الحصالة المثقوبة

2021-11-25

عمرو حمزاوي

في سكون، تجلس الآن في غرفتها.

تجول في عينيها بعض مشاهد سنواتهما معا. تقاومها، تحاول أن تلقي بها بعيدا عنها، غير راغبة في اجترار الذكريات، لا مرّها الكثير ولا حلوها الأقل. ليذهب هو وذكرياته إلى الجحيم الذي لا يستحق سواه. غير راغبة هي في إضاعة المزيد من الوقت مع من مدت له يدها لكي تنتشله من دوامات حياته، فأغرقها معه لسنوات ولم تنقذها منه غير يد القدر الرحيمة، التي صنعت من أمر صغير أزمة كبيرة وختمت الفصل الأخير في علاقتهما بكلمة «افترقا».

في سكون، تجلس الآن في غرفتها.

يأبى النوم أن يأتي، ويأبى شريط الذكريات أن يتوقف. تستسلم ..

جاءت إليه باحثة عن حب حقيقي وأمان يدوم، وفعل هو الكثير ليدخل إلى قلبها الظنون ويشككها في قيمة الحب ويحرمها من الأمان. أحبته وأرادت عمرا طويلا معه. تمسكت به، على الرغم من حمله الثقيل وإرهاق علاقتها معه ونصائح أصدقائها بالابتعاد عنه. أحبته، ومعه عشقت نكهة قهوة الصباح ورائحة النهارات المشمسة هنا في هذه الغرفة وهناك على حافة شرفة البيت. أحبته، ولفترة غير قصيرة أسعدها القرب منه وأرضاها قليل الحب والحنان الذي أعطاه لها. إلا أنه لم يتوقف عن العزف على أوتار الأنا المعذبة، والاختباء وراء هوية الضحية، كلما عجز عن الوفاء بعهوده لها وتعامى عن احترام حقوقها ورغباتها. كانت تلك هي أسلحته التي أشهرها دوما في وجهها، وبها برر أنانية أفكاره وأفعاله. اعتاد غلق الأبواب والهجر السريع عندما كانت تطالبه بالوفاء بعهوده، وبمنحهما مستقبلا واضح الملامح. وفي لحظات عودته حرمها من يقين الصدق والإخلاص والصراحة.

فعلت كل ما بوسعها لكي تحتويه وتهدئ من روعه.. غفرت له خطاياه، سامحته على غلق الأبواب والهجر، صبرت عليه، ضمته محبة وحانية في كل مرة عاد إليها. انتظر منها أن تحبه كشريكة حياة وخليلة وأخت، وكأم تغفر الخطايا جميعا لثقتها في الخير الكامن في وليدها. انتظر منها كل ذلك، وفهمت هي احتياجه إليها لكي يسكن قلبه بعد تجاربه الماضية. وهو؟ هو أدرك أنها أيضا تحتاج بعد اضطراب طفولتها وشبابها ومع صعوبات حاضرها إلى أمان محب يخلص ويصون ويرعى كشريك حياة وصديق وأب وأخ لا يرحل ولا يسارع إلى الهجر. تعلم أنه كان ينظر إلى داخلها ويرى احتياجاتها وأحلامها، دون سحب تحجبها. كان ينظر إلى داخلها ويكاد يصنع من ضياء الكون مصباحا يقشع به العتمة التي اختزنها قلبها في رحلة حياتها من قبله. تعلم ذلك يقينا، فتلك كانت الومضات التي أظهر بها قليل الحب والحنان الذي اكتفت به خلال سنواتها الماضية. غير أنها تعلم أيضا أنه لم يفعل شيئا حقيقيا بما نظر إليه ولم يخلص لما رأى. لم يكن لها مكان في دواماته سوى كامرأة مستتبعة، عليها أن تتخلى عن احتياجاتها وأحلامها هي.. كان عليها أن تقبل إلغاء ذاتها باسم الحب وأن تتناسى أمانها لتعطيه هو أمانا يرجوه، هو المعذب بلا نهاية وبلا أمل في الخلاص، لأنه يقبض راضيا على جمر شتاته الذي صنعته يداه، ولم تصنعه أقدار تآمرت عليه، هو الذي أخذ ولم يعط، وطلب الاحتواء وامتنع عن منحه، وانتظر أن تمد له يدها وتنتشله كلما أغرقته خطاياه وتركها وحيدة في لحظات ضعفها وحزنها وأشاح بيده بعيدا عنها، وبعينيه بعيدا عن دموعها التي افترشت الأرض في انتظار أن تحنو عليها صديقتها المقربة، أو أن يلملمها من اختارته أخا عطوفا.

أي نوع من الرجال هو؟ من أين أتت قسوته؟ كيف يمكن لمن تعلم أنه نظر إلى داخلها أن يتصرف هكذا؟ أي حب هذا الذي زعم شعوره به تجاهها؟ هل أحبها عندما ألقت بها موجات الحياة بالقرب من دواماته أم تشبث بها فقط لكي تنقذه بعد أن انفض الآخرون من حوله وتركوه بمفرده يصارع الأنانية وأوهام الذات المعذبة وخيالات الضحية الأبدية؟ كان يقول لها جادا إن لديهما تعويذة سحرية للبقاء معا، وكانت ترد ضاحكة، أن البحر الذي يعشقان أمواجه ابتلع تلك التعويذة وأعادها الحوت إليهما في هيئة حصالة، كتب عليها تاريخ لقائهما الأول، حصالة تدخر الوعود والأحلام والأفعال، وتختزن ذكريات ما يمر بهما، سعادة وحزنا وأمانا وقلقا ويصهرهما معا كحبيبين حتى تبلغ رحلة العمر منتهاها. لم يكن بحوزتهما سوى هذه الحصالة المشتركة التي كان يفترض أن تمتلئ بالحب على تقلباته، وبالحياة بحلوها ومرها ويستبدلها لهما الحوت بين الحين والآخر بأخرى أكبر وأبهى إلى أن يفرق بينهما الموت.

أحبته بإخلاص وألقت بكل بما لديها في الحصالة، لتدرك مع مرور الوقت وتكرر الخطايا والسطوة المفزعة للأنانية، أن حصالة علاقتها معه كانت ومنذ اللحظة الأولى مثقوبة. كم من مرة رحل وتركها وحيدة تواجه ظروفا بالغة القسوة والصعوبة؟ متى توقف عن أن يتخلى عنها في مواقف احتياج مؤلمة؟ متى قدم احتياجاتها أو أحلامها أو رغباتها ولو لمرة واحدة خلال السنوات الماضية؟ كان يرحل وتنتظر هي عودته، كان يتجاهل، وترفض هي التخلي عنه وعنهما، كان يتعامى عن أن يراها وتراه هي في شتاته بعيون المحبة الحانية والعطوفة. غير أن الحصالة المثقوبة أنضبت معين حبها له وجردتها من الحنان الذي جعلها تصبر عليه طويلا. أي نوع من الرجال هو؟ من أين أتت أنانيته المريضة؟ متى توقف قلبه عن الحب الحقيقي واستبدله بركض لا يتوقف خلف شتات حياته، وببحث مآله الفشل المحتوم عن ظل امرأة تقبل أن تعطيه قلبها دون مقابل وترضى الاستتباع وهي صاغرة؟ تتذكر الآن حديثه معها عن الحب الكبير الأول في حياته، وعن الكلمات الأخيرة لحبيبته قبل رحيلها الصامت حين طالبته بأن يستكمل الكثير المفقود في حبه لها لكي يشعرها بالأمان.

هذا هو أيضا جوهر حكايتها معه، المفقود في حبه. المفقود هو التجرد والعطاء والإخلاص والتحرر من أنانية الذات، المفقود في حبه هو الأمان. والنتيجة الحتمية الوحيدة هي حصالة علاقاته المثقوبة وشتاته العصي على التغيير، ودوامات حياته التي أبدا لن تنتهي، وما كان لحبها أن ينقذه منها مهما طال صبرها وكثرت محاولاتها.

في سكون، توقف شريط الذكريات. في سكون، أغلقت عينيها على الزائر الذي حل أخيرا بعد طول تمنع. في سكون، غفت متمنية أن تعود النهارات المشمسة في غيابه وأن تستمتع بنكهة قهوة الصباح بعيدا عنه.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي