لصوص أبرياء

2023-01-10

رضا نازه

وصل القايد بْزَّاطْ نهاية أراضيه الشاسعة المترامية تراميا متبرجا مشهودا. التفت في جميع الاتجاهات لعله يملأ عينيه من طين أملاكه. انتهى بصره عند المستنقع حيث ينحدر الجبل الأخضر الصغير، وتغوص قدمُه في الأوحال. ما زال الناس هناك يتوارثون حكاية ذلك المكان في غابر الزمان. كان جنة أرضية يأوي إليها المتجردون من الدنيا للخلوة والعبادة في سهل دكالة. هناك كانوا يُرزقون من عند الله ويقتاتون على القطف وسمكٍ يملأ البحيرة، لا يأكلون حتى يجوعوا وإذا أكلوا لا يشبعون، حمية وتقللا. ثم كان أن حل هناك جيش سلطانٍ من بني وطاس وعسكر شهورا واستباح المكان وعاث فيه جنوده ودنسوه. تلوثت البحيرة بفضلات الجيش، بشرِه ودوابِّه. استحالت من يومها مستنقعا وصار ما حولها قاحلا، وهجر الطيبون المكان مثل عملة ثمينة طردتها من السوق عملةٌ رديئة..

كانت سيقان الخوص والحشائش المتكاثرة حول الماء الضحل تبدو من بعيد لبزاط رقيقة دقيقة كأهداب عين كبيرة، يملؤها وحَلٌ وماءٌ راكد عكِر. ركض بزاط بغلته حتى توقف عند المستنقع فمدت الدابة شنفرتها لتناول العشب. سحب اللجام ومنعها خشية أن تتقدم به. من يدري، فقد تخون اللزوجة قوائمَها فتسقطه هناك سقطة تصير حدثا يؤرَّخ به، وهل نُسِيَت ضرطة القايد حربوش الصاخبة التي سارت بذكرها الركبان. تأمل الجبل الأخضر الصلد الأصم. لم يبق من خضرته إلا الاسم. لولا أن الحقول والأطيان التي خلفه كانت لقائد أشرسَ منه لكان بزاط قد ضمها هي كذلك. ومن يدري أيهما يفعل ذلك، فقد يمكر هذا بذاك أو ذاك بهذا مستعينا بقانون طورينس للتطهير العقاري/العرقي، الذي جلبه المحتل من أستراليا، هو وأشجار الصفصاف المرير. أطلق بزاط نفَسَه العميق وشد يده على زمام بغلته المحظية. من فرط حبه إياها اشتق لها لقبا من لقبه. يناديها «بزاطة» رغم أن «بزاطة» تعني الوَلُود، بينما هي حيوان عقيم، مثل صاحبها الذي لم يرزق ولدا رغم تغيير فرُشه مرارا. نظر إليها بإعجاب شديد ثم أشاح عنها خشية أن يصيبها بعينه الشوساء الرمصاء المتعافية بالكاد من رَمَد قديم..

على مسافة من خلفه كان جمع مرافقيه ينتظرونه على بغالهم. من يستطيع أن يمتطي فرسه دون القائد. لا فارس في حضرة الباغل، إن جاز الاشتقاق. كانوا ينتظرون إشارته ليعودوا إلى الرِّكاب وكلٌّ يرجو أن تسلم له بقية يومِه مع الحاج. ينادونُه الحاج! رغم أنه لم يحج أبدا ولا ينوي الحج. منذ أن أخبره إمام المسجد الشاب بعفوية البدايات عن فرائض الحج وسننه وشعائره وآدابه وما يجب على الحاج ذهابا وإيابا، وأن وزر الحاج يكون مضاعفا بعد حجه.. قال له بزاط معقبا: « تقياديت هي حج القايد.. فهمتيني وْلَا لا السي الفقيه؟» ضحك بزاط ضحكا كلبيا حتى بدت لهواته وضحك الفقيه المُشارِط المسكين وأقر الحاج مع إيقاف التنفيذ، على كلامه، خشية أن يغري به من الأوغاد من يشهد زورا بأنه رآه بعينه في عقر المحراب متلبسا بأشياء من أمر الليل عند فلق الصبح..

امتطى بزاط ظهر بزاطة وركض جنبها فانطلقت وانطلق الذين معه في صف بغال واحد لا ينقصهم إلا إطلاق البارود. وهل تجوز الفانتازية دون خيل. عند وصوله سَيَّب بزاط بزاطة دون لجام ولا سرج ولبث يتأملها تتمرغ في التراب في طقسها المعروف، حين يزعجها العرق فتجففه بتيمم كبير على قدر حجمها، ثم دخل بيته وصرفَ مَن معه. وفي تلك الليلة اختفت بزاطة. كأنما أصابتها العين الشوساء الرمصاء وأدخلتها قِدرًا إن كان يطيبُ لحمُ البغال..

قامت الدنيا ولم تقعد من أجل بزاطة. وأزبد بزاط وأرعد وبإشارة منه اختفى اللصوص من الأسواق. هل تابوا ورحموا الناس من أذاهم؟ أم أن جلاوزة بزاط الذين يعرفون اللصوص لصا، لصا، تخطفوهم عن آخرهم ورموهم في الأصفاد حتى تظهر بغلة السيد. المهم أن الناس طيلة مدة البحث عن بزاطة عاشوا سعداء يتسوقون ويبيعون ويبتاعون كأنهم في مدينة فاضلة. كانوا مدينين لاختفاء البغلة في ذلك السلم الاجتماعي وفي ذلك الأمن وذلك الأمان. لبث الحال مدة شهر شعبان وأمطرت أواخرُه. وعند نهايته بزغت الشمس وظهرت البغلة فجأة تمشي متثاقلة بأحمال من وحل طري تغلف قوائمها. عانقها بزاط عناقا حارا غير مصدق أنها عادت. قاوم الدمع كيلا يؤذي عينَه الشوساء الرمصاء المتعافية بالكاد من رَمَد قديم. لبث قرب بغلته يناجيها وتناجيه، كأنه يتقن لغة البغال. كان يتأمل الأوحال العالقة بسيقانها ثم يعود لمناجاتها. كأنها تشرح له كيف أنها.. بعد عودتهم منذ شهر استبد بها وحمٌ دون حمل، وعادت إلى المستنقع بعد الفراغ من تيممها الكبير. كانت تريد أن تقضي نهمتها من الخوص والحشائش التي حرمت منها ثم ترجع بربانها الآلي، لكنها علِقت هناك وتصلب الوحل حول قوائمها وصفَّدَها تصفيدا. ولولا أن الحشائش والخوص والماء كان على مرمى شنفرتها لنفقت صبرا خلال أيام. ثم لما هطل المطر من جديد طاوعها الوحل الطري واستطاعت أن تفك قوائهما وتعود. ضحك بزاط من حكاية بغلته في ما يبدو. وحين تركها لتغتسل هذه المرة، سأله أحد أعوانه عن سبب ضحكه فأجاب: «لأن اللصوص الذين أعرفهم لصا، لصا كانوا لأول مرة أبرياء».

رغم ذاك. لم يطلق بزاط سراح لصوصه فورا كيلا ينغصوا على الناس شهر رمضان، حتى كان عيد فطرهم في الأسواق..

كاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي