الأكاديمي المغربي محمد الحيرش: تهاوتْ في الوعي التأويلي المعاصر كلُّ علاقة تراتبية بين الذات والموضوع

متابعات - الأمة برس
2023-01-07

حاوره: عبداللطيف الوراري

محمد الحيرش باحث وأكاديمي مغربي متخصص في اللسانيات والتأويليات. صدرت له في هذا المجال: «النص وآليات الفهم في علوم القرآن: دراسة في ضوء التأويليات المعاصرة» (2013) و»أخلاقيات التأويل: من أنطولوجيا النص إلى أنطولوجيا الفهم» (2019) و»النسق والاستعمال: من لسانيات اللغة إلى لسانيات التواصل» (2021).

يتحدث الباحث هنا- عن عودة التأويليات ومساهمتها لترسيخ قيم الحداثة وآداب الحوار والانفتاح، وعلاقتها بدراسة التراث العربي- الإسلامي مع ما يستتبعه الأمر من مشكلات معرفية وأخلاقية ومنهجية، ويرى أن المدرسة المغربية ساهمت في ترسيخ القراءة الأبستيمولوجية المتأنية لهذا التراث، وضمنها «الإبدال التأويلي» بوصفه فكرا مراسيا ينفتح على الفلسفة والفيلولوجيا واللسانيات والتداوليات وعلوم النص، ويوجه طرائق تعامله مع الموضوعات المختلفة (فلسفية، دينية، لغوية، جمالية) بِحسٍّ أكاديمي مرن، ومتفلت من أي نزعة علموية أو دوغمائية متصلبة.

يلاحظ المتتبع أن هناك عودة ملحوظة إلى التأويليات (الهيرمينوطيقا) في الفكر العربي المعاصر، هل يمكن اعتبار هذه العودة بمثابة رد فعل ضد الانسداد الذي غدت تشكو منه عدة مناهج نقدية وفكرية في وقتنا الراهن؟ وإلى أي حد تمثل الإفادةُ اليوم من التأويليات أحد السبل القادرة على كسر ذلك الانسداد ومجاوزته؟

كل حديث عن العودة المتنامية إلى التأويليات في تجربتنا الفكرية العربية المعاصرة، يحتاج إلى قدر من التدقيق لتوضيح الاعتبارات والمسوِّغات التي تقف اليوم وراء عودة من هذا القبيل. ذلك أن ما يثير في هذا الخصوص هو كون الاعتبارات التي تستحكم في أشكال التفاعل التي أضحى الفكر العربي يقيمها بالتأويليات خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تختلف اختلافا بيِّنا عن تلك التي استحكمت في أشكال تفاعله السابق مع طائفة أخرى من مرجعيات الفكر الكوني وتوجهاته. وفي هذا الصدد سبق لي أن بينت في إحدى الدراسات التي نُشرت ضمن أعمال مؤتمر «التأويليات والفكر العربي» (دار الفاصلة للنشر، طنجة، 2020) كيف كان انفتاح أوائل الحداثيين العرب على توجهات فكرية كبرى كالليبرالية أو الماركسية أو الوجودية أو غيرها، نابعا من اقتناعهم بأنها تملك في ذاتها قدرة فائقة على تقديم الحلول والعلاجات المنشودة لكثير من المآزق التاريخية التي ظل يعاني منها الفكر العربي منذ قرون. ولهذا راهن الجيل الأول من الحداثيين العرب على تلك التوجهات، وتعامل معها على أساس أنها منظومات فكرية «حاسمة» تنطوي على ما يكفي من الأجوبة المطلوبة لمواجهة معضلات الفكر وتعقيدات الواقع؛ حيث مثلت هذه المنظومات لكثير من الحداثيين العرب ما يشبه سرديات فكرية جامعة (metanarratives) تتصف بالكمال، وتتسم تمثُّلاتُها بالوجاهة والنجاعة. غير أن ما كان لافتا حينئذ هو أن المرجعيات الفكرية الكونية التي اقتنع بكفاءتها جيل مبكر من الحداثيين سرعان ما اصطدمت بردود أفعال مضادة من قبل المتمسكين بالمرجعيات التقليدية، لاقتناعهم بأن في التراث أيضا متَّسَعاً من الحلول والأجوبة القادرة بدورها على تحقيق النهضة والتقدم. وهو ما أدى إلى انشطار الوعي النهضوي منذ البدايات إلى تيارين متدافعين: أحدهما يمثله من وُصفوا بدعاة التحديث كسلامة موسى، ولطفي السيد، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، وآخرين. والثاني يمثله من نُعتوا بالمحافظين، وبرز منهم مصطفى صادق الرافعي، وأحمد زكي باشا، وفريد وجدي، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا وغيرهم، وبذلك أفضى التدافع والصراع بين هذين التيارين، كما هو معروف، إلى مساجلات عنيفة وإلى آراء متباعدة حول عديد من أمهات القضايا الكفيلة بإخراج الفكر العربي من وضعية «التأخر» التي ظل يرزح تحت وطأتها على امتداد أحقاب طويلة. ومن ثم شكلت قضايا كالخلافة، ومصادر التشريع، والدولة المدنية، وتطبيق النظام الديمقراطي، وحرية المرأة، وغيرها بؤرا خلافية سعى كل تيار أن يوجد لها حلولا جاهزة، انطلاقا من المرجعية التي يستند إليها، وأن يدافع عنها ضد حلول المرجعية الأخرى وأجوبتها. الأمر الذي جعل حلول هذا التيار أو ذاك تقدم نفسها على أنها أَقْومُ نموذج فكري وأقدرُه على مغالبة أسباب «التخلف» وتجاوزها. لكن مع تعمُّق معرفة الأجيال اللاحقة بالمرجعيات الفكرية المذكورة وانفتاحها على مرجعيات أخرى مستجدة، تزحزحت مجموعة من الاقتناعات، وظهرت بوادر فكر نقدي يتسم بالميل إلى المراجعة والمساءلة، سواء في التعامل مع المنجز التراثي، أو في التفاعل مع مكتسبات الحاضر. فبدأت ترتسم تبعا لذلك ملامحُ شكل جديد لتلقي مرجعيات الفكر الكوني، وأخذ عديدٌ من المفكرين يستحضر حدود هذه المرجعيات وإمكاناتها، ويراعي سياقاتها المعرفية والتاريخية. وبذلك أصبحنا أمام فجوة فاصلة بين شكلين من تلقي المرجعيات الفكرية الكونية: شكل سابق ميزته الاستكانة في الغالب إلى هذه المرجعيات والأخذ الجاهز بمسلماتها (التقدم، التحرر، العقلانية، الحداثة، الديمقراطية، إلخ)؛ وشكل لاحق صار يتجه تدريجيا إلى إعمالِ النقد والمساءلة، إما بتأثيرٍ من الاعتقاد في نسبية تداولية تقضي بمراعاة سياقات الفكر العربي ومقتضيات أحواله، وإما بتأثيرٍ من كونيةِ المراجعات النقدية التي ما فتئت تتوسَّع في تجربة الفكر الإنساني وتتعمَّق.

ضمن هذا السياق إذن، وفي نطاق مستلزماته يأتي الانفتاح في وقتنا الحالي على التأويليات، فالمهتمون بها من الفلاسفة العرب أو من النقاد والمشتغلين بالعلوم الإنسانية والنصية، لا يسعون من خلال استلهامها والإفادة منها إلى تقديم أيِّ نوع من الأجوبة الشاملة أو النهائية للقضايا والإشكالات التي يُعنون بها. يُضاف إلى هذا أنهم لا يصدرون عنها كما لو كانوا قد اكتشفوا فيها صرحا فكريا «خارقا» يمدهم بالوصفات العلاجية المرغوبة، فالتأويليات لا تعدو أن تكون عندهم فكرا مِراسيا منفتحا واعيا أشد ما يكون الوعي بنسبية الفهوم والتقديرات التي ينتهي إليها وهو يبحث في المعاني، أو يتعمق في فهم اللغات والثقافات، أو يقرأ نصوصا قديمة أو حديثة. ومن ثم لن نعثر لدى المشتغلين العرب بالتأويليات في مختلف اجتهاداتها الفلسفية أو الفيلولوجية أو الثقافية على من يرى فيها ذلك الفكر «القوي» المتيقِّن من ذاته، والواثقِ في مصادراته وثوقا يفضي به تلقائيا إلى بلوغ تفسيراتٍ كافية لمُختلِف شؤون الفكر العربي وشجونه. إنها تبقى لدى أغلبهم أبعد ما تكون عن ذلك، لكونها لا ترتبط في الوعي التأويلي المعاصر بتشييد صروح من الوعود والتعهدات، ولا بتوخي تثبيت معان أو تأبيد حقائق، بل ترتبط أساسا بتوليد فهوم ممكنة وإبداعِ تأويلات منتجة. فما تتيحه التأويليات اليوم لا يعدو اقتراح شروطٍ تحفز على التفكير، وتدفع نحو البحث عن أنسب المسالك الموصلة إلى فهوم متجددة تتعارض مع كل ميل إلى تشييد الوثوقيات الأيديولوجية أو طلب اليقينيات المعرفية. وبهذا تظل التأويليات اليوم، باعتبارها معرفة من جهة، وقيما وأخلاقيات (ethics) من جهة ثانية، واحدا من الممكنات الاجتهادية المتاحة في تجربتنا الفكرية المعاصرة لتوسيعِ مساحات الإبداع والتجديد، والحد من تنامي أسباب الجمود والتقليد، إن في علاقتنا بخبراتنا الحياتية والوجودية، أو في ارتباطنا بماضينا وحاضرنا، أو في تمثلاتنا الفهمية لنصوصنا وسائر إنتاجاتنا.

يبدو أن اهتمامات التأويلية العربية تركَّزت في أغلب متونها على التراث القديم من جهة، وبدرجة أقل نسبيا على إنتاجات عصر النهضة والأزمنة الحديثة من جهة ثانية. ما طبيعة العلاقة التي تقيمها التأويليات بالتراث؟ وهل تعتقد أن الطريق إلى قيم الاختلاف والتسامح والتعدد وتنسيب الحقائق، هو المدخل لحلّ مشكلاتنا الوجودية والمعرفية في عصر السماوات المفتوحة؟

ينبغي في هذا الخصوص الإشارةُ إلى أن أبرز خاصية تميز التأويليات في الوقت الحاضر، هو أنها لا تصدر عن أيِّ نظرة استعلائية إلى التراث، ولا تنطلق من أيِّ موقف مشكِّكٍ في منجزات الماضي، أو مقلِّلٍ من قيمتها مثلما نلفي ذلك في بعض الخطابات الفكرية العربية، المستنِدة إلى تمثُّلٍ ضيق للحداثة وأصولها. التراث في تأويلية هيدغر M. Heidegger، على سبيل المثال، هو ذلك الفكر الذي لا ينفك يمضي ويعود إلينا بوجوه من التعدد والاختلاف. إنه لا يأتينا على صورة واحدة ثابتة ونهائية هي الصورة التي كرستها عنه الميتافيزيقا بمقولاتها الاختزالية والتنميطية، بل يأتينا على صور متباينة وهيئات متفاوتة. هذا التمثل الفلسفي للتراث، سبق أن تفاعل معه في فكرنا العربي المعاصر مفكر مغربي هو عبد السلام بنعبد العالي، وعمَّقه في عدد من أعماله كـ»التراث والاختلاف» و»أسس الفكر الفلسفي المعاصر» اللذين بحث فيهما جملةً من التصورات المتصلة بمراجعة مفهوم التراث وإعادة النظر في تحديداته. ذلك أن التراث أضحى في منظورات فلسفية وتأويلية متعددة، وبنحو أخص في الهيرمينوطيقا الفلسفية، يمثل للفكر تلك الجذور القبلية التي يتعذر مزاولتُه خارج استدعائها، أو دون الإحالة عليها. فالفكر لا يتحقق على هذا النحو النسقي أو ذاك إلا بما هو إحالةٌ متواصلة على جذوره وتقاليده، وحوارٌ مستمر معها؛ ولذلك لا يعرف التراث السكون والانقضاء من خلال ادعاءِ تطابقه مع أفق زمني مضى وانقضى. إنه يتمرد على كلِّ فهم يتوخى تثبيتَه في أفق من هذا القبيل، وتسييجَه داخله، إذ لو قبلنا بهذا الفهم المطابِق لكان مجموع ما انتهى إلينا من التراث قد استنفد نفسه ومضى إلى الزوال. التراث، على العكس من ذلك، يتسم بسمة «الاستمرارية» التي تتخذ في الهيرمينوطيقا الفلسفية شكلَ فُهومٍ أولى وآراء مسبقة (prejudices) يصعب استبعادُها أو تنحيتُها جانبا عند الخوض في تأويل أثر من الآثار، بل يتعين اختبارُها وفحصُ فعّاليتها الفهمية على محك الأشياء المؤوَّلة ذاتها. ومن ثم بات مستعصيا أن نصادف في السياقات الجديدة للوعي التأويلي المعاصر من يفترض وجود ذاتٍ مؤوِّلة خاليةِ الذهن من هذه الفهوم والآراء المسبقة التي تأتيها من الماضي، أو تكتسبها من الحاضر الذي توجد فيه. في حين كان فلاسفة الأنوار، ولاعتبارات تاريخية، قد وضعوا كلا من العقل والتراث على طرفي تعارض، ونظروا إلى مجمل المسبقات التي تنحدر إلينا من الماضي نظرة شك وارتياب؛ لأنها في رأيهم تناقض العقل وتشوِّش على استقلاله.

هذا الفهم التأويلي المتجدد للتراث شهد نقاشا فلسفيا عميقا من قبل كبار المتأوِّلة المعاصرين، حيث توقفت الفيلسوفة الأمريكية جورجيا وارنكي G. Warnke عند بعض تفاصيله في أحد كتبها الذي خصصته لتأويلية غادامر H-G. Gadamer، ودافعت فيه عن أن تصورنا لمفهوم العقل يتجذر في التاريخ، أي في التراث، وأنه تبعا لذلك لا معنى لإقامة فصل بينهما مثلما كان يقضي بذلك فكر الأنوار. وفي السياق نفسه كنت قد أفردت حيزا من كتابي حول «النص وآليات الفهم في علوم القرآن: دراسة في ضوء التأويليات المعاصرة» بينت فيه أن استبعادَ المسبقات التراثية هو استبعادٌ لمداخلنا القَبْليّة إلى كل ممارسة فهمية أو تأويلية؛ إذ يتعذر الحديث عن ذوات مؤوِّلة تُقدِم على فهم موضوع من الموضوعات وأذهانُها «مجرَّدة» أو «فارغة» من أي استفهامات ومسبقات تعود إما إلى عصرها الذي تعيش فيه، وإما إلى ما انحدر إليها من العصور والأحقاب السابقة.

انطلاقا من هنا، في أي حدود يمكننا، على سبيل التمثيل، أن نؤول المتنبي أو المعري أو غيرهما من شعرائنا القدامى؟ هل بفصلهما عن الأعراف الجمالية والإبداعية لعصرهما، وباستبعاد ما تقدم في الأحقاب الزمنية السابقة من شروح وآراءَ نقدية حول شعرهما؟ أم باستحضار هذه الآراء وتلك الأعراف من أجل الاسترشاد بها في اقتراح تأويلات وفُهومٍ مستجَدة؟

ما من شك في أن هذا النوع من الأسئلة يقبل الانسحابَ أيضا على نصوص أخرى من طبيعة دينية أو علمية أو فنية؛ إذ كيف يمكن لمن يأخذ على عاتقه تأويل القرآن في ضوء معارف العصر ومناهجِه أن يستبعد المصنفات التفسيرية للقدماء، أو أن يلغي «الذاكرة التأويلية» التي اقترنت بالوحي ولازمت أشكالَ فهمِه وتمثلِه عبر العصور؟ وكيف يمكن أيضا لمن يريد فهم أعمال علمية أو فلسفية أو فنية تعود إلى أزمنة قديمة أو حديثة، أن يتأتى له ذلك على نحو منتج ومناسب وهو يُجرِّدها من المحيط التأويلي لعصرها، أو يعدل بها إلى غير آفاقها الزمنية التي منها انبثقت وفيها أُنتجت؟ فعلى أساس أسئلةٍ من هذا النوع يغدو لمفهوم الأفق الزمني في الوعي التأويلي المعاصر دور فاعل في تبيُّن الفروق والتمايزات التي بها يختلف الفهمُ من عصر إلى عصر ويتفاوت؛ فوعيُ ذاتٍ مؤولة بأنها تنتسب إلى أفق زمني معين، واستيعابُها حدودَه وأبعادَه هما السبيلان اللذان يتيحان لها توسيع رؤيتها إلى أبعد مما هو قريب منها، وإلى أعمق مما هو لصيق بها ومألوف لديها. ذلك لأن عدم الوعي بالانتساب إلى أفق من هذا القبيل مدركٍ لحدوده وإمكاناته، وقادر على مقارنتها بحدود وإمكانات الآفاق الأخرى، سيمثل لكل قراءة أو تأويل عائقا لن يسمح لنا بأيِّ الضرب من النظر البعيد الذي يفتح أمامنا ممكناتٍ أخرى لفهم الأشياء ضمن أبعاد أكثر رحابة وأشد عمقا ووضوحا. إذ بهذا التدقيق تفيدنا التأويليات اليوم بأن نسبية الحقيقة التأويلية لا تتأتى من التصاقها المحايث بأفق زمني محدد، بل من كونها حصيلة آفاق زمنية لا تكف عن التفاعل بعضها مع بعض، ولا تتوقف عن التحاور والتجاذب. ولعلنا حين نتعمق في هذا التدقيق ونأخذه مأخذا جادا، فإنه لن تبدو لنا التأويليات كما لو كانت وصفة منهجية أو تقنية جاهزة للفهم، بل ستبدو لنا بوصفها مجالا واسعا من الاجتهادات التي يمكن استلهامها في التعامل مع مختلف ما يتصل بوجودنا من خبرات مادية أو معنوية، طبيعية أو رمزية، دينية أو دنيوية. ولهذا فلئن كان للتأويليات اليوم من مقترح تبسطه أمامنا فهو لا يعدو أن يكون طائفة من الشروط والحوافز التي تحملنا على التفكير بالمعية، أي على تفكير حواري يستدرجنا إلى توخي التنسيب، والإعلاءِ من قيمة الاختلاف، والتحلي بروح الإنصاف والتسامح، إذ ما لدينا اليوم غير هذه السبل للحد من أسباب الغلو والتشدد، والبحثِ لوجودنا الدنيوي في العالم عن تلكم الممكنات التي تجعله أكثر اعتدالا وإنسانية وأقلَّ غلواء وفظاظة.

أسهمت المدرسة التأويلية المغربية المعاصرة بفضل أعمال جيل الرواد من أمثال، عبد الكبير الخطيبي، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وطه عبد الرحمن، ومحمد مفتاح، وعبد الفتاح كيليطو، وعبد السلام بنعبد العالي، وغيرهم في ترسيخ قراءات أبستيمولوجية منفتحة ومتأنية لتراثنا التأويلي، ولمشكلات فكرنا الحديث والمعاصر.. كيف تُقيّم منجز التأويلية المغربية، إذا قيست بغيرها في المشرق أو في بلدان الجوار؟

لعل ما يميز المدرسة التأويلية المغربية، على نحو ما أرسى دعائمها جيل الرواد الذي تفضلت بذكر بعض أعلامه، أنها مدرسة متنوعة الاهتمامات ومتعددة المشارب. فعلى الرغم مما يطبعها من تنافس في الاجتهادات الفكرية ومن تفاوت في المرجعيات المعرفية، فإن العلاقة بين روادها تأسست على الاحترام المتبادل، وعلى الحوار العقلاني الذي يأبى النفي والإلغاء. وهي بهذا المعنى قامت على قدر من التسامح الذي امتنع معه الانجرار إلى عنف الاصطفاف الأيديولوجي الذي ميز تجارب عربية معروفة. قد تكون بعض الوقائع السجالية التي شهدتها التجربة المغربية مثيرة للاهتمام، لكنها لم تتعد آداب التنافس المحمود الذي يميز أي تجربة فكرية جادة. أتذكر في هذا الخصوص كيف استنكر مفكر مغربي ذات سنة من ثمانينيات القر، غياب أيِّ سجال بين المثقفين والمفكرين المغاربة، بل إنه ما زال إلى حدود الآن ينادي بين الفينة والأخرى بوجوب إعادة الاعتبار إلى «أدب السجال» لما يذكيه من حماسة في الفكر وحيوية في النظر. والحق أن الأعراف التي استقرت عليها التجربة المغربية لم تجعل من السجال المباشر واجهة خارجية ينعكس فيها الاصطراع بين توجهات واختيارات فكرية متنافسة، وإنما جعلت من الحوار المعرفي المحايث واجهة داخلية يستتر فيها التفاعل المتبادل بين تلك التوجهات والاختيارات. ولذلك لم يكن لتجربة فكرية بُنيت على أسس منفتحة ومستنيرة إلا أن تعبر عن نفسها على نحو أصيل بروح تنبذ العنف والتشدد، وتعلي من قيم التسامح والاختلاف والتعدد.

تقع دراساتك المنجزة ضمن «الإبدال التأويلي» الذي يرسخ نفسه بوصفه «فكرا مراسيا منفتحا» في علاقته بالفيلولوجيا والتداوليات وجماليات التلقي والدراسات الثقافية. كيف يمكن الاهتداء وسط عماء التأويلات وتضاربها التي تغشى واجهات عالمنا المعاصر، إلى آليات قادرة على الفهم وضبط أشكال الخبرة الإنسانية، دون أن يستنزف المؤوّلُ المعنى في نموذج لغوي فج، وبالتالي يعيد إنتاج سردية دوغمائية وغير متسامحة؟

من مساوئ الفهم التي ما زالت تحيط بالتأويليات أن البعض يتصورها كما لو أنها تخصص معرفي له موضوعه المستقل، ومناهجه الخاصة شأنه في ذلك شأن سائر التخصصات المنفردة كاللسانيات والسرديات والسيميائيات وغيرها. ولهذا حين نطلبها على هذا الأساس فإن توقُّعنا يخيب، لكونها لم تعد تخصصا يزود المؤولين بالقواعد والتقنيات المساعدة على الفهم مثلما تحددت قديما مع الإغريق أو مع مفسري الكتب المقدسة. إنها أضحت تتسم بطابع الكونية (l’universalité) بما جعلها تتبوأ منزلة أفق ناظم للفكر في زمننا الراهن.

وبهذا التخصيص اتجهت التأويليات، لا إلى التفكير في النصوص تفكيرا تقنيا يختزلها إلى موضوعات «ساكنة» خاضعة لإملاءات ذات عارفة مكتفية بنفسها ومتيقنة من وعيها، بل إلى التفكير فيها تفكيرا تفاعليا قوامه الحوار المتبادل بين ذاتية المؤوِّل وذاتية النص المؤوَّل. وبذلك تهاوت في الوعي التأويلي المعاصر كلُّ علاقة تراتبية بين الذات والموضوع، لتؤول إلى علاقة تذاوتية (intersubjective) يتاح فيها لذات المؤوِّل ولذات النص أن يشتبكا معا في سيرورة حوارية مفتوحة ومسترسلة. فالنصوص في هذا الوعي هي أساسا ذوات معبرة قادرة لا على التحدث عن نفسها حسب، بل على التفاعل مع غيرها من الذوات، وصوغِ رؤاهم إلى أنفسهم وإلى أشياء العالم من حولهم.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي