الفيلم يقدم نموذجا للعلاقات الإنسانية السامية رغم حالات الصراع

"حي المنازل".. روائي سوري يحكي عن مرارات الحرب من سطوح دمشق

2022-04-23

"حي المنازل" فيلم سوري روائي طويل يحاول جمع شتات مجتمع مزقته الحرب (موقع الفيلم)نضال قوشحة*

تدور أحداث الفيلم السوري الجديد “حي المنازل” في قلب مدينة دمشق مكان الحدث وزمانه في وقت ملتهب تعصف فيه على المنطقة العربية متغيرات سياسية واجتماعية كبرى كانت في بدايات عام 2011. حيث تتصارع فيه قوى الخير والشر وتظهر ملامح عصر جديد سيحفل بالكثير من الأحلام والمواجع والألم.

في الفيلم تتشابك مصائر أفراد أسرة مع مصائر أشخاص آخرين بشكل عنيف يولد صراعات اجتماعية حارة لكنها مكبوتة وصامتة بانتظار لحظة تأزم لتنفجر وتطلق صوتها الجهوري المنادي بالرغبة في التحرر من ظلم وقعت تحته أزمانا طويلة. لا تحضر السياسة في الفيلم بشكل واضح، لكنها موجودة كحاضن ومولد للأفعال التي يقوم بها البعض وتشكل المزاج العام لمعظم شخوصه.

علاقات متشابكة
يتناول “حي المنازل” قضايا اجتماعية تخص شخوصا محددين ينتمون إلى مجتمع بسيط من صغار حرفيي دمشق، فتحضر في الفيلم شخصيات اجتماعية نراها في كل حي وشارع، فنجد شخصية الرجل اللعوب الذي يتقلب شكلانيا في نمطين متناقضين واحد متحرر وآخر متعصب. ويظهر المتشدد الديني الذي يمثل تيارا معروفا بما يحمله من أفكار ودلالات وعلى التوازي تظهر الأنثى المحرومة من أبسط حقوقها والتي ما زالت إلى وقتنا الراهن تعتبر بنظر البعض سلعة جسدية يمكن التحصل عليها بنزوات أو بمسالك خاصة، هذه المرأة التي يتراوح مصيرها بين كونها زوجة أو محظية لأحد المتنفذين والتي تدفع دائما ثمن أخطاء الآخرين.

وإلى جانب هذه الشخوص تظهر الفتاة التي تحاول فك قيودها وممارسة حياتها بالشكل الذي ترغب فيه في عصر الانفتاح والفضاء والإنترنت وتحلم أن تكون منسجمة مع فتيات جيلها، لكن خصوصية اللحظة التي تحاصرها تجعلها فريسة للبعض، وتدفع ثمنا غاليا وراء انجرافها وراء تلك الأفكار. وتكون أكبر الخاسرين بين شخوص الفيلم.

السياسة لا تحضر في الفيلم بشكل واضح، لكنها موجودة كحاضن ومولد للأفعال التي يقوم بها البعض

الفيلم مأخوذ عن رواية “أطلال أم كلثوم” للكاتب فيصل خرتش الذي سبق وكتب رواية “تراب الغرباء” التي حولها المخرج السينمائي سمير ذكرى إلى فيلم سينمائي حمل العنوان ذاته وكان يتحدث عن المفكر النهضوي عبدالرحمن الكواكبي وأدى دور الكواكبي فيه بسام كوسا. لكن خرتش يذهب هذه المرة نحو الزمن المعاصر. وأعد سيناريو الفيلم سامر محمد إسماعيل في تجربة سينمائية جديدة له مع المؤسسة العامة للسينما. أما الإخراج فكان للسينمائي غسان شميط الذي يقدم فيلمه بعد “ليليت السورية” وهو سادس أفلامه الروائية الطويلة

قدم الفيلم أنموذجا للعلاقات الإنسانية السامية والتي يمكن أن تشوه من قبل المجتمع. فكان ذلك من خلال علاقة شخصين خرجا توا من عالم الطفولة، لكنهما ما زالا يعيشان في تجلياته. فالفيلم أوجد خطا شفافا، يكمن في علاقة شبه طفولية تنشأ بين يافع وامرأة شابة كتب القدر لها أن تكون زوجة صغيرة لأحد الرجال المتشددين.

كلاهما لم يغادر مساحة الطفولة البريئة وكلاهما ينظر إلى لأمور الحياتية من خلال الحب والشفافية، فاليافع يخرج في كل يوم إلى سطح بيته ليشاهد دمشق في كل حالاتها، ليلا ونهارا في البرد والحر، وهو متعلق بهذه المساحة التي يطمئن من خلالها على مدينة يحبها. والفتاة الحالمة تشاركه بعض نزواته البريئة في تعاطي الدخان أو تأمينه لها خلسة. لكن هذا التناول الشفاف لا يجد نفعا في زمن مضطرب، يحمل في تفاصيله غليانا اجتماعيا حارقا سيجعل من المستحيل على يافع حالم أن ينسجم فيه مع هيامه العاطفي، فيسحق تحت أقدامه.

مسرح الأحداث في الفيلم بيت دمشقي قديم لحرفي بسيط يقوم بصناعة البوظة التقليدية من الحليب. رمزية اللون الأبيض تحمل دلالة على صميم قلوب هؤلاء وما يحملونه تجاه مدينتهم وحرفتهم. فالأسرة كلها تعمل في صناعة البوظة البيضاء والتي تباع في محال شعبية تحمل دلالة الماضي الممتد إلى الحاضر وتمسك بعض الناس بها، رغبة منهم في ترجمة حبهم لمدينتهم بصناعة البوظة التي تحمل اللون الأبيض، حتى لو حمل هذا التمسك ظلما للبعض من الأبناء بمنعهم من الدراسة ليتعلموا هذه المهنة ويحافظوا عليها.

كذلك يحضر نبض التراث في الفيلم من خلال وجود بعض أحداثه في سوق الحميدية. وهو أكثر أسواق دمشق عراقة بسبب موقعه الملاصق للجامع الأموي ولقدمه وشكله المغطى المميز ولكونه أكبر أسواق دمشق. فسوق الحميدية شهير بتقديم البوظة العربية التقليدية التي يحرص الناس على تذوقها كلما ارتادوا ذلك السوق، خاصة بالنسبة إلى الأغراب الذين يأتون من مناطق بعيدة.

تجارب في السينما
ضم الفيلم عددا من الفنانين السوريين منهم زهير عبدالكريم الذي قدم سابقا فيلم “نجوم النهار” مع المخرج أسامة محمد الذي يعتبر أحد أهم أفلام السينما السورية وحقق نجاحات على منصات التتويج السينمائية، ثم قدم مع غسان شميط بعد سنوات فيلم “الشراع والعاصفة” ويقدم في ثالث تجاربه السينمائية فيلم “حي المنازل”.

يقول عبدالكريم عن ذلك “السينما فن جميل وعالم فيه تكثيف، أحب العمل في السينما وأنا شغوف بهذا الفن النبيل، وأعتقد أن هذا الفيلم سيقدم حالة من الفن السينمائي الراقي، فالحكاية التي يتضمنها تقوم على أحداث حياتية مأخوذة من قلب ما عشناه”.

أم سالم هي الفنانة رنا جمول التي قدمت أدورا لا تنسى في السينما، منها “رسائل شفهية” عبر شخصية سلمى، وقدمت لاحقا العديد من المشاركات في السينما السورية ويشكل وجودها دائما حضورا خاصا. ويظهر محسن غازي ليقدم شخصية محمد شمة دورا سينمائيا جديدا، وهو المسرحي القادم من مسارح حلب، كذلك يشارك يوسف المقبل وعدنان عبدالجليل ومحمد فلفلة وميلاد يوسف في دور مميز ومتلون. ومن الوجوه الشابة علا الباشا ودلع نادر ومارسيل جبيلي وميخائيل صليبة وأمير برازي وعبدالسلام غيبور وطارق الشيخ.

قلوب بيضاء وحياة بسيطة مهددة

عادة ما يعالج غسان شميط الذي درس السينما في أوكرانيا وتخرج فيها عام 1982 الواقع الاجتماعي في أفلامه، فمنذ فيلمه الأول شيء ما يحترق 1993، قدم مجتمع النازحين السوريين من منطقة الجولان المحتل والظروف التي يعيشون فيها في مناطق نزوحهم، وتابع ذات التوجه في فيلمه الثاني “الطحين الأسود” 2001 حيث ذهب إلى الأرياف ليقدم واقعا اجتماعيا مأزوما، وثالث أفلامه كان “الهوية” 2007 الذي حاكى فيه مجتمعا محليا يقاوم الاحتلال في الجولان عبر عدة أجيال وحقق به جائزة مصطفى العقاد في مهرجان فجر السينمائي في إيران والجائزة الكبرى بمهرجان تطوان بالمغرب.

وبعده قدم المخرج بيئة اجتماعية ساحلية من خلال فيلم “الشراع والعاصفة” المأخوذ عن رواية حنا مينة التي تحمل نفس الاسم. ثم قدم فيلم “ليليت السورية” المأخوذ عن رواية جهينة العوام “تحت سرة القمر” وتعرض فيه للمجتمع السوري في ضوء مآلات الحرب الحالية، والآن يقدم فيلم “حي المنازل” الذي يطرح تحليلا لواقع اجتماعي معاصر وحار.

ويعتبر شميط نشطا في السينما الوثائقية. حيث قدم فيها العشرات من الأفلام منها “البراعم” عام 1990 وحقق به برونزية مهرجان صفاقس في تونس. وفيلم “ورد وشوك” عام 2003 وحقق به برونزية مهرجان دمشق السينمائي. وحديثا، فيلم “ياسمين شوكي وحكايا من مراكز الإيواء” وحقق عبره تنويها في مهرجان سينما الشباب بدمشق كما أنجز فيلم “الباشا” وهو وثائقي طويل يتحدث عن قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي سلطان باشا الأطرش عام 2014.


*كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي