم يجعلوننا وجها لوجه مع الذات المعزولة وخاصة في إطار نسقية الممثل الواحد الذي عليه أن يملأ وقتنا ببراعة وأن يقدم أقصى ما عنده من قدرات تعبيرية خلال أحداث الفيلم، وهو ما سوف نلاحظه في تلك البراعة القائمة على الموازنة الدقيقة بين الحوارات الخارجية والديالوغ الداخلي وتيار اللاوعي والأفعال المصاحبة المسؤولة عن موازنة كل ذلك في نسقية تعبيرية متناغمة وواحدة.

هل نتذكر القصة الطويلة أو النوفيلا الشائعة والأكثر انتشارا التي كتبها فرانز كافكا بعنوان “المسخ” ونشرت عام 1915، لنشاهدها بعد أكثر من مئة عام من خلال فيلم يحمل الاسم نفسه للمخرج كريس سوانتون؟ إنه البطل غريغور سامسا الذي يفيق وقد انمسخ إلى حشرة ضخمة وعليه أن يلملم مشاعره الأكثر ذاتية من أجل أن يخرج من المأزق الذي هو فيه.

 فيلم مصنوع بعناية وحرفية عالية

ربما يكون هذا المثال هو الأكثر قسوة وقوة تعبيرية عن الذات المعزولة التي تقع أسيرة أسباب وجودها الذاتي وشبه انفصالها عن المجتمع الذي تعيش فيه، وبالتالي تبحث عن خلاص ما وسط صعوبات جمة تعترضها أثناء محاولة التفاعل مع المحيط من جراء الانمساخ والعزلة القاتلة، وفي ذلك معالجة سينمائية تحمل الكثير من إشكاليات الوجود المعزول المرتبط بالشخصية وهي تبحث لنقسها عن أفق ما.

في المقابل سوف نتذكر الممثل توم هانكس في فيلم “المنبوذ” (2000)، لكنه فيلم يجسد محنة الشخصية بعد الكارثة وخاصة بعد حادثة سقوط طائرة، وهنالك أيضا أفلام مثل “القمر” (2009) و”127 ساعة” (2007) و”كل شيء مفقود” (2013) و”المدفون” (2000) و”الركض الصامت” (1972) و”كارغو” (2018) و”الحارس (2001) وغيرها كثير.

يطرح فيلم “أوكسجي” موضوعا مكملا لمثل هذه القصص الإشكالية، حيث يقدم حبكة ممتعة بإخراج متقن عن النزاع من أجل البقاء حتى الرمق الأخير. والفيلم الذي أخرجه الفرنسي ألكسندر آجا من نمط الأعمال المعتمدة على البطل الواحد، وهو الشابة ليز التي تجد نفسها بعد استيقاظها من سبات عميق وحيدة داخل كبسولة فضائية.

هذا الفيلم المصنوع بعناية وحرفية عالية تقوده من بدايته إلى نهايته شخصية واحدة وهي ليز هانسين (الممثلة ميلاني لورون) التي تبدأ المشاهد الأولى لها وهي تحاول أن تخرج من غشاء سميك يغلفها بالكامل وبالكاد تتمكن من إخراج وجهها لكي تتنفّس، لكنها سوف تكون مقيّدة ومضطجعة في مكان ما محاط بالشاشات والبيانات الرقمية.

إنها ببساطة لا تتذكّر ولا تعلم من هي؟ ولماذا هي محتجزة بهذه الطريقة في ذلك الصندوق الرقمي المتطور أو تلك الكابينة الرقمية؟ فتشعر بالحيرة والهلع، وأول ما سيصدمها أنه لم يبق هناك الكثير من الأوكسجين لإبقائها على قيد الحياة وأن وسيلتها الوحيدة هي الحوار مع روبوت صوتي هو ليو، لكنّه يعجز عن الإجابة عن كل أسئلتها.

ينجح المخرج وقبله كاتبة السيناريو كريستي ليبلانك في زجّنا في ذلك التداخل في البناء السردي المتقن القائم على فكرة حلّ لغز الوجود الذاتي المجهول والمحاط بالعديد من الأسئلة، لاسيما وأن الروبوت ليو سوف يكشف عن صور ليز في مراحل مختلفة من حياتها، وبذلك نغرق في احتمالات شتى تتعلّق بمصير ليز، أهي مختطفة وهو ما ظنته للوهلة الأولى؟ هل هي تحت الأرض؟ هل هي أسيرة مؤامرة؟

في فيلم “بين النجوم” سوف يعيد الإنسان المغامر عبر الفضاء سيرته الأولى محتارا في أمر الكواكب والمجرات فيما هو يخوض المهمة منفردا، وهو الذي اندفع إلى المضي في المهمة إلى النهاية وكأنه اندمج عقليا وجسميا مع المجرات وصار مجرّد ذرّة هائمة في الفضاء الفسيح.

ربما نكون أقرب إلى قصيدة عميقة وحس إنساني مؤثر، خاصة مع اعتراف الأب بتقصيره تجاه ابنه وأمه وانشغاله بأبحاثه في الفضاء، وهو اعتراف متأخر للغاية زاد الابن إحباطا ومع ذلك جدد حبه لوالده.

واقعيا لم تكن القصة السينمائية حافلة بتحولات كثيرة ولا بالتصعيد الدرامي الكافي، ولهذا تم التركيز على الشكل السينمائي وتعميق دلالات وجماليات الصورة، فضلا عن السرد الفيلمي القائم على استذكارات الماضي.

وهناك مثال آخر هو فيلم “العريشة” حيث الشخصية الرئيسية في هذا الفيلم هي إيثان (الممثل درو ماتيوز)، وبمجرد النظر إلى هذا الشاب شارد النظرات والمنطوي على نفسه ستستنتج أنك أمام شخصية إشكالية. على أن بناء شخصية إيثان يُختصر في عزلته النفسية ووحدته وشعوره بالقلق وهو ما يتسرّب حتى إلى علاقته بشقيقه شين، وهو في ذلك يحاول إشراكه في ذكريات بعيدة ثم محاولة إشراكه في اكتشاف ذلك الكائن. لكنه لن يجد لدى شقيقه حماسا لذلك تتفاقم عزلته.

 

  • كاتب عراقي مقيم في لندن

 








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي