الأثر الصوفي في شعر عبد الكريم الطبال: فتحتُ عيني على محيط روحاني يأتلف من جوامع وزوايا!

2022-09-03

حاوره: عبد اللطيف الوراري

عبد الكريم الطبال (1931) أبرز مؤسسي الحداثة الشعرية في المغرب وأكثرهم عطاء غير مجذوذ، وأستاذ ملهم، ومثقف من الطراز الرفيع، بقي بعيدا عن مغريات السلطة وقريبا من الإنسان، ولذلك نفهم سر محبة الناس له، وشغفه بالبحث الدائم عن الذات، وفي كل مرة من عروجه الشعري يكتشف أُفقا جديدا ورؤى وعلائق جديدة في نسيج رؤياه. من «الطريق إلى الإنسان» 1971 إلى «رمياً بالورد» 2022، لا يهدأ هذا الشغف العظيم؛ كأن الشعر الداء والدواء في آن.

في هذا الحوار، يحدثنا عبد الكريم الطبال عن البعد الصوفي في شعره وآثاره على بناء القصيدة وعناصر تكوينها الجمالي، وعن الأسباب التي قادته إليه، وإن كان ينفي عن ذاته أنه «شاعر صوفي».

باعتبارك من شعراء جيل الستينيات المؤسس لحداثة الشعر المغربي، ماذا بقي – في نظرك- من هذا الجيل راهنا؟

الجيل الستيني كان كوكبة من الشعراء، حاولت جهدها أن تكتشف أُفقا ورؤى جديدة تتجاوز السائد وتتخطاه. وكانت في ذلك تتأسى بالحراك الشعري في الشرق العربي، خاصة في العراق، ولكنها كانت في الوقت نفسه تتوخى الخصوصية الذاتية في حراكها الشعري. ولذلك، يمكن القول: إن الشعر المغربي إبان هذه المرحلة لم يكن صدى، وإنما كان صَوْتا طالِعا من تربة الواقع المغربي المضطرم، إلى حد أن الشعر عند هذا الجيل كان بلغة السياسة شِعْرا يساريا، من غير أن يرتبط الشعراء تحت خيمة واحدة أو مؤسسة معينة. ومن هنا يمكن القول: إن الشعر الستيني كان نقلة نوعية في مسيرة الشعر المغربي. وجوابا على السؤال، أقول: بقي من الجيل ما يبقى بعد ذهاب البرعم وقد صار وردة، وما يبقى من المطر بعد أن يصير شجرة.

ابتداء من أول أعمالك إلى الآن، هل يمكن القول إننا أمام تكثيف ذاتي ورؤياوي لسيرة عبد الكريم الطبال الذاتية داخل التوتر بين الحياة والموت، الوهم والحقيقة، والسماء والأرض؟

منذ الديوان الأول إلى الآن، أتراوح في شعري وفي تطوافي بين أغوار ذاتي، لا أكتفي بالوقفة هنا دون أن أكون هناك. فحين أكون في الوهم أكون في الحقيقة،  وحين أكون في الخيال أكون في الواقع مُشتتا كريح، مُتفقا مُخْتلفا في الآن، بَحْثا عن شيء غير مفقود، ولكنني لا أدركه وما أدركه أحد. الخلاصة؛ هي أنني مُبْتلى ولا دواء لي مع الشعر إلاه.

والطفل ما حظه من هذه السيرة؟

أكتب عن ذلك الطفل الذي كبر وظل طفلا، والذي شاخ وظل طفلا. وخلال كل هذه المرحلة، ساح وتاه وضل، فكتب عن هذا التيه، إلى أن استضاء بالشمس فكتب عن الإيمان والإحسان. هذه هي السيرة: سيرة إنسان وجد نفسه عاريا في الغابة، ثم خرج إلى الشمس فاستضاء بالنور. وهو كما هو، مختلطٌ بالبدء والوسط والختام؛ أي أن مرحلة النور ليست منفصلة عن مرحلة التيه ومرحلة الشمس، ففيها شيء من هذا وذاك وإن قل.

كان للبعد الروحي الذي تشربته منذ طفولتك، كما الطبيعي الذي فتحت عينيك عليه في أرض مثل شفشاون، أثرٌ واضحٌ في شعره. لِمَ انحزْتَ مُبكرا إلى كتابة الذات ولم تقع في شرك الأيديولوجيا الحزبية الذي وقع فيه بعض مُجايليك؟

بالفعل، فتحتُ عيني على طبيعةٍ أخاذةٍ ومُحيطٍ صوفي يأتلف من جوامع وزوايا، فانجذبت إلى سحر الطبيعة وارتدت مجالس الذكر والتصوف. وأول ما طالعته من الكتب كان «دلائل الخيرات» للجزولي، وديوان الشيخ الحلبي الذي يتألف من نصوص غزلية في مدح النبي محمد (ص). وهكذا أصبح الطفل الذي كنته مُهيأ للتأثر بكل ذلك، واستقبال ما يرد عليه من الانطباعات والواردات المتنوعة، فوجد في نفسه ولا وعيه صدى عجيبا ومُثْمرا، ومَيْلا إلى التأمل والعزلة. إلا أن حدثا بارزا هو الذي حسم إلى غير رجعة في خياري الكتابي؛ ففي عام 1959، وبعد الانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال كما سبق أن ذكرت، وظهور اليسار المغربي، لست أدري ماذا حدث لي، وأنا وقتذاك داخل الزمرة الرومانسية. لقد حدث انشقاقٌ عندي في داخلي، ومن ثمة تغير في مفهومي للكتابة. فتحت عينيّ أكثر على الواقع وخارج الذات، ثم سرعان ما أخذت أمزج أكثر بين الذات والواقع. فقد كنت أتوقع كأي مواطن أن يكون المغرب بعد الاستقلال أجمل. ولكن، مع الأسف، كان مُخيبا للآمال. فالانشقاق الذي وقع في حزب الاستقلال إذن، هو الذي أوحى إليّ بهذا. قال لي: «اِفتحْ عينيك، ليس هذا هو الاستقلال، وليس هذا هو الذي كان يدعو إليه عبد الكريم الخطابي. هذا مغرب آخر!». هكذا انبثقت جراح الذات، فانفصلت الذات إلى ذاتين: ذات في الماضي وذات في الحاضر، واستمرتا في ذلك الاحتكاك إلى أن وقعت النكبة الفلسطينية، وما تلاها من الانهيارات الكبرى في العالم العربي، فقلت في نفسي: كفى، سأعود إلى بيتي الأول، إلى الذات. في الذات رأيتُ، وسمعتُ، وتكلمتُ، وما أزال. وفي الذات وجدْتُني مع: ابن عربي، والسهروردي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار، وشمس الدين التبريزي. قالوا لي: «اِنْزِلْ ضَيْفا علينا»، ونزلت ضيفا عليهم. أستمع إليهم، وقد يستمعون إليّ. وما أزال في هذا المحراب إلى الآن.

هل هذا ما قادك إلى التصوف؟ وفيمَ يمكن للمعرفة الصوفية أن تفيد به الشعر والقصيدة لُغة ورُؤْيا؟

لا أظن أني شاعر صوفي، أو أن شعري من شعر التصوف. فالقضية وما فيها – كما يقال- هي أنني أكتب عن ذاتي وحدها، وهي ذات امتزج فيها ما أعرف وما لا أعرف، والذي لا أعرف أكثر مما أعرف. فكل إنسانٍ عالم كما قال ابن عربي، وكل إنسان مؤمن وإن أنكر ذلك. وشخصيا، في ما أذكر، بدأت منذ الطفولة أميل وجدانيا إلى المحتد الصوفي، فالبيت الذي عشت فيه طفولتي كان يؤهلني للاغتراف من نبع التصوف، أو على وجه الدقة الانتباه إلى الأفق الروحاني. فالأم كانت شيختي وكنت مريدها في البيت الذي كان الزاوية، ثم بعدها ومعها كان الكُتاب الذي سأتخذه وَليي منه أتلقى كلام الله حِفْظا وترتيلا، ثم جاءت معهما وبعدهما مجموعة «دليل الخيرات» التي انتسبْتُ إليها  بميلٍ طوعي حقق لي رغبات شعورية من دون أن أدرك بواعثها أو مقاصدها. وبعد ذلك في فترة لاحقة من زمن جامعة القرويين، سألتقي هناك في مكتبتها العامرة  بأولئك الذين قدموا من المهجر، وفي مقدمتهم جبران خليل جبران الذي قرأ عليّ (المواكب) فتبعت مواكبه، ثم آخرون وآخرون. لذلك – رُبما- كنت إلى الآن تحت سطوة هؤلاء، وإن انفردْتُ وحدي في صومعتي الصغيرة. ومع كل هذه التلمذة، ليس شعري شعرا صُوفيا في ما أظن، وإنما شعر إنسان يعيش في الأرض.. ينظر إلى روح السماء.

وأضيف أنني بعد الزوايا الثلاث: البيت، الكتاب والأدب المهجري، سيُضاف إلى ذلك زاوية أخرى هي: المعرفة الصوفية أو الثقافة الصوفية التي تلقيتها من منابع الصوفية من الأعلام الأقدمين عبر النصوص في كتبهم، وفي مقدمتها نصوص ابن عربي والحلاج والبسطامي وآخرين. فمن خلالهم انتقل وعيي إلى  إدراك ما كان غامضا عليّ من قبل، وإنْ بقدر يسير لا يستوعب كل الغوامض التي لا تحصى. وما زلت إلى الآن في زاوية هؤلاء أتعلم الحروف الأولى، في الزاوية التي أساتذتها كثر وفيهم الجهابذة والأحبار وذوو الحدس العالي. وحسب تصوري، فالثقافة الصوفية أو المعرفة الصوفية أفادت الشعر العربي لُغة ورُؤْيا، بحيث إن أثر النفري والبسطامي وابن عربي والحلاج بادٍ للعيان. فأدونيس هو الذي ـ رُبما- بدأ شعرا مع الثقافة الصوفية بعد مرحلة مهيار الدمشقي، وكان تأثره بالنفري في رحلته الشعرية الثانية واضحا وضوح الشمس، حتى إن المجلة التي أصدرها باسمه الخاص سماها «مواقف» إيحاء من كتاب «المواقف والمخاطبات» المعروف للنفري. أما التلاميذ الكثر الذين اتبعوه هنا وهناك، فكان التأثر بادٍ حتى للقارئ العادي غير المُلم.

نجد التصوف والصوفية في كل مكان وعلى كل لسان، ألا تتفق معي في أن حتى النزوع الصوفي صار من الموضات التي يتعاطاها الشعراء اليوم عن تهافت وجهل؟

يبدو لي الآن أن التأثر بالثقافة الصوفية في الشعر العربي الحديث كان لُغويا مَحْضا، ولا يزال ينقصه الحدس الصوفي الذي عرفه الإمام الغزالي فقال: «إنه نورٌ يقذفه الله في القلب»، ولذلك، لا تعثر فيه رغم جمالياته على هذا النور الذي تعثر عليه عند ابن عربي، أو عند جلال الدين الرومي مثلا. ويبدو لي كذلك أن اللغة في الشعر الصوفي حتى عند الكبار، ظلتْ عاجزة عن التعبير عن الرؤيا، فلم تتجاور حد الرؤية. فأنت إذا قرأت الآن «ترجمان الأشواق» لابن عربي  ستدرك أن الشاعر لم يستطع أن يُفجر اللغة في شعره، أو أن يرتفع بها إلى مستوى الرؤيا، فظل حبيس اللغة السائدة، أو ظل مُرددا للغة الرؤية التي هي لغة امرئ القيس وعنترة، فتصوفَ في شعره بلغة الغزل، وقد أدرك ذلك بعدئذٍ فاضطر إلى كتابة مصاحبة للديوان يشرح فيها ما كان يريد أن يقول. وهذا ديوان «البستان» لسعدي الشيرازي لم يستطع هو بدوره أن يرتفع بلغته إلى الرؤيا، فاقتصر على لغة الكأس والدالية وهو يقصد غيرهما، وكأني به استعار أو اكتفى بلغة أبي نواس. وأظن أن أي لغة كانت هي للعالم الأرضي وحده، فإذا شاء الشاعر أن يتحدث عن العالم الآخر اضطر إلى الاستعانة بلغة العالم الأرضي. ومنذ وقت قريب، كنت أقرأ في كتاب «الإنسان الكامل» لعبد الكريم الجيلي، وهو يتحدث عن  الجنة في العالم الآخر فيقول: «ما الجنة إلا القرب من الله، بينما النار هي البعد عنه». وفي ظني كذلك أن النثر الصوفي هو الشعر الصوفي الحق، فكتبٌ مثل: (المواقف والمخاطبات)، و(فصوص الحكم)، و(المثنويات)، و(منطق الطير) هي من الشعر وإليه، وكذا الشطحات وقصص السهروردي وسواها من النظائر.

ومن أجل أن يطمئن إيماني بالروح الكلية التي تستقطب الوجود، وتتغلغل في الكون، وتسري في لباب الحياة، كان لا بد لي وأنا أُحاصَر بالمبهم في ما أحس وفي ما أحدس، في الممكن واللاممكن، أن أشك وأن أسأل وأن تثيرني الدهشة.

يشعر قارئ أشعارك بانحيازك الصافي إلى الذات، وأنت تنشد في الكتابة الدائمة تأكيد الميثاق بالعروج والغوص على قدر القدرة، هل لهذا الانحياز وشيجة بالرؤيا التي كان ينشدها المتصوفة داخل محرابهم الذي سكنت إليه؟

من المؤكد أنني منذ أن كتبت القصيدة الأولى عقدت مع الشعر ميثاقا يشبه ميثاق القيثارة مع النوح أو ميثاق الفراشة مع النار، إن انجرحتُ انجرح، وإن انتشت انتشي، فأناي أناه وسواي سواه. ومع كل كتابةٍ لاحقةٍ كنت أنشدُ دائما تأكيد هذا الميثاق بشبق الغواية وجنون الجذب، فأعرج مرة – وأنا في حضرة الكتابة – إلى سماء بعيدة علني أنصعق ذات دهشة بومضٍ يشع من شبح يشبه جسده القمر الغامض السابح هناك، وقد أغوص في بحر قصي علني أرى في الأعماق صورة تشبه روحه النورانية الشفيفة فأثمل حتى الجنون. وكنت في كل العروج والغوص أرحل أو أسافر من تراب الزمان إلى هواء السرمد، فكأنني ما هُيئت إلا لهما معا. وهكذا هم أهل الشوق والمكابدة لا إقامة لهم، فهم دَوْما في سفر مستمر إلا لأخذ النفس بين نهاية وبداية. وكما يقول ابن عربي: «لقد يسر الله لكل إنسان في هذه الدنيا مهنة ما عدا أهل الذوق فهم كالذرات في النهار منتشرون منتثرون. وهم كالكواكب في الليل طوافون سابحون حول الحبيب القمري الخد، لا مهنة لهم سوى السبح والسباحة والتسبيح ولا شيء آخر». ولعلني وأنا أنشد في الكتابة الدائمة تأكيد الميثاق بالعروج والغوص على قدر القدرة، كنت أنشد في الوقت نفسه غايتين اثنتين، هما:

البوح، فالقصيدة أساسا من أجل أن أبوح بما يضج في السريرة من صخب لا ينتهي، وبما يمور في ضمير الكون من أصداء وتموجات وبما يعتمل في سويداء الحياة من أسرار ومكنونات؛ فكم من أصوات سرية وجهيرة تختلج في روح الطبيعة، بعضها قديم قدم الوجود، وبعضها جديد جدة المستقبل. وقد نميز بينها حشرجة الحلاج وهو على الأعواد، وأنين المعتمد وهو بين القضبان، وبكاء لوركا وهو يرى غرناطة تبكي عليه. وكم من تأوهات ومرئيات تتردد في أرجاء المساءات، وكم من صياح وعويل يترجح في أبواب المدائن وفي المساحات المهجورة. ولرُبما كان الشاعر بيننا هو الأرهف سَمْعا، والألطف رُوحا، فيصغي إليها كما يصغي إلى نفسه، فيغشاه الحزن من كل أقطاره ويكابد ولا يسعفه أي شراب ولا أي بلسم سوى البوح وسوى الشكوى وسوى التمرد، وكيف يبوح أو يشكو أو يثور دون القصيدة التي هي لغة الروح، ولغة الأسرار، ولغة الصلاة، وأنى له أن يقبض على جناح القصيدة وهي طائر لا يكف عن التحليق، ولكنه مقدورٌ عليه أن يعرج إلى مقامها، ولو حلقت ما حلقت فعلى الأثر دائما هو يسري وقد يقبض على الظل أو على الصدى فيشفيه ما أدرك من غلة حارقة.

ومن أجل هذا – رُبما- كنت أبحث عنها وأسعى إلى كنفها حتى أبوح، فمن لا يبوح أجدر به أن يظل في سديم العدم أو في بيداء العماء، فالصوت حوارٌ مع الكون، وعناقٌ للعالم وموسيقى الحياة.

السؤال، ومن أجل أن يطمئن إيماني بالروح الكلية التي تستقطب الوجود، وتتغلغل في الكون، وتسري في لباب الحياة، كان لا بد لي وأنا أُحاصَر بالمبهم في ما أحس وفي ما أحدس، في الممكن واللاممكن، أن أشك وأن أسأل وأن تثيرني الدهشة.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي