الروائية ربيعة جلطي: الكاتب المسكون بأسئلة عصره يستطيع أن يطلّ على الغد

2022-10-05

حاورتها: فريدة حسين

«الكاتب الذي يتأمل واقعه بعين مثقف حرّ لا تغشى رؤيتَه سحابة حزب أو زعيم آثم أو ناه، يستطيع أن يرى أبعد. الكاتب المسكون بأسئلة عصره، يستطيع أن يطلّ على الغد»… هكذا اختزلت الروائية والشاعرة ربيعة جلطي قدرة أي كاتب على النظر إلى الأفق البعيد واستشراف المستقبل، وهي التي قالت إن نزوعها لمغامرة التجريب طبع ورثته عن الصوفيين الذين كان لهم السبق الزمني في تحديث الشعر العربي، وأكدت أن الابتكار الحقيقي هو أن تتخطى المعتاد، وتسابق خيالك نحو عوالم غير مسبوقة. وفي هذه المغامرة كما تسميها صاحبة «ترتيب العدم»- لا تكتب عن موضوع محدد من الحياة، بل تجعل الحياة موضوعا في كتاباتها لأنها تتخيل قارئا ذكيا، وعلى دراية بهذا الزمن الدرامي الذي نعيشه، ومستعدا أن يرافقها في رحلة الوحدانية، في مغامرة غير مسبوقة، فهي تؤمن بأن الكاتب الذي يستطيع إنارة أماكن الظل في مخيلة قارئه بهدوء يستطيع أن يوجد له مكانا لديه. هنا نص الحوار معها.

في «ترتيب العدم» الصادر عن منشورات «الاختلاف» في 2022 اقتحمت الهايكو، ما الذي أضافته هذه التجربة لك؟

أومن بأن الحرية هي الشرط الأول للشعر، وأنه فوق الأساليب المتعددة التي ترنو إليه. ولأنه على حد تعبير أبي نواس «الشعر يقرب ما هو غريب» فقد كانت تجربتي مع قصيدة الهايكو اليابانية مبكرة، بدأ شغف كتابتها بعد اكتشافي لما يتماشى مع مزاجي، حين اطلعت على كثير من تراثها القديم والمعاصر، والتقيت ببعض عشاقها وممارسيها عند زيارتي لمنبعها آسيا، خاصة في المكتبة الوطنية في بيغين. لا عجب، فنزوعي لمغامرة التجريب طبع ورثته عن الصوفيين الذين كان لهم السبق الزمني في تحديث الشعر العربي. نشرتُ قصائد الهايكو ضمن مجموعاتي الشعرية، كما أن بعض المواقع الإلكترونية المختصة بالشعر ما فتئت تنشر منتخبات منها على صفحاتها. وإن الجزء الأول من «ترتيب العدم» الصادر حديثا 2021 جاء يتضمن قصائد هايكو تغرف من الفجاج الغريبة في اللاشعور للإنسان المعاصر، حول الحروب الجديدة، والأسلحة الذكية، والإنسان الآلي والنزاعات المقبلة حول امتلاك الفضاء واستيطان السماء، وعن مصير الإنسانية المجهول وغير المؤَمَّن. لا شك في أن العالم يتطور علميا وتكنولوجيا بطريقة رهيبة، إلا أن الشعر كما قال عنه الروائي سيلين Céline، «سيظل مُعلّم العالم».

يرى النقاد أن روايتك «جلجامش والراقصة» محاكاة حقيقية لصراع الحضارات، ما موقع التاريخ في إنتاجاتك الإبداعية؟

لا أراني أكتب عن موضوع محدد من الحياة، بل إنني أجعل الحياة موضوعا في كتاباتي. إنه اختياري، لأنني أتخيل قارئي ذكيا، نبيها، وعلى دراية بهذا الزمن الدرامي الذي نعيشه، ومستعدا أن يرافقني في رحلتنا الوحدانية، في مغامرة مجنونة وغير مسبوقة، فتبدو لي فكرة تبسيطيةً أن أنزع خزعة من جسد التاريخ الهامد، وأضعها في مختبري الروائي لتحليلها ودراستها وتفسيرها وتقديمها له. في رواية «جلجامش والراقصة» يسير الزمن مثل نهر هادر يجري مجنونا حول الأرض منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. يجر تاريخ الأزمنة، والمدن، والحضارات، والحروب، والأقوام، والملوك، والاستبداد، والثورات، والعلماء، والبسطاء، وحكاياتهم الصغيرة في الحب، والغيرة، والحسد، والكراهية، والحيلة، والعشق، والخيانة، والحكمة، والزهد، والصداقة، وفنون الموسيقى، والرقص، وعلوم الفلك، والخلود، وسؤال الموت الذي يسكن الإنسان منذ بدء الخليقة. إنه جوهري في الرواية.

منحتُ جلجامش/يوسف عشبة الخلود، فلا موت ولا فناء، فكيف سيكون الأمر؟ أي مغزى للحياة؟ ما الذي تغير منذ أن كانت العصا امتدادا لذراع الإنسان في قُوتِه، إلى أن أصبحت التكنولوجيا امتدادا لعقل الإنسان في تفكيره؟ أي أسئلة جديدة عويصة عن الوجود والكينونة؟

يتفق معك البعض بنظرتك الاستشرافية في رواياتك، كيف توظفين هذه الرؤية في أعمالك؟

أنا بدوري أتساءل كيف يحدث هذا. فمنذ صدور رواية «الذروة» 2007 التي اعتبرها النقاد منعطفا جديدا في مسيرتي حيث تجديد الأسلوب (تعدد الأصوات Polyphonie – تعدد المواضيع- الفلاش باك- السخرية السوداء…) وفي المواضيع المطروحة ومنها مثلا، (نقد السلطة -هجرة الشباب غير الشرعية عبر البحر- معضلة اليهود الأندلسيين الذين قدموا إلى الجزائر وشمال افريقيا بعد محنة غرناطة – انفجار الغضب وقيام ثورات..). ويظل الأمر قائما لدى القراء والنقاد كلما صدرت رواية لي، إلا ووجدوا لها مقابلا بما يحدث. في «الذروة» التنبؤ بذلك الغضب الشعبي العارم ومسار بعض الأنظمة الاستبدادية نحو الانهيار. ورواية «نادي الصنوبر» كأول رواية تتحدث عن الطوارق في الجزائر، وسبقت غضبهم العارم ضد السلطة المركزية في الشمال. أما «عرش معشق» وهاجسها المركزي هو التسامح الديني المفقود، سبقت الاعتداءات الدموية على الكنائس في مصر.

سأترك للمهتمين حرية التخمين، لكنني أرجع ذلك إلى أن الكاتب الذي يتأمل واقعه بعين مثقف حرّ لا تغشي رؤيته سحابةُ حزبٍ، أو زعيمٌ آمرٌ أو ناهٍ، يستطيع أن يرى أبعد. الكاتب المسكون بأسئلة عصره، من معطيات علم الأنساب الجيني، إلى الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا المعلومات، إلى الحروب الضارية التي على الأبواب، يستطيع أن يطلّ على الغد.

الملاحظ انحيازك لتفاصيل الأماكن – هذا واضح من وصفك الدائم لمدينتك وهران – إلى أي مدى يمكن لمكان ما أن يؤثّر فيك؟

أتساءل دوما إن كانت الأمكنة تنسانا عندما نتركها، لكن المؤكد أنها تسكننا أطول مما نسكنها، إننا نحملها أنّى رُحنا بكل عطرها وثقلها. كل مدن قارات العالم التي زرتها تركت فيّ أثرا ما، عديدة هي المدن والعواصم والحواضر التاريخية التي تحضر في رواياتي وكتبي الشعرية، لكن وهران مدينتي الأثيرة. كبرتُ قرب بحرها، كانت زرقته تؤنسني وترافقني في طريقي إلى المدرسة، والثانوية والجامعة، شكرا له، فقد كان – ربما دون أن يدري – بحنوه، وابتسامات أمواجه، وموسيقاه الزرقاء، يبدّد وحشة طفلة.

يقال إن شهرة أي كاتب تقاس بترجمة أعماله إلى اللغات الأخرى، ما حظك من الفعل الترجمي؟

حقا فالترجمة توسع أفق الكاتب في العالم، ويبدو أن حظّي جيدا فعديدة أعمالي الشعرية والروائية المترجمة إلى لغات أخرى، منذ أول كتاب صدر لي 1981 منها الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإسبانية والهولندية والإيطالية والصينية واليابانية والهندية.

تجيدين الإسبانية، كيف أثْرَت رومانسية وعجائبية هذه اللغة وواقعيتها السحرية روح نصوصك الشعرية والنثرية على حد سواء؟

منذ طفولتي اكتشفت متعة القراءة على يد والدي الذي كان أستاذا ومثقفا باللغتين، ومكتبتنا المنزلية تزخر بمؤلفات بالعربية والفرنسية في العلوم الإنسانية المختلفة التي مسني سحرها العجائبي من جول فيرنJules Verne إلى ألف ليلة وليلة، وابن طفيل، ورسالة الغفران… ثم ما إن تعلمت الإسبانية في المدرسة، حتى شغفت بها إلى الآن أقرأ بها وأترجم منها، لم تكن هذه اللغة غريبة عني، أحببت موسيقاها وعوالمها التي تشبه الخوارق والحكايات العجائبية التي كانت تعجّ بها حكاياتُ جدتي لالّة فاطمة الزهراء الندرومية. صوتُ جدتي هو أولُ كتاب مسموع لي، علمتني أن الابتكار الحقيقي هو أن تتخطى المعتاد، وتسابق خيالك نحو عوالم غير مسبوقة.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي